جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
كسوة الكعبة المعظمة في العصر العباسي- أ.د.السيد محمد الدقن
اهتم الخلفاء العباسيون بكسوة الكعبة المشرفة اهتمامًا كبيرًا فأمروا بصنعها من أجود أنواع الحرير؛ وكانت تصنع في مدينة تنيس المصرية ، التي كانت لها شهرة عظيمة في المنسوجات الثمينة، وكانت توجد أيضا قريتان من أعمال تنيس وهما: تونة وشطا ، اشتهرتا أيضا بصنع هذا الطراز التنيسي، ومن ثم فقد صنعت كسوة الكعبة في كل منهما أيضا، فيذكر المقريزي في خططه أن الخليفة العباسي المهدى أمر بصنع كسوة الكعبة المشرفة من القباطي المصرية من طراز تنيس؛ وأن الفاكهي قد شاهد تلك الكسوة وتحدث عنها في كتابه (أخبار مكة) قائلا: « ورأيت كسوة من قباطي مصر مكتوبًا عليها: بسم الله بركة من الله، مما أمر به عبدالله المهدى محمد أمير المؤمنين أصلحه الله محمد بن سليمان: أن يصنع في طراز تنيس كسوة الكعبة على يد الخطاب بن مسلمة عامله سنة تسع وخمسين ومئة.
وفي سنة 160هـ، حج الخليفة المهدي فذكر له سدنة الكعبة أن الكساوى كثرت عليها، والبناء ضعيف ويخشى عليه أن يتهدم من كثرة ما عليه؛ فأمر بتجريدها مما عليها؛ وألا يسدل عليها إلا كسوة واحدة، ثم أمر فطلي البيت كله بالخلوق الغالية والمسك والعنبر، ويصف لنا سادن الكعبة حينئذ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الحجبي ما حدث في تلك السنة من تجريد للكعبة مما عليها من كسى قديمة وغسلها وتطييبها بأفخر أنواع الطيب ثم كسوتها بثلاث كسوات في وقت واحد، فيقول: وصعدنا على ظهر الكعبة بقوارير من الغالية فجعلنا نفرغها على جدران الكعبة من خارج جوانبها كلها، وعبيد الكعبة قد تعلقوا بالبكرات التي تخاط عليها ثياب الكعبة، ويطلون بالغالية جدرانها من أسفلها إلى أعلاها». ثم أفرغ عليها ثلاث كسي من قباطي وخز وديباج، وقد وزع الخليفة المهدي في هذه السنة أموالا عظيمة على أهالي مكة والمدينة قدرت بحوالي ثلاثين ألف ألف درهم حملها معه، هذا بالإضافة إلى دنانير كثيرة وصلت إليه من كل من مصر (300 ألف دينار ) ومن اليمن (200 ألف دينار)، كما وزع في المدينتين حوالى 150 ألف ثوب، وبذلك يكون المهدي أول من كسى الكعبة ثلاث كسوات فوق بعضها البعض.
وفى سنة 162هـ، أمر الخليفة المهدي بصنع كسوة أخرى للكعبة المعظمة شاهدها الفاكهي وتحدث عنها أيضا في كتابه: (أخبار مكة) وكان مكتوبا عليها: « بسم الله بركة من الله لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- مما أمر به إسماعيل بن إبراهيم أن يصنع في طراز تنيس كسوة الكعبة على يد الحكم بن عبيدة سنة اثنتين وستين ومئة.
ولما كان عهد الخليفة هارون الرشيد أمر بأن تصنع كسوة الكعبة من قباطي مصر أيضا فصنعت كسوة سنة 190هـ، رآها الفاكهي وأشار إليها في كتابه السابق وكان مكتوبا عليها: « بسم الله بركة من الله للخليفة الرشيد عبد الله هارون أمير المؤمنين أكرمه الله ما آمر به الفضل بن الربيع أن يعمل في طراز تونة إحدى القرى التابعة لتنيس سنة تسعين ومئة».
كما صنعت كسوة أخرى في سنة 191ه، رآها الفاكهي أيضا كان مكتوبا عليها: « بسم الله بركة من الله لعبد الله هارون أمير المؤمنين؛ أطال الله بقاءه مما أمر الفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين بصنعته في طراز شطا إحدى القرى التابعة لتنيس كسوة الكعبة سنة إحدى وتسعين ومئة».
ولم يقتصر الاهتمام بكسوة الكعبة المعظمة على خلفاء بني العباس بل تعداهم إلى وزرائهم، فإننا نجد بعض الكسي - في عهد الخلفاء العظام- تحمل أسماء وزراء بني العباس، يقول الفاكهي في (أخبار مكة): « ورأيت كسوة مما يلي الركن الغربي يعني من الكعبة مكتوبًا عليها: مما أمر به السرى بن الحكم و عبد العزيز بن الوزير الجروي بأمر الفضل بن سهل ذي الرياستين؛ و طاهر بن الحسين سنة سبع وتسعين ومئة.
