(التاريخ الحاضر ... الغائب) ... (16)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْر أَسْبَاطاً أُمَماً (8)
لو أن للتاريخ صوت ... فهو كما نقش على الحجر بارزاً أو غائراً ... حفظ ماهو أعمق وصان ما هو أثمن وأبقى فجسد الحكمة ورسخ العبرة وبقى معلماً رغم كل محاولات الطمس ... وأحتفظ بخزينته دوما لا تفتح إلا لمن يعمل عقله ويتأمل ما يقرأه ... لو أن للتاريخ صوت لتحدث صراخاً
لازلنا فى عصر القضاة ... ما بعد وفاة النبى موسى عليه السلام والنبى يوشع بن نون عليه السلام ... بعد أن وزعت الأرض المقدسة وسكنها بنو إسرائيل متجاورين مع سكانها الأصليين (الفلسطينيون والكنعانيون والحيثيون والمؤابيون والاراميون ..... الخ)
هذا العصر الذى تميز بجنوح سبط أو سبطين من بنى إسرائيل لمخالفة تعليمات أنبيائهم (موسى ويوشع بن نون) فيخالطوا ويناسبوا من حولهم من أقوام وأمم وثنيين وتدريجيا يتجهوا إلى الوثنية فيسلط عليهم الله ممن حولهم من يستعبدهم ويسخرهم لخدمته ... فيفيقوا ويرجعوا ويتوسلوا لله ويستغفروه فيقيض لهم قاضياً يترأس السبط أو السبطين ويستحثهم ويحرضهم على الرجوع لتعاليم الله ويقاتل بهم من يستعبدهم حتى ينصرهم الله عليه ويكون قاضيا أو رئيسا لهم .... وبعدها بفترة من الزمن تتكرر القصة فى مكان آخر وسبط آخر وقاض آخر ... لم يكن بنو إسرائيل أمة واحدة بل كانوا كما يصفهم التعبير القرآنى المبهر
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْر أَسْبَاطاً أُمَماً
كانت حالة غير عادية من الفوضى والفساد هى السائدة ... وحالة من الضلال من الصعب تفسيرها منطقياً ... فعندما نتحدث عن ضلال بنى إسرائيل أثناء خروجهم من مصر بقيادة موسى وتفاصيل ما حدث من طلبهم تماثيل لله وعبادة العجل ومن طلبهم رؤية الله ومن رفضهم القتال مع موسى ليدخلوا معه الأرض المقدسة وأنتهاءا بالتيه وإحتيالهم على السبت ومجادلاتهم فى قصة البقرة ... كلها يمكن أن نتخيل أنها من كونهم عاشوا فى مصر الفرعونية وعرفوا طقوساً وثنية تحيطها مظاهر الأبهة والفخامة تأثروا بها ...
ولكن وبعد مرور أزمنة طويلة ووجود أجيال جديدة فلم يكن هناك سببا منطقيا يدعو إلى الفرقة والتشرذم وترك الأفضل للأدنى والأنهيار المجتمعى الذى حل بهم (ليس غريباً أن يخرج من عباءتهم فكرة الفوضى الخلاقة ولا الحركة الماسونية بعد ذلك فهم وعوا وأدركوا تماماً ومنذ أزمنة بعيدة كيف يمكن أن يكون إستخدام الدين والوشايات والخيانة ومهادنة الأقوى وأستخدام العاهرات والبلطجية هى الطرق الأسهل لتفتيت المجتمعات وأنهيارها وإعادة تشكيلها بعد طمس هويتها وأن الحرق والقتل الجماعى هو الأسلوب المعتمد والذى يحمل دائماً ختم شعب الله المختار) .... ولنعد إلى عصر القضاة
من الأسباط (أبناء يعقوب) دان ونفتالى ... وهما أبنان شقيقان من بلهة جارية "راحيل" زوجة يعقوب (أم يوسف وبنيامين) ... وكانت راحيل قد وهبتها لزوجها لانها لم تكن تنجب ... وهى – بلهة - بوضعها هذا ليست زوجة رئيسية بل زوجة ثانوية ومكانة أبنائها أقل درجة من أبناء الزوجتين الأصليتين (الأختين ليئة وراحيل)
لهذا السبب كانت الأرض التى أعطيت لهم أقل مساحة وأقل خصباً من باقى اراضى إخوتهم .. وكان سبط دان تحديدا هو آخر من جاءت عليه القرعة عند توزيع الأراضى ومنح أرضاً ضيقة شمال أرض سبط يهوذا ... نصفها الشرقى جبلى وعر يصعب زراعته ونصفها الغربى سهل خصيب (جزر من السهل الساحلى) ولكنه كان فى أيدى الفلسطينين ولم يستطيعوا إستخلاصه منهم ... ومن هنا فكروا فى إستقطاع أرض أخرى لهم فى أقصى الشمال بعيداً عن الصراعات ولا مطمع لأحد فيها .. حدث فى هذا السبط - دان - فصة تستحق التأمل ... تقول التوراة (قضاة 17 / 6) : " فى تلك الأيام لم يكن لاسرائيل ملك فكان كل واحد يتصرف على هواه "
