لقد عظم الخلط بصدد الحب في يومنا هذا حتى صار من الصعوبة بمكان أن نجد تعريفات مقبولة متفق عليها للحب وما هو. نحن نعِّرف الحب بوصفه الشعور بالسعادة في وجود شخص آخر والتأكيد على أهمية قيمته وتطوره بقدر أهمية قيمة وتطور شخص المحب نفسه. ومن ثم فثمة دائماً وأبداً عنصران للحب -- أحدهما قيمة وجدارة الشخص الآخر، والآخر هو سعادة المحب نفسه وانشراحه في العلاقة مع الآخر.
وتفترض القدرة علي الحب وجود إدراك النفس أو الوعي بالذات، لأن الحب يتطلب القدرة علي التقمص الوجداني التعاطفي مع الآخر وتقدير وتوكيد إمكانياته. أيضا يفترض الحب وجود الحرية، وبالتأكيد فالحب الذي لا يُمنح في سخاء وحرية ليس حباً. أن "تحب" شخصاً لأنك لست في حل من حب شخصاً آخر أو لأنك وجدت نفسك عبر علاقة عائلية ما في إطار واحد معه، فهذا ليس حباً. الأهم انه لو أحب المرء لأنه لا يستطيع العيش دون الآخر فهذا يعني أنه لا حرية اختيار في هذا الحب إذ لا يستطيع المرء أن يختار ألا يحب. والعلامة المميزة لهذا الحب غير الحر هو أنه لا تفرقة فيه، بمعنى أنه لا يميز سمات وخصال وكيان المحبوب في ذاته عن الشخص التالي أو عن غيره من الناس في مثل هذه العلاقات. فهذا الشخص الذي يزعم أنه يحبك لا يراك في ذاتك – ربما أنت لا تفرق عن شخص آخر. في هذه العلاقات لا يتصرف المحب ولا المحبوب كأشخاص فالأول ليس شخصاً يتحرك في حرية مقبولة وما الأخير إلا موضوعاً للتعلق ليس إلا.
وثمة أنواع عديدة من الاعتمادية تحدث في مجتمعنا وتتخفى علي أنها حب وتمتلئ بالعديد من الأشخاص الفارغين والأشخاص الذين يعانون من الوحدة والقلق، وهي تتراوح بين أشكال مختلفة من المساعدة المتبادلة أو الإشباع المتبادل للرغبات (وهو أمر من الجيد لو أسميناه باسمه الصحيح) إلى مختلف الأشكال العملية من علاقات البشر والتي تنتهي عند العلاقات الطفيلية الماسوشية الصريحة. ويحدث مراراً أن يرتبط شخصان يشعران بالوحدة والفراغ في إطار صفقة غير مكتوبة كي يبتعد كل منهما عن آلام العزلة. وصف ماثيو أرنولد هذه العلاقة بروعة في قصيدته "شاطئ دوفر":
آه أيها الحب دعنا نكون صرحاء
بعضنا البعض!
فالعالم الذي يبدو ممتداً أمامنا مثل أرض الأحلام
جديداً شديد التنوع والجمال،
بالحقيقة لا يوجد فيه الفرح ولا الحب ولا النور
ولا اليقين ولا السلام ولا المساعدة عند الألم؛
وما نحن إلا بشر نتخبط في الظلام.
فعندما ننخرط في الحب لغرض قهر الوحدة، إنما يتحقق الهدف فقط بثمن عال وهو زيادة خواء وكل فرد موجود في العلاقة. وكما قلنا من قبل نحن عادة ما نخلط بين الحب والاعتمادية، إلا أنه في الواقع لا يمكنك أن تحب إلا بمقدار قدرتك على الاستقلال. طرح هارى ستاك سوليفان هذا الموضوع في وضوح قائلاً "أنه ليس بوسع الطفل أن يتعلم أن يحب إلا وهو على مشارف البلوغ. يمكننا أن نجعله يتصرف كما لو كان يفعل، أو يبدو لنا كذلك بطريقة نصدقها، لكن بدون قاعدة حقيقية. ولو استمررنا نصر على ذلك فسوف نحصل علي نتائج جد سيئة الكثير منها يتسم بالعصاب (مضطرب ومرضي)."
