<!--
<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;} </style> <![endif]-->
كانت بيني وبين القرآن الكريم جفوة منذ خُلِقتُ إلى زمن قريب، أدمن _بحكم أزهريتي_قراءة القرآن الكريم، وأواصل حفظه، وأتعرف تفسير بعض آياته، لكني أَتَهَيَّب الإقبال عليه بالتدبر والتفقه والتحليل والتذوق والتأويل، وأُصرف عن ذلك صرفًا! ولا أدري لذلك سببًا!
إلى أن كانت هذه المرحلة التي أعيشها: مرحلة الفراغ_إداريًّا_ من البحث العلمي في مجال التخصص:الأدب والنقد، والإقبال على ربي بمزيد من الطاعات والقربات، ومعاشرة أهل الصفاء والنقاء، والتضرع إلى الله والاستعانة به في التقرب إلى كتابه الكريم.
إنها لَمُتعة ما أعظمها من متعة: متعة معايشة نص من نصوص القرآن الكريم الحاضرة بقوة في زماننا، تكون لك فيه خاطرة خاصة، فتدفعك إلى السياحة في عقول السالفين والخالفين من مفسري القرآن ومؤوليه_ عن طريق توظيف تكنولوجيا العصر العجيبة[الكيبورد والشيخ جوجل]_ فتخرج منها بهذه الرؤية فتعلن عنها في خطبة أو تحولها إلى مقال أو بُحَيث! أقول هذا من باب "وأما بنعمة ربك فحدث"، وليس من باب:"لا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى"!
تلك كانت تجربتي مع سورة الضحى، وها هي ذي تعود إلى مع سورة التكاثر. وأسأل الله دوام الاستمرار والتوفيق في هذا الجانب التعبدي الفكري الجميل والنبيل والأصيل لي ولكل الصالحين المصلحين. فأقول _ والله أعلم_عن الوحدة الموضوعية في سورة التكاثر:
مدخل إلى السورة:
سورة التكاثر من القصار عدد آياتها سبع، وهي مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، نَزَلَتْ فِي مُفَاخَرَةٍ جَرَتْ بَيْنَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي سَهْمٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَلِأَنَّ قُبُورَ أَسْلَافِهِمْ بِمَكَّةَ. تَفَاخَرُوا فَتَعَادُّوا السَّادَةَ وَالْأَشْرَافَ منْ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا فَكَثُرَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بني سهم، ثمَّ قَالُوا: نعدّ مَوتَانا حَتَّى زاروا الْقُبُور فعدوا الْقُبُور فكثرهم بَنو سَهْمٍ بِثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَرويَ: أنها نزلت فِي قبيلين مِنَ الْأَنْصَارِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَنِي الْحَارِثِ تَفَاخَرُوا وَتَكَاثَرُوا بِالْأَحْيَاءِ ثُمَّ قَالُوا: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْقُبُورِ فَجَعَلَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ: فِيكُمْ مِثْلُ فُلَانٍ، تُشِيرُ إِلَى الْقَبْرِ، وَمِثْلُ فُلَانٍ، وَفَعَلَ الْآخَرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ!
روى الإمام الطبري عن قتادة: "كانوا يقولون : نحن أكثر من بني فلان ، ونحن أعد من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم ، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم. ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا .
وهي من السور القرآنية الكريمة التي ينبغي لنا الوقوف معها كثيرا في زمننا هذا سورة التكاثر! إننا نعيش عصر التكاثر بامتياز، على كل المستويات والأصعدة: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية، والثقافية، والتكنولوجية...إلخ تكاثر يعقبه تكاثر يعقبه تكاثر، وهكذا دواليك!
الكل يعيش في تكاثره الخاص، ويعايش تكاثر الآخرين رغمًا عنه! كأني بهم يقولون: إن لم تتكثر كُسِرتَ! حقًّا أُلهينا بالمباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربنا، وعما ينجينا من سخطه علينا .