وأيضا فإننا نجد الخارجين على بني العباس حين تمتد سيطرتهم على مكة المكرمة كانوا يقومون بعمل كسوة للكعبة؛ ففي سنة 200هـ قدم إلى مكة حسين بن حسين الأفطس الطالبي العلوي إبان الفتنة، وملك مكة ودخل الكعبة وجردها من جميع الكسى التي عليها وأخذها ثم كساها كسوتين من قز رقيق إحداهما صفراء والأخرى بيضاء مكتوبا عليهما: « بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آهل بيته الطيبين الطاهرين الأخيار، أمر أبو السرايا الأصفر بن الأصفر داعية آل محمد بعمل هذه الكسوة لبيت الله الحرام».
فلما كانت خلافة المأمون رفع إليه أن الديباج الأحمر يبلى ويتخرق قبل الكسوة الثانية فسأل مبارك الطبري مولاه وهو يومئذ على بريد مكة وصوافيها: في أي كسوة تكون الكعبة أحسن؟ فقال له في البياض فأمر بكسوة من ديباج أبيض فصنعت وعلقت على الكعبة المعظمة سنة206هـ، يقول الفاكهي: « ورأيت شقة من قباطي مصر في وسطها إلا أنهم كتبوا في أركان البيت بخط دقيق أسود: مما أمر به أمير المؤمنين المأمون سنة ست ومئتين.
فكانت الكعبة بذلك تكسى ثلاث كسوات في ثلاثة أوقات خلال السنة الواحدة، وبذلك يكون الخليفة المأمون هو أول من فعل ذلك، فكانت الكعبة تكسى بالديباج الأحمر يوم التروية، وتكسى القباطي يوم هلال رجب، وتكسى الديباج الأبيض الذي أحدثه الخليفة المأمون يوم سبع وعشرين من رمضان استعدادا لاستقبال عيد الفطر المبارك، ثم رفع إلى المأمون أن إزار الديباج الأبيض يتخرق ويبلى في أيام الحج من مس الحاج قبل أن يخاط عليها إزار الديباج الأحمر في عاشوراء؛ فبعث بفضل إزار من ديباج أبيض تكساه يوم التروية؛ أو يوم سابع يستر به ما تخرق من الإزار الذي كسيته للفطر إلى أن يخاط عليه الإزار الأحمر، وفى عهد الخليفة جعفر المتوكل على الله رفع إليه سنة 240هـ، أن إزار الديباج الأحمر يبلى قبل هلال رجب من الناس وتمسحهم بالكعبة، فزادها إزارين مع الإزار الأول وأسبل قميص الديباج الأحمر حتى بلغ الأرض، وجعل الإزار فوقه في كل شهرين إزار ثم نظر الحجبة، فوجدوا أن الإزار الثاني لا يحتاج إليه فرفع في تابوت الكعبة وكتبوا إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله أنه يكفى إزار واحد مع ما أسبل من قميصها، فصار يبعث بإزار واحد؛ فتكساه بعد ثلاثة أشهر، ويكون الذيل ثلاثة أشهر، وأمر بإذالة ( إسبال ) القميص حتى بلغ الشاذروان الذي تحت الكعبة في سنة 243هـ.
وقد أحصى الأزرقي عدد الكساوى التي كسيت بها الكعبة المشرفة في الفترة من سنة 200هـ، إلى سنة 244هـ، فوجدها 170 كسوة، يقول: « وابتدأت كسوتها من سنة المئتين وعدتها إلى سنة أربع وأربعين ومئتين مئة وسبعون ثوبًا) ويتضح لنا مما قاله الأزرقي أن الكعبة كانت تكسى في السنة الواحدة أكثر من كسوة يصل أحيانا إلى أربع كسوات، ويرجع ذلك كما يتضح من العرض السابق إلى أن القماش الذي كانت تصنع منه الكسوة لم يكن يتحمل العوامل المناخية من أشعة الشمس الحارقة في فصل الصيف إلى الأمطار والرياح في الشتاء، الأمر الذي جعل أولي الأمر يبادرون إلى إرسال الكسى المختلفة في أوقات مختلفة من السنة، أما بعد أن تقدمت صناعة الكسوة وأصبحت على درجة عالية من القوة والمتانة؛ فقد اكتفي بإرسال كسوة واحدة في السنة كما هو حاصل إلى اليوم.
المصدر: أ.د.السيد محمد الدقن(المؤلف)، أ.د. نظير محمد عياد(تصدير) - كتاب كسوة الكعبة المعظمة عبر التاريخ (الجزء الأول)، مجلة الأزهر عدد ذو القعدة 1443- يونيو2022
ربي اغفر وارحم عبدك السيد محمد الدقن وزوجته - نسألكم الفاتحة والدعاء وجزاكم الله خيرا ولكم بمثل ما دعوتم
ساحة النقاش