بمعني آخر فأنه إلى أن يبلغ المرء هذا العمر فإن قدرته علي إدراك وتوكيد الآخرين لن تكون ناضجة بما يكفي للحب. فكطفل رضيع وطفل صغير يعتمد المرء علي أبويه اعتماداً شديداً، وقد يكون جد مغرماً بهما ويحب أن يكون معهما وهكذا. ولابد أن يتمتع الآباء والأبناء بهذه العلاقة ويتذوقوا الفرح والسعادة التي تجلبها. لكن من السليم والأفضل أيضاً للآباء في مسألة خفض حاجتهم للعب دور الرب ونزعتهم إلي أن يعطوا أنفسهم الأهمية القصوى في المخطط الطبيعي في حياه طفلهما، من الأفضل لهما أن يلاحظا أيضاً الدفء التلقائي والحنان الذي يظهره الطفل عندما يتعامل مع الدب الدمية أو العروسة أو فيما بعد مع الحيوان الأليف الذي يرعاه وعادة أكثر مما يظهر في علاقاته مع البشر. فالدمية الدب أو العروسة لا يطالبانه بشيء، وهو ويستطيع أن يسقط عليهما كل ما بوده وليس عليه أن يجر نفسه ليفعل أشياء لا يقدر عليها أو لا يحبها بقدر درجة نضجه، ومن ثم ليس عليه أن يتعاطف وجدانياً مع احتياجاتهما. والحيوان الأليف هو خطوة وسيطة بين الموضوعات غير الحية والبشر. وتمثل كل خطوة من خطوات الاعتمادية الثلاثة؛ الاعتمادية ثم الاعتمادية المتبادلة ومن ثم الاستقلال، تمثل الطور التطوري في قدرة الطفل علي إنضاج قدرته على الحب.
وكما أشار إريك فروم وآخرين فإن أحد الأشياء التي تعيق بشدة قدرتنا علي تعلم الحب في مجتمعنا هي "نزعة السوق" السائدة، أي نستخدم الحب بطريقة البيع والشراء. وتظهر أحد الأمثلة الواضحة هذه النزعة في توقع معظم الآباء أن يحبهم الطفل كنوع من رد الجميل لأنهم يعتنون به. الأمر الأكيد هو أن الطفل سيتعلم أن يدعي بعض الأفعال الدالة علي الحب لو أصر الآباء عليها، لكن عاجلاً أو آجلاً سيظهر أن الحب المطـَالب به في مقابل شيء ما هو ليس حباً علي الإطلاق. أنه مثل منزل الرمال الذي نبنيه علي شاطئ البحر، وسرعان ما سينهار في صدمة مروعة عندما يبدأ الأطفال في دخول مرحلة البلوغ والشباب. فلماذا بالضرورة ترتبط واقعة حماية ورعاية الأبوين للطفل وإرساله إلى المدرسة ثم للكلية بمحبته لهم؟ فعلى مثل هذا الأساس يكون من المنطقي أن نقول أن علي الابن أن يحب رجل الشرطة الذي ينظم المرور في الميدان القريب من منزله لأنه يحميه من حوادث الطريق أو أن يحب جاويش الجيش المسؤول عن توصيل الطعام إليه أثناء فترة تواجده في الجيش!
واحد من الأشكال الأكثر عمقاً وأشد خطراً لهذا النوع من الحب المدفوع الثمن هو أن الطفل لابد أن يحب الوالد لأن هذا الأخير قد ضحي من أجله. لكن التضحية قد تكون ببساطة شكل آخر من أشكال المقايضة والمساومة وقد لا يكون لها أي علاقة بتأكيد قيمة وتطور الشخص الآخر (المحبوب).
وهكذا نحن نتلقي الحب من أطفالنا ومن الآخرين، ليس كمردود لمطالباتنا أو تضحياتنا أو احتياجاتنا لكن بشكل عام كمردود لقدرتنا علي الحب. وتعتمد قدرتنا علي الحب بدورها علي قدرتنا السابقة علي أن نكون أشخاصاً مستقلين في ذاتهم. أن نحب يعني بصفة أساسية أن نعطي، ولكي نعطي لابد أن نكون ناضجين قادرين علي الإحساس بأنفسنا. يظهر الحب في عبارة سبينوزا التي أوردناها من قبل وهى أن الحب للرب حقاً لا يتطلب حباً في المقابل. أنه السلوك المشار إليه في قول الفنان جوزيف بيندر "يتطلب إنتاج الفن أن يستطيع الفنان الحب، أي أن يعطي بدون التفكير في المكافأة".