قال الأستاذ سيد قطب عن هذه السورة: هذه السورة ذات إيقاع جليل رهيب عميق وكأنما هي صوت نذير، قائم على شرف عال. يمد بصوته ويدوي بنبرته. يصيح بنُوَّمٍ غافلين مخمورين سادرين، أشرفوا على الهاوية وعيونهم مغمضة، وحسهم مسحور. فهو يمد بصوته إلى أعلى وأبعد ما يبلغ: «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ» ..
بلاغة العنوان:
للسورة الكريمة لها ثلاثة عناوين عند المفسرين، هي:
_ سورة المقبرة: مفرد لفظة المقابر الوارد بالآية الثانية.
_ سورة "ألهاكم": الجملة المبتدأ بها الآية الأولى.
_ سورة"التكاثر": أذيع العناوين وأثبتها وأبلغها، وهو فاعل الإلهاء؛ لما فيه من عمومية في المعنى تناسب جلال المعنى القرآني، ولما فيه من تضمن لمعنى الاسمين الآخرين؛ فالـــ"تكاثر" فيه "إلهاء" للناس في عصر ومصر، ونسيان للــ"مقبرة".
والتكاثر: التباهي بكثرة المال والجاه والمناقب يقال : تكاثر القوم تكاثرا إذا تعادلوا ما لهم من كثرة المناقب.
والتَّكاثُرُ: تَفَاعُلٌ فِي الْكُثْرِ أَيْ التَّبَارِي فِي الْإِكْثَارِ مِنْ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِي كَثْرَتِهِ. فَمِنْهُ تَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ، وَمِنْهُ تَكَاثُرٌ فِي الْعَدَدِ مِنَ الْأَوْلَادِ وَالْأَحْلَافِ لِلِاعْتِزَازِ بِهِمْ. وَقَدْ فُسِّرَتِ الْآيَةُ بِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35] . وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَلَسْتَ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُمْ حَصًى ... وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ
وبالجملة فيدخل فيه التكاثر بكل ما يكون من الدنيا ولذاتها وشهواتها .
وقال أبو مسلم: التكاثر تفاعل عن الكثرة، والتفاعل يقع على أحد وجوه ثلاثة:
1 _ يحتمل أن يكون بين الاثنين فيكون مفاعلة.
2_ ويحتمل تكلف الفعل تقول : تكارهت على كذا إذا فعلته وأنت كاره ، وتقول : تباعدت عن الأمر إذا تكلفت العمى عنه وتقول : تغافلت.
3_ ويحتمل أيضا الفعل بنفسه كما تقول : تباعدت عن الأمر أي بعدت عنه.
ولفظ التكاثر في هذه الآية يحتمل الوجهين الأولين ، فيحتمل التكاثر بمعنى المفاعلة؛ لأنه كم من اثنين يقول كل واحد منهما لصاحبه : ( أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا .
ويحتمل تكلف الكثرة فإن الحريص يتكلف جميع عمره تكثير ماله، واعلم أن التفاخر والتكاثر شيء واحد ، ونظير هذه الآية قوله تعالى):وتفاخر بينكم ) [الحديد : 20].
والتكاثر بمعنى المنافسة والتصارع والتحارب حول ملهيات الدنيا ومشغلاتها هو المقصود الأسمى من السورة في نظري؛ لأنه المرض الخطير الفتاك الذي تقدم السورة الكريمة مجموعة أدواء للعلاج منه، على ما سيتضح فيما بعد.
بلاغة ترتيب السورة الكريمة:
عُدَّتِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نزلت بَعْدَ سُورَةِ الْكَوْثَرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمَاعُونِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّة.
والصلة بينها وبين سورة الكوثر واضحة فشانئو الرسول هم المبتلون بالدنيا المتكاثرون بالأموال والأولاد. كما أن صلة سورة التكاثر بسورة الماعون هو أن المتكاثرين اللاهين هم المكذبون بالدين الذين يدعون اليتيم ولا يحاضون على طعام المسكين ويسهون عن الصلاة ويمنعون الماعون!
