جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
طريق الحج الشامي
أ. د. السيد محمد الدقن
ينفرد طريق الحج الشامي بخاصية معينة من بين طرق الحج عبر التاريخ، وهي أن هذا الطريق م يرتبط ظهوره بالفتح الإسلامي لبلاد الشام مثل غيره، بل كان مطروقا منذ الجاهلية؛ حيث ارتبطت بلاد الحجاز بالشام بروابط اقتصادية تمثلت في القوافل التجارية التي أشار إليها القرآن الكريم "رحلة الشتاء والصيف". وبعد أن فتحت بلاد الشام واستقر الأمر للدولة الإسلامية كانت مواكب الحجيج تسلك ذات الطريق المعروف منذ الجاهلية في الأماكن المقدسة.
وقد ظل هذا الطريق يؤدي مهمته المقدسة إلى يومنا هذا مع اختلاف في حجم حركة النقل عبره باختلاف نوعية وسائل المواصلات وتطورها، غير أنه يلاحظ أنه قد طرأ على هذا الطريق بعض العقبات التي حالت دونه ودون تأدية مهمته، وذلك لمدة تربو على القرنين بقليل إبان الحروب الصليبية التي تسببت في توقف سير القوافل عبر ذلك الطريق من حوالي منتصف القرن الخامس الهجري إلى ما بعد منصف القرن السابع الهجري بقليل، ثم عادت المسيرة من جديد بعد توقف الحروب الصليبية وطرد الصليبيين من الشام.
وعلى الرغم من توقف المسيرة على ذلك الطريق غير أن قوافل الحج الشامي لم تتوقف بل استخدمت الطريق البديل إبان الحروب الصليبية، فكما استخدم الحجاج المصريون طريق عيذاب، كما تم إيضاحه في المقال السابق، خلال تلك الفترة، فإن قوافل الحج الشامية استخدمت طريق الحج العراقي خلال نفس الفترة، وهذا التبادل بين طرق الحج تكرر أكثر من مرة، ذلك أنه أثناء فترة الفوضى التي أحدثها القرامطة الذين وصل عبثهم إلى طريق الحج العراقي، تحول حجاج شمال العراق وغربه إلى طريق الحج الشامي، وقد حدث مثل ذلك إبان الغزو التتاري للعراق.
وقد كان لطريق الحج الشامي رافدان: داخلي من دمشق إلى معان وتبوك فالمدينة المنورة، ورافد آخر فرعي من جنوب فلسطين إلى العقبة ويلتحم بدرب الحج المصري فبساحل البحر الأحمر إلى ينبع النخيل أو البخر فالمدينة المنورة أو مكة المكرمة، وكان يعرف هذا الطريق " بدرب غزة". وقد ظل هذا الوضع طيلة حكم المماليك لمصر والشام حتى ظهر الأتراك العثمانيون وامتد الإسلام نحو آفاق جديدة في الشمال عندئذ ظهر رافد جديد أخذ يغذي طريق الحج الشامي، وقد كان هذا الرافد يمتد بمنابعه في آسيا الوسطى وشبه جزيرة البلقان، وفي بلاد الصرب والبلغار؛ مما أدى إلى تدفق الحجيج خلال هذا الطريق.
وقد اهتم العثمانيون اهتماما فائقا بهذا الطريق فشيدوا القلاع لتأمينه، وحفروا الآبار وبنوا البرك والخزانات خدمة للطريق وتسهيلا لمسيرة الحجيج.
وفي مطلع القرن العشرين أنشئت سكة حديد الحجاز عبر هذا الطريق تسهيلا وتيسيرا لمواكب ضيوف الرحمن، فكان هذا المشروع من أجل بل أعظم الأعمال الإسلامية التي شهدها العالم الإسلامي في تاريخه الحديث والمعاصر؛ حيث كان رمزا حيا وتجسيدا عمليا للوحدة الإسلامية والتضامن إسلامي.