لكننا نحن هنا لا نتكلم عن الحب كتضحية بالذات أو إنكار للذات. فالمرء يعطى فقط عندما يكون لديه ما يعطيه، فقط لو كان لديه أساس من قوة بداخل نفسه فهو من هذا الأساس يعطي. من المؤسف حقاً في مجتمعنا أننا في محاولتنا لتنقية الحب من العدوان والانتصار التنافسي قد اضطررنا لربطه بالضعف. وفي الواقع فقد نجح هذا اللقاح بشدة حتى انتشر الاعتقاد بين الناس وشاع أنه كلما ضعف البشر كلما زاد حبهم وأن القوى لا يحتاج إلى الحب! ولا عجب أن قد تم الازدراء بالحنو وهو الخميرة التي بدونها لا ينمو الحب ويصير مثل الخبز الذي لم ينفش، وغالباً ما تم فصله عن تجربة الحب.
أن ما ننساه هنا أن الحنو يسير جنباً إلى جنب مع القوة: فالمرء يسعه أن يكون حانياً رقيقاً كلما كان قوياً، وإلا صار الحنو والرقة قناعاً يتخفى خلفه التعلق والتطفل. ويوضح لنا الحقيقة جذر الكلمة اللاتيني Virtue أو الفضيلة، والحب فضيلة بالتأكيد، حيث تأتي الكلمة من الجذر Vir أو الرجل ومنها تنبع أيضاً كلمة Virility أي الرجولة. وقد يتساءل بعض القراء "ألا يفقد المرء نفسه في الحب؟" أكيد أنه في الحب مثلما في الوعي الإبداعي يمتزج المرء بالآخر. لكن لا يجب أن نسمي هذا فقدان لذواتنا. فمثله مثل الإبداع الواعي هو أعلي درجات تحقيق الذات. فعلى سبيل المثال، عندما يكون الجنس تعبيراً عن الحب فإننا نجد أن الشعور الذي نمر به عند لحظة النشوة ليس العداء ولا الانتصار وإنما الاتحاد مع الآخر. لم يكذب علينا الشعراء حين غنوا عن النشوة في الحب. فمثلما النشوة في الإبداع سنجد أنها لحظة تحقيق الذات عندما يستطيع المرء لحظياً أن يقفز فيتجاوز حاجز الهوية الفاصل بينه وبين الآخر. أنه منح الذات واكتشاف الذات في آن واحد. تمثل هذه النشوة أكمل لحظات تبادل الرعاية في العلاقات الإنسانية. وتظهر نفس هذه المفارقة، مثلما في الوعي الإبداعي، في أنه بوسع المرء فقط أن يمزج ذاته في نشوة فقط لو كان قد أكتسب القدرة قبلاً علي الوقوف منفرداً وأن يكون شخصاً في ذاته.
لا نريد أن تكون هذه المناقشة نوعاً من الإرشاد نحو بلوغ الكمال. ولا نعني قط أن نقلل أو نلغي كل أنواع العلاقات الإيجابية مثل الصداقة (والتي قد تكون أيضاً أحد الجوانب الهامة في علاقة الأهل بالأبناء) والدرجات المختلفة من تبادل الدفء البشرى والفهم والتشارك في المتعة الجنسية والغرام وهكذا. دعونا لا نقع في الخطأ الشائع في مجتمعنا الذي يجعل من الحب في شكله المثالي أمراً مهماً كل الأهمية بحيث لا يسع المرء إلا أن يعترف أنه لم يجد قط "الدرة المكنونة" أو يلجأ للنفاق فيخبر نفسه أن كل ما يشعره من مشاعر هو"الحب"، إنما بوسعنا فقط أن نكرر: دعونا نسمي المشاعر بأسمائها الحقة. ولسوف نتعلم حقاً كيف نحب لو توقفنا عن محاولة إقناع أنفسنا أن الحب سهل وكنا جد صادقين في إلغاء كل الأقنعة الوهمية التي تتخفى علي أنها حب في مجتمعنا وهي لا علاقة لها بالحب من قريب أو بعيد.