وبتدبر موقع السورة في المصحف الشريف نجد أنها بين سورتي القارعة والعصر، كأن الله ــــ عز وجل ــــ ينتقل بنا من يوم القيامة، وما به من أهوال ونار، وثواب للمؤمنين وعقاب للعاصين، في سورة القارعة حيث يقول:"فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية" إلى سبب انقسامنا إلى مؤمنين مثابين وغير مؤمنين معاقبين وهو علاقتنا السلبية بالدنيا سلبًا وإيجابًا، تلك التي تنكشف بجلاء في تكاثرنا، أي تنافسنا وتسارعنا وتصارعنا في الدنيا وإليها وعليها وبها، تكاثرًا يؤدي إلى نسياننا المقابر والجحيم وإلهائنا عن شكران النعيم، نعوذ بالله من ذلك في كل أحوالنا ومآلاتنا.
والنجاة من ذلك السبب المهلك، ومن هذه العلاقة السلبية الضارة أن نرجع إلى المنهج الإلهي المصلح لنا في كل زمان ومكان الموجود في سورة العصر، وهو الإيمان وعمل الصالحات والتواصي بالحق والصبر. يدل على تلك الوظيفة السامية لسورة العصر ما روي عَنِ الإمام الشَّافِعِيِّ ـــ رضي الله عنه ــــ أنه قال: لَوْ تَدَبَّرَ النَّاسُ هَذِهِ السُّورَةَ لَوَسِعَتْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: لَوْ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى النَّاسِ إِلَّا هِيَ لَكَفَتْهُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهَا شَمِلَتْ جَمِيعَ عُلُومِ الْقُرْآنِ.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم ذكر القارعة وعظيم أهوالها، أعقب بذكر ما شغل وصد عن الاستعداد لها وألها عن ذكرها، وهو التكاثر بالعدد والقرابات والأهلين فقال : {ألهاكم التكاثر} وهو في معرض التهديد والتقريع وقد أعقب بما بعضد ذلك وهو قوله {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} ثم قال : {كلا لو تعلمون علم اليقين} وحذف جواب " لو " والتقدير : لو تعلمون علم اليقين لما شغلكم التكاثر، قال صلى الله عليه وسلم : "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" الحديث، وقوله تعالى " لترون الجحيم " جواب لقسم مقدر أي والله لترون الجحيم، وتأكد بها التهديد وكذا ما بعد إلى آخر السورة.
وقد التحم آخر السورة بأولها على وجه هو من ألطف الخطاب وأدق المسالك في النهي عما يجر إلى العذاب؛ لأن العاقل إذا علم أن بين يديه سؤالاً عن كل ما يتلذذ به علم أنه يعوقه ذلك في زمن السؤال عن لذاذات الجنة العوال الغوال, فكان خوفه من مطلق السؤال مانعاً له عن التنعم بالمباح فكيف بالمكروه ثم كيف بالمحرم ؟ فكيف إذا كان السؤال من ملك تذوب لهيبته الجبال ؟ فكيف إذا كان السؤال على وجه العتاب ؟ فكيف إذا جر إلى العذاب ؟ فتأمل كلام خالقك ما ألطف إشاراته وأجل عباراته، في نذاراته وبشاراته - والله أرحم.
