المدونات التراثية النقدية الأولى عند العرب

قراءة تحليلية معاصرة

إعداد/الأستاذ الدكتور/صبري فوزي أبوحسين

رئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات

إن (التراث) هو رصيد الأمم الباقي، وذخيرتها الخالدة، ومدخرها المعبر عما كانت عليه من تقدم في كل المجالات الحضارية؛، فالأمم بماضيها قبل أن تكون بحاضرها، وفي ماضيها ازدهارها الحالي والآتي. وأمتنا واحدة من تلك الأمم، ذات تراث معرفي شامخ، أبدع في شتى ضروب العلم، وكان وسيلة التقاء الحضارات وتبادل الثقافات؛ لذا اتجهت عناية باحثينا نحوه تحقيقًا ونشرًا وتحليلاً ودرسًا؛ حرصًا على الإفادة الآنية من ملامح رقي أمتنا في سالف عهدها.

ويعد(الأدب والنقد) الجزء الذي ينبض بالحياة من أجزاء هذا التراث؛ إذ يضع تحت أبصارنا أحاديث الأسلاف عن مشاعرهم وأفكارهم وما أصابوا من حكمة وخبرة، أحاديث كأنما يلقون بها إلينا اليوم، كأنما نستمع إليها وهم ينطقون بها ويشدون، وإنها لتمتعنا وتلذنا كما أمتعت أجدادنا ولذتهم. ولا يوجد في هذا التراث ما نعتذر عنه أو نتأسف له! بل كله نتاج طيب بناء مِعطاء، ما قرأه قارئ إلا أُعجب به ودُهِش به وانطلق به ومنه إلى آنِه المعاصر!

       وهذا (التراث الأدبي والنقدي) عريق التاريخ، ممتد الجذور في سفر تاريخنا العربي الإسلامي، يحيط إحاطة جلية بمقومات الأسلاف ومثلهم العليا، ويملك من الخصائص ما يعيننا في عصرنا هذا، فالحاضر الواعي هو القائم على الماضي، والتجديد هو قتل القديم درسًا، لاسيما ذلك القديم البكر، ولا شك في أنه: ما أجمل أن نقرأ في التراث لا عنه! وأنه يوجد فرق كبير بين القراءة في التراث والقراءة عنه؛ وأن نظام التعليم الجامعي ينبغي أن يربط بيننا وبين السياحة المباشرة في إبداع أسلافنا، في كل العلوم والفنون، لا سيما الإنسانية منها !

        إن القراءة في التراث تجعلنا نقف بأنفسنا على إبداع القدامى: نفهمه، ونحاوره، ونجادله، ونقبس منه، ونضيف إليه، ونعلق عليه، نتمتع ونُمتع! أما القراءة عن ذلك التراث-من مراجع وسيطة- فتظل قاصرة عن إيصالنا إلى تلك الحالة العقلية العجيبة اللذيذة، مهما كانت مكانة الكاتب عن التراث أو المتحدث عنه!

إن النقد الأدبي عند العرب قضى مدة طويلة من الزمن، وهو يدور في مجال الانطباعية الخالصة، والأحكام الشفاهية الجزئية التي تعتمد المفاضلة  بين بيت وبيت أو تمييز البيت المفرد أو إرسال حكم عام في الترجيح بين شاعر وشاعر، إلى أن أصبح درس الأدب في أواخر القرن الثاني الهجري جزءًا من جهد علماء اللغة والنحو وبعض الأدباء والكُتَّاب، فتبلورت لديهم قواعد أولية في النقد بعضها ضمني وبعضها صريح، ولكنها كانت في أكثرها ميراث القرون السابقة، فظهر أثرها في رسائل مدونة أو صحف مكتوبة باكرة، ثم كانت الرؤى التنظيرية الجامعة العميقة، و المبثوثة في آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة-هذين المصدرين المُدَوَّنَين المقدسين- والتي تدور حول بيان معالم كبرى في فنون البيان من الشعر، والخطابة، والقصة، والمثل، والحكمة، مع ذكر مقاييس للكلام الإيجابي البناء، والتحذير من خطايا الكلام السلبي الهدام، والتي أراها تمثل في نظري مرجعية أولى لكل ناقد أدبي يحيا في ظلال الحضارة الإسلامية.

   و بعد متابعتي ما كتب عن تاريخ النقد الأدبي عند العرب من قبل الباحثين المحدثين، وجدت تجاهلاً عند كثير منهم لعديد من الرسائل الأولى المُدَوَّنة عند العرب، والتي تدور في تخصص النقد الأدبي، حيث يبدؤون بالحديث عن كتاب طبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي(ت231هـ)، ويتناسون ما قبله من جهود تدوينية في ميدان النقد الأدبي، وقد يشيرون إلى كتيب (فحولة الشعراء) للأصمعي(ت216هـ)، أو صحيفة بشر(ت210هـ)، أما أن تدرس هذه المدونات بترتيب تاريخي، وبمنهج قرائي خاص، فلم يحدث من أحد من مؤرخي النقد الأدبي المحدثين! وللأسف! كانت متابعتنا إياهم في التدريس الجامعي سببًا في تجاهلنا نفائس نقدية عربية مدونة عميقة وعتيقة وبها عطاءات كثيرة...