شخص يدعى ميخا يعيش فى جبل أفرايم (من سبط أفرايم) قال لأمه أن ما سرق منها من فضة (ألف ومائة شاقل – حوالى 132 كيلوجرام) وسمعها تلعن سارقها هى معه وهو الذى أخذها ... فقالت له أمه (فليباركك الرب يا ولدى) ... ورد لها المال فقالت (سأهب هذا المال بأسمك للرب .. لننحت تمثالاً ونصوغ منه صنماً وها أنا أرد لك المال ) .... بالفعل أعطت الأم مئتى قطعة فضة للصائغ فنحت لها صاغ تمثالين .... تأمل ... ما الذى بقى من الوثنية لم ينحدر إليه بنو إسرائيل
نصب ميخا التمثالين فى جزء من بيته كنيت للآلهة وعمل أفود (ملابس تستعمل فى طلب مشورة الآلهة)وصنع تراقيم (التماثيل الصفيرة التى يسهل حملها وكان الناس يعتقدون أمها جلابة للفأل الحسن ... لقد كان يهدف للمال بالطبع ... فالناس ستذهب لبيته ليقدموا القرابين والنذور ويستطلعون رأى الآلهة ويشترون التراقيم ليحملونها معهم فى أسفارهم وايضا بيوتهم .... وعين ميخا نفسه وأبنه كاهنين للبيت
وسبق أن أشرت إلى أن الكهنوت كان محصورا ومحدداً طبقا للشريعة الموسوية فى سبط "لاوى" سبط موسى وهارون ... ومع أن ميخا وأبنه من سبط أفرايم فقد جعلا من نفسهما كاهنين وإن ظل ميخا معتقداً أن الناس لن تقبل على بيته لأن كاهنه ليس لاوياً ... تأمل هذا الحجم من الفوضى والفساد الدينى !!
تصادف أن كان شاب من سبط لاوى من بيت لحم ولكنه مقيم بين سبط يهوذا مغترباً ... تصادف مروره ببيت ميخا .. وعرف ميخا منه أنه لاوياً ومغترباً فعرض عليه أن يبقى فى بيته ويصبح كاهناً للبيت مقابل أجر سنوى 10 شاقل فضة وحلة ثياب بالإضافة للإقامة والمأكل والمشرب ... وقبل اللاوى وفرح ميخا بأن ألتقط من اللاويين شخصاً ليس فى الأصل كاهناً ليوهم الناس ويخادعهم به فيقبلون على بيته بل ويعتقد أن الله راض عنه بأن أرسل له هذا اللاوى ..... تأمل ... كيف أنحدر يعض اللاويين وقبلوا التغاضى عن الضلال وفساد الدين بل وأستخدموه وهم حملة الكهنوت !!
كما سبق وأشرت ضاقت الأرض بسبط دان فأرسلوا خمسة من رجالهم ليبحثوا فى الشمال عن أرض تصلح لإنتقالهم (تابع الخريطة 3)... وأثناء مرورهم بجبل أفرايم مروا ببيت ميخا الذى أستضافهم وتعرفوا على كاهن البيت وطلبوا منه أن يسأل الرب ان كانوا سينجحون فى مهمتهم ففعل وطمأنهم بأن الرب معهم ... وبالفعل ساروا شمالاً حتى مدينة ندعى لايش فى أقصى الشمال (شمال بحيرة الحولة بحوالى 25 كم عند منابع نهر الأردن عند سفح جبل حرمون) .... والسهل خصيب وسكانه بسطاء يعيشون فى سلام مع جيرانهم فلم يكن هناك أستحكامات أو حصون أو أسوار للمدينة .... عاد الرجال الخمسة لسبط "دان" وأخبروهم بما وجدوا فجندوا 600 رجلاً مسلحين
توجه الرجال المسلحون إلى لايش وفى طريقهم مروا على بيت ميخا وأستمالوا كاهنه اللاوى ليرافقهم ويكون كاهناً لسبطهم ففرح بذلك طبعاً ورافقهم .. وأنطلقوا إلى مدينة "لايش" وحاربوا أهلها وفتلوهم وأحرقوا مدينتهم وأستولوا على أرضهم وحقولهم ... وأستقروا فى الأرض وأرسلوا ليحضروا باقى عشائرهم ... وغيروا أسم المدينة من "لايش" إلى "دان"
أترك القارىء ليتأمل هذه القصة ... وليستحضر من مشاهد الزمن البعيد كثيرا يتكرر اليوم حولنا ... ولكن هناك إشارة بالغة الأهمية ربما لم يتحدث بها أحد من قبل ... ببساطة أن ما فعله سبط "دان" هو أنه ترك نصيبه فى الأرض الموعودة وراح يبحث عن أرض (ليست موعودة) ليستولى عليها بعد أن يقتل سكانها ... تأمل مكان سبط دان فى الخرائط
وإلى مقال جديد بإذن الله