وربط الإمام البقاعي بين سورتي التكاثر والعصر بقوله:
لما كانت لذة هذه الدنيا الظاهرة التنعم بما فيها من المتاع، وكان الإنسان مسؤولاً بما شهد به، ختم التكاثر عن ذلك النعيم متوعداً برؤية الجحيم، فكان ساكن هذه الدار على غاية الخطر، فكان نعيمه في غاية الكدر، قال دالاًّ على ذلك بأن أكثر الناس هالك، مؤكداً بالقسم والأداة لما للأغلب من التكذيب لذلك إما بالمقال أو بالحال : {والعصر *} أي الزمان الذي خلق فيه أصله آدم عليه الصلاة والسلام وهو في عصر يوم الجمعة كما ورد في الحديث الصحيح في مسلم، أو الصلاة الوسطى أو وقتها الذي هو زمان صاحب هذا الشرع الذي مقداره فيما مضى من الزمان بمقدار وقت العصر من النهار أو بعضه، أو زمان كل أحد الذي هو الخلاصة بالنسبة إليه تنبيهاً له على نفاسته إشارة إلى اغتنام إنفاقه في الخير إشفاقاً من الحشر، أو وقت الأصيل لأنه أفضله بما يحويه من الفراغ من الأشغال واستقبال الراحة والحصول على فائدة ما أنفق فيه ذلك النهار، وبما دل عليه من طول الساعة وربح من كان له فيها بضاعة باختتام الأعمال وتقوض النهار، والدال على البعث، أو جميع الدهر الذي أوجد فيه سبحانه وتعالى المخلوقات وقدر فيه المقدورات بما ظهر فيه من العجائب الدالة على ما لله تعالى من العز والعظمة الداعي إلى صرف الهمة إليه وقصرها عليه : {إن الإنسان} أي هذا النوع الذي هو أشرف الأنواع لكونه في أحسن تقويم كما أن العصر خلاصة الزمان، والعصر يكون لاستخراج خلاصات الأشياء {لفي خسر *} أي نقص بحسب مساعيهم في أهوائهم وصرف أعصارهم في أغراضهم لما لهم بالطبع من الميل إلى الحاضر والإعراض عن الغائب والاغترار بالفاني أعم من أن يكون الخسر قليلاً أو جليلاً بحسب تنوع الناس إلى أكياس وأرجاس، فمن كان كافراً كان في كفران، ومن كان مؤمناً عاصياً كان في خسران إن كان بالغاً في المعصية وإلا كان في مطلق الخسر، وهو مدلول المصدر المجرد، وفي هذا إشارة إلى العلم بالاحتياج إلى إرسال الرسل لبيان المرضى لله من الاعتقادات والعادات إيماناً وإسلاماً وإدامة لذلك ليكون فاعله من قبضة اليمين وتاركه من أصحاب الشمال.
وقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لما قال تعالى : {ألهاكم التكاثر} وتضمن ذلك الإشارة إلى قصور نظر الإنسان وحصر إدراكه في العاجل دون الآجل الذي فيه فوزه وفلاحه، وذلك لبعده عن العلم بموجب الطبع {إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب : 72] أخبر سبحانه أن ذلك شأن الإنسان بما هو إنسان فقال {والعصر إن الإنسان لفي خسر} فالقصور شأنه، والظلم طبعه، والجهل جبلته، فيحق أن يلهيه التكاثر، ولا يدخل الله عليه روح الإيمان {إلا الذين آمنوا وعملو الصالحات} إلى آخرها، فهؤلاء الذين {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} [النور : 37].
البناء الفكري للسورة الكريمة:
عدد آيات هذه السورة الكريمة سبع. هي:
"أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)"
وظاهر أن السورة اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّوْبِيخِ عَلَى اللَّهْوِ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِإِيثَارِ الْمَالِ وغيره وَالتَّكَاثُرِ بِهِ وَالتَّفَاخُرِ بِالْأَسْلَافِ وَعَدَمِ الْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِيرُوا فِي الْقُبُورِ كَمَا صَارَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَعَلَى الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ، وَحَثهمْ عَلَى التَّدَبُّرِ فِيمَا يُنْجِيهِمْ مِنَ الْجَحِيمِ. وَأَنَّهُمْ مبعوثون ومسؤولون عَنْ إِهْمَالِ شُكْرِ الْمُنعم الْعَظِيم.
والغاية: أن السورة الكريمة تعالج مرض التكاثر عن طريق أدواء معينة، هي: زيارة المقابر، والزجر والردع والإنذار لهؤلاء المتكاثرين، وحثهم على المعرفة العقلية"علم اليقين"[العلم القلبي النظري]، ثم على المعرفة الحسية"عين اليقين"[العلم الحسي التجريبي]، وتذكر النعيم الإلهي وواجبنا تجاهه.