 إننا عندما نتدبر تاريخ التدوين العربي نقف عند آثار علمية أولى، دار عنوانها ومضمونها حول إشكاليات في النقد الأدبي وقضاياه، وجاءت نتيجة الحوار النقدي الشفاهي بين العرب الأوائل في الجاهلية وعصر صدر الإسلام، والعصر الأموي، مثل: رسالة عبد الحميد بن يحيى الكاتب(ت١٣٢ھ) إلى الكُتَّاب، ومجاز القرآن لأبي عبيدة مَعْمَر بن المُثَنَّى(ت209هـ)، وصحيفة بشر بن المعتمر (ت٢١٠ھو فُحولة الشعراء للأصمعي (ت216هـ). ويمكن أن يشار إشارة خاطفة إلى جهد الخليل بن أحمد الفراهيدي(100-170هـ) في معجم العين، ذلك الذي كان يحس بقيمته ناقدًا ويفخر بها في قوله:" إنما انتم معشرَ الشعراءِ تَبَعٌ لي وأنا سكان السفينة إن قرظتكم ورضيت قولكم نفقتُم والا كسدتم"، وإلى جهد تلميذه سيبويه في رائعته(الكتاب) لا سيما في حديثه عن ضرائر الشعر، وفي حديثه عن الأساليب العربية المتنوعة واستشهاده عليها بكلام العرب القدامى شعرًا ونثرًا!  

ولا أعلم أحدًا سبقني في قراءة هذه المدونات مُجمَّعة باعتبارها مدونات نقدية أولى، ولذا أحاول في بحثي هذا أن أجلي هذه المدونات النقدية الأولى عند العرب وصفا وتحليلاً، بقصد تَبَيُّن ما فيها من ومضات رائدة، ولمعات سابقة في عرض إشكاليات الإبداع الأدبي العربي القديم بطريقة حديثة معاصرة. ومن ثم فإن المنهج المتبع هنا هو المنهج الوصفي القائم على التحليل السيميائي والثقافي لهذه المدونات عنوانًا ومتنًا.       

وقد جعلت البحث معنونًا بـ(المدونات النقدية التراثية الأولى عند العرب: قراءة تحليلية معاصرة)

 حتى أقف وقفة علمية أولى مع هذه  المدونات البكرية الزاهرة، وذلك للأسباب الآتية:

<!--أن دراسة هذه المدونات الأولى يسد منطقة فارغة في التأريخ للنقد الأدبي عند العرب؛ فمعظم من كتبوا في هذا الميدان تركوا الإشارة إليها أو الإشادة بها، فبعضهم يبدأ تأريخه النقد الأدبي العربي بكتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي(ت231هـ) مثل النقاد الكبار: طه إبراهيم، وأحمد الشايب وإحسان عباس، وبعضهم لا يعترف بنقد أدبي عند العرب إلا بدءًا من القرن الرابع الهجري مثل الناقدين: محمد مندور، ومحمد غنيمي هلال.   

<!--أن هذه المدونات تمثل الفكر النقدي العربي البكر الخالص من التأثر بالفكر الوافد.

<!--أنها تمثل الفكر النقدي العربي المُمهد لما بعده.

<!--أنها تحتوي على بذور القضايا الأدبية الشائكة والمحتدة عند جهابذة النقاد العرب اللاحقين، مثل قضايا اللفظ والمعنى، والطبع والتكلف، والقراءة والتلقي، ومفهوم البلاغة، واستعمال الأديب المصطلحات العلمية...إلخ

<!--أنها تحتوي على خطرات عقلية عميقة صارت فيما بعد اصطلاحات ومناهج ونظريات عند المحدثين غربيًّا وعربيًّا، وهي تفيدنا في عصرنا هذا عصر ئؤال الحداثة، وعصر جدل التراث والحداثة، وجدل الأصالة والمعاصرة!

<!--أنها تدل على تنوع العقل العربي الناقد في بواكير الحضارة الإسلامية والعربية، حيث نجد النقد الأدبي الصادر عن كاتب، والنقد الخاص بفن نثري كما رسالة عبدالحميد بن يحيى إلى الكتاب، ونجد النقد الأسلوبي البلاغي كما في كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة، والنقد اللغوي المحافظ المتعصب للقديم كما في كتيب فحولة الشعراء للأصمعي، والنقد النظري والفني كما في صحيفة بشر بن المعتمر.     

وأرى أن هذا يمكن أن ينجز في الهيكل العلمي الآتي:

التمهيد: اصطلاحات البحث المؤسسة إياه.

المبحث الأول: شفاهية النقد الأدبي العربي.

المبحث الثاني:  رسالة عبد الحميد بن يحيى الكاتب(ت١٣٢ھ) إلى الكتاب.

المبحث الثالث: مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى(ت209هـ)

المبحث الرابع: صحيفة بشر بن المعتمر (ت٢١٠ھ)

 المبحث الخامس: فحولة الشعراء للأصمعي (ت216هـ)

ثم تكون (الخاتمة)-إن شاء الله تعالى- مُجِملة لما قيل في البحث، و معددة للجديد فيه، والتوصيات المقترحة من خلاله.

وفق الله القائمين على هذا المؤتمر بكليتي كلية اللغة العربية بإيتاي البارود: عميدًا ووكيلين ومجلس كلية وأقسامًا علمية، وأساتذة وزملاء.

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

327,094