ويمكن القول بأن طريق الحج الشامي قد مر بخمس مراحل تبدلت خلالها مسالك هذا الطريق ووسائله؛ إما لظروف أمنية ، وإما لتقدم وسائل النقل واتجاه الحجيج إلى استخدام الوسائل الأخرى الأكثر أمانا والأقل تكلفة، وهذه المراحل هي:
المرحلة الأولى
وتبدأ هذه المرحلة منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام واستقرار الدولة إلى الغارة الصليبية على الشام واحتلاله في منتصف اقرن الخامس الهجري؛ حيث سلكت مسيرة الحج الشامي خلال هذه المرحلة نفس طريقي رحلتا الشتاء والصيف قبل ظهور الإسلام، وهما: الطريق الداخلي الذي يمر بالمدينة المنورة فتبوك ويصل إلى بصرى الشام ودمشق، والطريق الساحلي الذي يسمى "طريق المعرفة".
المرحلة الثانية
وقد استغرقت هذه المرحلة ما يزيد على القرنين بقليل خلال فترة الاختلال الصليبي للشام من منتصف القرن الخامس الهجري إلى ما يتجاوز القرن السابع الهجري بقليل. وقد تعرض طريق الحج الشامي خلال هذه الفترة لقرصنة الصليبيين؛ فاضطر حجاج الشام إلى الابتعاد في مسارهم إلى الداخل، بل اتجه الكثيرون منهم إلى مرافقة موكب الحجاج العراقيين، وقد ظل الأمر كذلك حتى إجلاء الصليبيين عن الشام في منتصف القرن السابع الهجري تقريبا.
المرحلة الثالثة
وقد بدأت هذه المرحلة بعد انتهاء الحروب الصليبية واستقرار الأمور في بلاد الشام، فعادت مسيرة الحجاج الشاميين إلى الطريق القديم، وقد استغرقت هذه المرحلة فترة الحكم المملوكي لمصر والشام، وقد حج في هذه المرحلة الرحالتان ابن رشيد الأندلسي، وابن بطوطة وسجلا منازل الحجيج على هذا الطريق؛ مما أضفى وضوحا على معالمه.
المرحلة الرابعة
يمكن القول أنه بدأت هذه المرحلة مع اتجاه العثمانيين إلى الشرق الأوسط وبسط سيطرتهم على العالم العربي بعد موقعة مرج دابق في الشام عام 1516 م، وموقعة الرايدنية بمصر عام 1517 م. وتعتبر هذه المرحلة الرابعة امتدادا للمرحلة الثالثة، غير أنها تتميز عن سابقتها بمظهرين اثنين، الأول وهو ازدياد عدد الحجاج على هذا الطريق؛ نتيجة ظهور رافد جديد يتمثل في حجاج الأناضول وشبه جزيرة البلقان والصرب والبلغار، والثاني هو اهتمام العثمانيين بتعمير هذا الطريق وصيانته وإقامة المنشآت عليه وتأمينه، وقد حج في هذه المرحلة العديد من الرحالة من أمثال الموسوى المدني سنة 1039 هجريا، والخياري سنة 1080 هجريا، والزياني سنة 1208 هجريا، وقد استمرت هذه المرحلة حتى مطلع القرن العشرين الميلادي.
المرحلة الخامسة
بدأت هذه المرحلة مع مستهل القرن العشرين، وارتبط ظهورها باتجاه السلطان عبد الحميد الثاني إلى تزعم فكرة المناداة بالجامعة الإسلامية؛ حيث كان مشروع سكة حديد الحجاز، فتطورت وسيلة نقل الحجيج من قوافل الإبل إلى القطارات، التي حققت لضيوف الرحمن الأمن والراحة وتقليل النفقات واختصار المدة الزمنية، فقد كانت قوافل الإبل تقطع المسافة من دمشق إلى المدينة المنورة في حوالي أربعين يوما، فاختصرت هذه المدة إلى أربعة أيام فقط.
ربي اغفر وارحم عبدك السيد محمد الدقن وزوجته - نسألكم الفاتحة والدعاء وجزاكم الله خيرا ولكم بمثل ما دعوتم
ساحة النقاش