وما يكاد يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها.. حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض، ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلاً في الطريق! ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد!!!
وبناء على هذا المضمون الكلي للسورة الكريمة يمكننا أن نقسمها إلى الأقسام الفكرية الآتية:
1_شريط الحياة الدنيا الطويل:
إن السورة الكريمة تصور الحياة الدنيا في الآيتين الأوليين بإيجاز عجيب في جملتين فعليتين ماضويتين؛ من باب تنزيل المستقبل منزلة الماضي، لتقررا الثابت في كل النفوس والعقول من أن الدنيا ملهية لنا_ والإلهاء هنا لجميع بني آدم، كل حسب نيته وعمله وغايته، ولا يمكن قصره على المشركين أو سادتهم فقط! ففي هذا تخصيص للدلالة وتحجيم للمعنى بلا غرض أو ضرورة _ بتكاثرنا في كل شيء مرغوب إلى آخر لحظة فيها ولقطة منها، وهي دخول المقابر! أو أن تكاثر الناس وصل إلى درجة التكاثر على أينا أكثر مقابر من الآخر!
قال الشيخ ابن عاشور: وَقَوْلُهُ: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ غَايَةٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِفِعْلِ أَلْهاكُمُ...أَيْ دَامَ إِلْهَاءُ التَّكَاثُرِ إِلَى أَنْ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، أَيْ اسْتَمَرَّ بِكُمْ طُولَ حَيَاتِكُمْ، فَالْغَايَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِحَاطَةِ بِأَزْمَانِ الْمُغَيَّا لَا فِي تَنْهِيَتِهِ وَحُصُولِ ضِدِّهِ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَارُوا إِلَى الْمَقَابِرِ انْقَطَعَتْ أَعْمَالُهُمْ كُلُّهَا. وَلِكَوْنِ زِيَارَةِ الْمَقَابِرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِبَارَةً عَنِ الْحُلُولِ فِيهَا، أَيْ قُبُورَ الْمَقَابِرِ. وَحَقِيقَةُ الزِّيَارَةِ الْحُلُولُ فِي الْمَكَانِ حُلُولًا غَيْرَ مُسْتَمِرٍّ، فَأُطْلِقَ فِعْلُ الزِّيَارَةِ هُنَا تَعْرِيضًا بِهِمْ بِأَنَّ حلولهم فِي الْقُبُور يَعْقُبُهُ خُرُوجٌ مِنْهَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ لِلْمُتَكَاثِرِ بِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ التَّكَاثُرُ، أَيْ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِالْقُبُورِ تُعِدُّونَهَا. وَهَذَا يَجْرِي عَلَى مَا رَوَى مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ أَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِي سَهْمٍ تَفَاخَرُوا بِكَثْرَةِ السَّادَةِ مِنْهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا آنِفًا، فَتَكُونَ الزِّيَارَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ، أَيْ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ لِتَعُدُّوا الْقُبُورَ، وَالْعَرَبُ يُكَنُّونَ بِالْقَبْرِ عَنْ صَاحِبِهِ قَالَ النَّابِغَةُ:
لَئِنْ كَانَ لِلْقَبْرَيْنِ قَبْرٍ بِجِلِّقٍ ... وَقَبْرٍ بِصَيْدَاءَ الَّذِي عِنْدَ حَارِبِ
وَقَالَ عِصَامُ بْنُ عُبَيْدٍ الزِّمَّانِيُّ، أَوْ هَمَّامٌ الرَّقَاشِيُّ:
لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتُ أَقْرَبَهُمْ ... قَبْرًا وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ مَنْزِلِ الذَّامِّ
أَيْ كُنْتُ أَقْرَبَهُمْ مِنْكَ قَبْرًا، أَيْ صَاحِبُ قَبْرٍ.
يقول الأستاذ سيد قطب: "إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل.. «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ».. وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة.. ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء. فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد..
2_الزجر والوعيد والتحذير والنذير:
في الآيتين الثالثة والرابعة نجد ردعًا وزجرًا ووعيدًا ونذيرًا وتحذيرًا بأن الناس سوف يأتيهم علمان رهيبان مخيفان مترتبان، لإبطال حالة اللهو والغفلة التي يعيشونها وعاشوها في الدنيا الفانية!
كأني بربنا ـــ عز وجل ــــ يصدع فينا: "أيها السادرون المخمورون. أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة وأنتم مفارقون. أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه. أيها التاركون ما تتكاثرون فيه وتتفاخرون إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر.. استيقظوا وانظروا.. فقد «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ» . ثم يقرع قلوبهم بهول ما ينتظرهم هناك بعد زيارة المقابر في إيقاع عميق رزين: «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» . ويكرر هذا الإيقاع بألفاظه وجرسه الرهيب الرصين: «ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» . أي: كلا ما هكذا ينبغي أن تفعلوا ، أن يلهيكم التكاثر.
3_التذكير بالحقيقة المطوية:
إنها الحقيقة العميقة الرهيبة الثقيلة المضمرة عن واقعنا في الغالب الأعم: حقيقة نسيان الآخرة بما فيها من عذاب مقيم في "الجحيم" بكل ما فيه وبما وراءه من أمر ثقيل، لا نتبين حقيقته الهائلة في غمرة هذا الاستكثار، ثم يؤكد هذه الحقيقة ويعمق وقعها الرهيب في القلوب:«ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» ..
ونظرًا إلى خطورة هذين القمسين الفكريين نجد الآيات فيهما تشْتَمل عَلَى وُجُوهٍ مِنْ تَقْوِيَةِ الْإِنْذَارِ وَالزَّجْرِ، فَافْتُتِحَتْ بِحَرْفِ يفيد الرَّدْعِ وَالتَّنْبِيهِ والزجر والإبطال[كلا]، وَجِيءَ بَعْدَهُ بِحَرْفِ [ثُمَّ] الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْإِنْذَارَ الثَّانِيَ أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَكُرِّرَ حَرْفُ الرَّدْعِ وَالتَّنْبِيهِ، ؛ لأن العرب إذا أرادت التغليظ في التخويف والتهديد كرروا الكلمة مرتين . وَحُذِفَ جَوَابُ "لَوْ تَعْلَمُونَ"؛ لِمَا فِي حَذْفِهِ مِنْ مُبَالَغَةِ التَّهْوِيلِ، وَأُتِيَ بِلَامِ الْقَسَمِ لِتَوْكِيدِ الْوَعِيدِ. وَأُكِّدَ هَذَا الْقَسَمُ بِقَسَمٍ آخَرَ، كما أنَّ فِي قَوْلِهِ: "عَيْنَ الْيَقِينِ" تَأْكِيدَيْنِ لِلرُّؤْيَةِ بِأَنَّهَا يَقِينٌ وَأَنَّ الْيَقِينَ حَقِيقَةٌ...
4_الاتعاظ بالنعيم وتذكره:
ثم يلقي بالإيقاع الأخير، الذي يدع المخمور يفيق، والغافل يتنبه، والسادر يتلفت، والناعم يرتعش ويرتجف مما في يديه من نعيم: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» ! لتسألن عنه من أين نلتموه؟ وفيم أنفقتموه؟ أمن طاعة وفي طاعة؟ أم من معصية وفي معصية؟ أمن حلال وفي حلال؟ أم من حرام وفي حرام؟ هل شكرتم؟ هل أديتم؟ هل شاركتم؟ هل استأثرتم؟
«لَتُسْئَلُنَّ» عما تتكاثرون به وتتفاخرون.. الْكُلَّ يُسْأَلُونَ، وَلَكِنَّ سُؤَالَ الْكَافِرِ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ لِأَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الشُّكْرَ، وَسُؤَالَ الْمُؤْمِنِ سُؤَالُ تَشْرِيفٍ لِأَنَّهُ شَكَرَ.
والسؤال عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل! إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها. وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها. وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون!