الخضرمة الفنية في ديوان (بعيدا تضيء العناقيد) للشاعر الفلسطيني محمود مفلح
للدكتور/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
علاقة المبدع بالزمن من القضايا النقدية الشائكة، التي طرحت في محاورات النقاد ومدوناتهم قديمًا وحديثًا؛ فاصطلاحات: الشعر الحولي، والشاعر النابغة، والشاعر المخضرم، والشاعر المفحم، وعمود الشعر، والقدم والحداثة... وغيرها حاضرة عند أسلافنا في الجاهلية وما تلاها، وما زالت مقروءة مستدعاة إلى الآن، وهي علاقة من شأنها أن تثير أسئة عدة، منها: هل للزمن أثر في المبدع؟ وهل للإبداع زمن؟ وهل يمكن أن يتوقف المبدع عند زمن معين؟ وهل للإبداع شباب وشيخوخة؟ ولماذا يبدع بعضنا في سن مبكرة؟ ويبدع بعض آخر في سن متأخرة؟...إلخ
وهذا ما يستدعي منا أن نصوغ تعبيرًا من شأنه أن يُعنَى بهذه الأسئلة المثارة، وهو في نظري(الخضرمة الفنية). وأقصد بـ(الخضرمة الفنية) تلك الحالة الإبداعية الخاصة التي تحدث لبعض كبار المبدعين بسبب طول معاشرتهم الإبداع طولاً، زمانيًّا ومكانيًّا وبشريًّا، فيظهر أثر ذلك في الإبداع شكلاً ومضمونًا.
وهذا يتحقق خير تحقق في إبداع شاعرنا الفلسطيني الكبير محمود مفلح. ذلكم الشاعر الذي تدل سيرته الحياتية على أنه مخضرم، متنوع الخضرمة بينَ:
-خضرمة زمانية:
وتتمثل هذه الخضرمة في إنسان قارب الثمانين عامًا، وما أحوجت سمعه إلى ترجمان، ولا قلبه إلى حرارة، فما زال سامعًا، وما زال مُسمِعًا بحمد الله تعالى. (إنسان) عاشر فترات الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات، ثم دخل عقدين من الألفية الثانية. (مثقف)عاش أكثر من خمسين عامًا مع الإبداع الأدبي شعرًا ونثرًا، قصًّا ومقالاً ونقدًا.بارك الله عمره وقلبه وعقله وقلمه..
-خضرمة مكانية:
وتتمثل هذه الخضرمة في إنسان رحَّال جوَّال، صال وجال في غير مكان وغير بلد من وطننا العربي: فلسطين مولدًا، وسوريا تعليمًا، وبقية البلدان عملاً وهجرة:السعودية، والمغرب، وغيرهما، ثم كتب الله له ولنا أن تكون مصرنا مُهاجَرَه الدائم ومُستقرَّه الحالي. يقول مقررًا هذه الحقيقة الحضارية لمصرنا، في مطلع تغريبته:
لجأنا إلى مصرٍ ومصرٌ ملاذنا وليس سواها كان يحنو ويحدبُ
وقد كتب الله –تعالى- لي أن أقرأ عمله الشعري(بعيدًا تضيء العناقيد) مرتين: مرة في دار الحسيني للثقافة بمناسبة صدور الطبعة الأولى له في 7/9/2019م، ومرة ثانية في دار العروبة بمناسبة صدور الطبعة الثانية المزيدة المنقحة في 13/1/2020م. وما كان هذا الاختيار إلا لظن شاعرنا الفلسطيني العروبي الإسلامي المخضرم في شخصي الضعيف، حيث ينعتني دائمًا في إهداءاته بتلك الصفة بعيدة المنال(الناقد الأدبي الكبير)، وإني لمبتدئ في هذا المجال!
وقد أثمرت هاتين القراءتين عن جملة من الإفادات عن الديوان في شكله ومحتواه، فأخرجت رؤية وصفية تحليلية لهذا الديوان من خلال أبرز عناصره الفنية، تشير إلى أبرز الآثار للخضرمة في إبداع شاعرنا، وهي على النحو الآتي:
أولاً: فنية العنوان:
بتدبر عناوين دواوين شاعرنا السابقة نجد بعضها ينحو في الصياغة منحًى تاريخيَّا مثل(مذكرات شهيد فلسطيني)، و(حكاية الشال الفلسطيني)، ونجد بعضها ينحو منحًى خطابيًّا، مثل: (غرد يا شبل الإسلام)، و(إنها الصحوة إنها الصحوة)، و(لأنك مسلم)، و(غزة ريحانة القلب)، و(شموخًا أيتها المآذن)، ونجد بعضها ينحو المنحى الواقعي مثل(البرتقال ليس يافويا)، و(نقوش على الحجر الفلسطيني)، و(لا تهدموا البرج الأخير) و(لا تنتظر أحدًا سواك)، ونجد بعضها ينحو المنحى الفني التصويري كما (المرايا)، و(الراية)، (فضاء الكلمات)، و(قصائد في فمها ماء)، و(ابتسم ليخضر الكلام).
وتزداد هذه الفنية تأنقًا وتخييلاً في صياغة العنوان المقروء، وهو(بعيدًا تضيء العناقيد).
إنه جملة فعلية، جاءت سطرًا شعريًّا مكونًا من ثلاث تفاعيل، على نسق تفعيلة البحر المتقارب(فعولن)، تبدأ بظرف مبهم يحتمل المكانية والزمانية، وهو(بعيدًا)، ثم فعل مضارع، وهو(تضيء)، ثم كلمة غير مضبوطة الآخر، تحتمل أن تكون فاعلاً للإضاءة(تُضيءُ العناقيدُ)، وأن تكون مفعولا به لفاعل مستتر تقديره "أنت": (تُضيءُ العناقيدَ).
وهذا العنوان بديع، ليس موجودًا في تجارب الديوان صراحة، ولكنه أشير إلى ألفاظها غير مرة، ففي قصيدة الشاعر عن أمه يقول:
ومنحتني قنديل قافيتي وفاكهة الطريق
وفي قصيدته(جرح وتعديل) يقول:
وكيف أركب بحرًا لا ضفاف له والليل داجٍ وما في الكف قنديلُ
وتعد قصيدة (كواكب) أقرب القصائد إلى عنوان الديوان، وقراءتها تساعد على تفسيره، وهي شكائية المطلع تفاؤلية الختام، يقول شاعرنا في مطلعها:
كأنك لا تريد ولا تراد فطعم العيش مر يا سعادُ
قميصي لم يعد عندي قميص ولا قلم يليق ولا مداد
يمر العابرون على جراحي كأني فوق راحلتي جمادُ
ويظل يشكو إلى أن يقول:
فكم فاضت نفوس طاهرات وكم جأرت لمولاها عبادُ
ولكن الحياة تضيء فينا كواكبها وتعشقنا الجياد
ثم يختم قائلاً:
مشيناها خطًى كتبت علينا جهادًا سوف يتبعه جهاد
وبتدبر مفردات العنوان نجدها زاخرة بالحمولات الدلالية الآتية:
فمفردة(بعيدًا) قد تكون تكون بعدًا زمانيًّا، تشير إلى المرحلة الممتدة المتنوعة من العمر.
وقد تكون بعدًا مكانيًّا، تشير إلى البعد عن الوطن الأول(فلسطين)، والوطن الأكبر(الأمة الإسلامية).
وقد تكون بعدًا فنيًّا تشير إلى ما في التجارب من تجويد فني بسبب هذه الخضرمة التي عليها وفيها المبدع.
ومفردة(تضيء) قد تدل على (إضاءة فكرية) حيث العمق في رؤية الواقع واستشراف المستقبل.
وقد تدل على(إضاءة فنية) حيث اختراع الجديد من التجارب الذاتية والاجتماعية والوطنية والقومية. وما فيها من دفْ إنساني نبيل وإبداعي جميل، محققا المعادلة الصعبة: الإمتاع والإقناع، بتوازن ..
وقد تدل على (إضاءة خلُقية) حيث الهداية والإرشاد والتعليم والتربية والتزكية والتنوير...
ومفردة (العناقيد) جمع تكسير للكثرة، للمفرد(عنقود) الدال معجميًّا على ما تعقد وتراكم من ثمر العنب ونحوه في أصل واحد. وفيها دلالة على الاتحاد ودعوة إليه؛ فالعنقود يتكون من أكثر من حبة، وهذه الحبات مترابطة، يربط بينها العنقود. إنها عناقيد تضيء في غير مواقعها، وفي غير خريطتها؛ فبيتنا مليئة بالظلام والخفوت والقصور، وغير ذلك من معوقات الإضاءة ومشوهاتها المفتعلة!
وقد تكون(العناقيد) التجارب الشعرية المهجرية المغتربة، وقد تكون الشعراء ذواتهم، وقد تكون النفوس البشرية المهاجرة أو المهجرة! هذا إذا كانت العناقيد فاعلاً للإضاءة!
أما إذا كانت مفعولا به فإن الفاعل قد يكون الشاعر نفسه أو كل مخاطب أو متلق لأشعاره!
ثانيًا: ثراء المعجم:
ظهرت الخضرمة الفنية في ثراء معجم الشاعر بهذا الديوان، حيث يزخر ويزخم بالألفاظ ذات الحقول المتنوعة، تنوعًا طريفًا بين:
-معجم تراثي تجد فيه ألفاظ: جديبة، الدراق، انغمار، الهزيع، صهيل، نوارس، لباب، ومن نماذج ذلك المعجم قوله في مطلع قصيدة نطيحة:
مللنا أن ننوحا وأن نجوحا ونسترضي النطيحة والنطيحا
ومن المعجم الحياتي اليومي قوله:
إذا فقد الإنسان دارًا وعزوة ووجه حبيب ما الذي سوف يكتب؟
وفي قوله:
أوقفتم الشعر بل سممتمُ دمه كفوا عن الشعر إن الشعر غلبانُ
وفي قوله:
أماه رغم مشيي لم أزل ولدًا ولا يزال على دشداشتي دبقُ
وتكاد تكون قصيدته (عكاكيز) شعبية المعجم؛ فمعظم كلمات قافيتها من لغة الشارع الفلسطيني، حيث ألفاظ: القنابيز/العكاكيز/سوزي/طراميز...
ومن الألفاظ الدخيلة قوله:
وكم زرت من واتس فكان شعرًا ومن قبل كان الواتس يمنحني عطرا
هذا إضافة إلى هيمنة ألفاظ الزمن الماضي، حيث الذكرى والتذكار والحنين ورثاء النفس والبلدان وهجو الزمان... يقول من قصيدته (غيرة):
لقد مرت سنون الخصب تجري وكنت بكل فاتنة حفيا
وكنت تقول للأشجار ميلي وكنت لديهم رقما عصيا
وكنت وكنت دع ما كنت هذي لقد عفنا الكلام العنتريا
كما تجد المعجم المبهج المقدام المتفائل لا سيما في خواتيم تجاربه...
ثالثًا: كثرة التناص وتنوعه
إن شاعرًا في هذا المر، وهذا الحراك التعلي والتعليمي، لاشك سيرث ثقافات كثيرات منداحات عبر الزمان والمكان والإنسان، فنجد أثر ذلك في كثرة تناصاته وتنوعها مع المنتج العقلي والشعري قديمًا وحديثًا، فلا تكاد تجربة تخلو من مفردة أو تعبير أو شطر أو بيت أو أكثر في تأثر مع السابقين. والدلة لى ذلك كثيرة، منها قصيدته(أبا الطيب عذرًا) التي تناص فيها مع إمبراطور الشعر العربي(المتنبي) في مطلع ميميته الاعتذارية:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
إذ يتناص معه شاعرنا تناصًّا عكسيًّا، قائلاً:
على قدر أهل العجز تأتي الهزائمُ وتأتي على وسع البطون الولائمُ
وينسى بنو الأعمام أيام عزهم وتسقط من فوق الرؤوس العمائمُ
فلا صرخة في الليل توقظ موتهم ولا في عناد الصخر تجدي الشتائمُ
ويظل شاعرنا في جلد حالتنا المريضة إلى أن يقول متفائلاً مقدامًا:
سأكنس أطنان النفايات عندكمُ وأزرع قمحًا كي تموج المواسمُ
فلا دمعة للطفل تبقى حبيسة ولا أرض فيها تستباح المحارمُ
ولا طير في الأقاص يجتر حزنه ولا قيد تشكو من أذاه المعاصمُ
سأنفض عن كل الوجوه خنوعها وتهوي إلى قعر الجحيم الأراقمُ
ستشرق شمس الله في كل بسمة وتصفو مياه كدرتها الأعاجمُ
وتخضر أرض طال للخصب شوقها وترجع من أقصى الحنين الحمائمُ
وكذا ديدن شاعرنا في قصيدته(أمتي) إذ يتناص مع الشاعر السوري الكبير عمر أبي ريشة، فيجعل قوله:
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
رب وامعتصماه انطلقت ملْ أفواه الصبايا اليتم
لا مست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم!
مدخلا شعريا لقصيدته التي مطلعها:
نحن ما زلنا بيد الصنم ومخازينا على كل فم
منذ أان ودعتنا يا شاعري لم نلامس نخوة المعتصم
ضاعت القدس ومن ضيعها لاعبو النرد رخيصو الذمم
ويظل شاعرنا يشكو ويهجو إلى أن يختم كالعهد به متفائلا:
إنما يا سيدي نحن هنا رغم عمق الجرح لم نستسلم
جذرنا باق وهذا قدر تشرق الأعراس بعد المأتم
أملك الحق وأجتاح به وعلى الأضلاع أبري قلمي
ولدينا قوة جبارة من إله قادر منتقم
إنها الأمة من أسرارها أنها ولادة لم تعقمِ
وإن هذا البيت الأخير ليعد بألف بيت عندي بسب أثره النفسي الفاعل؛ إذ ينبغي أن يدور على كل لسان ويغرس في كل جنان!
وهكذا كان شأن شاعرنا في قصيدته (غار) حيث يتناص مع القصيدة النونية السيارة للشاعر الأندلسي أبي البقاء الرندي، وكذا تناص في قصيدته(قطار) مع الصدر الشعري الذائع للشاعر الأموي العرجي:"أضاعوني وأي فتى أضاعوا". وفي قصيدة(مزاج) نلمح أثر قصيدة المواكب لجبران...وهكذا تطغى تقنية التناص على شاعرنا، بكل أنواعه: التناص الكلي، والتناص الجزئي، والتناص العكسي، والتناص الإشاري!
رابعًا: جمع الإيقاع بين الفخامة والحيوية
جاء هذا الديوان تسعًا وخمسين تجربة في طبعته الأولى، وجاء خمسًا وستين تجربة في طبعته الثانية بإضافة تجارب(غيرة/اعتذار/يمن/أغوار/لا تنكسر/كمل النصاب/محنة) مع حذف تجربة(أمنية)، وتكرار تجربة(كلمات) في ص56، وص163. والقراءة الشكلية العروضية للديوان تطلعنا على تنوع في قالب تجربه بين تسع وخمسين قصيدة بيتية خليلية، وست تفعيلية، وقد جاء الإيقاع متنوعًا إلى سبعة قوالب عروضية، هي: البحر البسيط في المقدمة بثماني عشرة تجربة، والبحر الوافر بخمس عشرة تجربة، ثم البحر الطويل بتسع تجارب، ثم البحر الكامل بتسع إضافة إلى تجربتين من الشعر الحر، ثم البحر الخفيف بسبع، وكل الرمل والمتقارب بواحدة... ولعل الفخامة هنا تتمثل في إكثار الشاعر من البحر البسيط، ثم في كم استخدامه البحر الطويل بتسع تجارب: (تغريبة محمود/صاحب/صقر/كيف/قاصمة الظهر/أسمنت/جواز سفر/عتاب/عذرًا أبا الطيب)، وهي نسبة عالية لا تكاد توجد إلا عند ثلة قلة من المبدعين المعاصرين!
أما الحيوية في الإيقاع فتتمثل في إكثاره من الأبحر الغنائية السيارة، وهي الثلاثي الذائع في عصرنا: الوافر، ثم الكامل ثم الخفيف!
وشاعرنا كذلك جامع في بناء قوافيه بين الفخامة والحيوية، فقد نظم على القوافي المطلقة الذلل حيث الرائيات تأتي في المرتبة الأولى، تليها التائيات والميميات، ثم البائيات والاميات، ثم الداليات والقافيات والعينيات، ثم الفائيات والنونيات والسينيات.وهذا دليل حيوية ومرونة وقدرة على التنوع...
ومن الفخامة بناء قوافي بعض التجارب على أحرف عصية صعبة كالضاد والزاي، والصاد!
خامسًا: شمولية الرؤية:
بتدبر تجارب الديوان فكريًّا نجدها تدور حول الثلاثي الجاثم على الإنسان العربي: الذات/الوطن/الأمة. وهي تجتمع في كل تجربة تقريبًا، ولا تستقل، فشاعرنا يتنقل بنا من ذاته إلى وطنه إلى أمته، في أعطاف كل تجربة. يقول شاعرن(محمود مفلح):
الشاعر الميمون ليس بحاطب في الليل يمشي تائه الخطوات
والشاعر الميمون مشعل أمة بل سيفها المصقول في الغمرات
والشاعر الميمون كف تنحني فوق الفقير لتمسح العبرات
والشاعر الميمون صرخة أمتي وإمامها بل راية الرايات
ومع ذلك يمكننا أن نجد (محمود مفلح) بكل اتجاهاته وأحواله: عشقًا، وإنسانية، وإبداعًا ونقدًا، وبرًّا وإنابة، في هذا الديوان، ف(محمود مفلح)العاشق في تجارب: (الحب/طوق نجاة/عشق/شقاوة، قولي/عتاب/وثن) .و(محمود مفلح) الإنسان والعروبي ففي تجارب: (ملثم/حصار/تغريبة محمود/عواصم/حلب/مهاجرون/شآم/عكاكيز/جواز سفر/دنس/يمن).
و(محمود مفلح) المبدع تجده في تجارب: (قلم وقرطاس/أفكار/سيرة/قطار)، و(محمود مفلح) الناقد تجده في تجارب: (سقوط حر/متشاعرون/كلمات/أبا الطيب عذرًا/قراء) و(محمود مفلح) الشاكي الناقد اجتماعيًّا في تجربة(كمل النصاب)، وتجربة(أغوار)/ وتجربة(اعتذار). ويكاد تكون تجربة(لا تنكسر) مضادة في توجهها لقصيدة(كمل النصاب) فالأولى جأرة مبتلى، والثانية صرخة آمل مقدام طموح!
أما محمود مفلح البار ففي تجربتيه(إلى وجه القمر)و(أماه). ومن بره شكواه لحال زوجه رحمها الله في تجربت(محنة)، وفي تجربة(يا فارج الهم) نجد مفلح المتضرع المنيب لنفسه وأهله وأمته!
إنه شاعر هادف بناء وقاف، يقول:
لن تستقيم ولن تجوز صلاتي ما لم أغربل قبلها كلماتي
أخشى إذا أطلقت سهم قصيدتي ألا أنال به سوى الحسرات
إن اللسان أمانة ورسالة فاحففظ لسانك من مصير آت
لا يخدعنك في الطريق مغامر ضل الطريق وغاص في الحرمات
فالشعر ذوب الروح عطر وجودنا لا نشر أعراض على القنوات
إن (محمود مفلح) شاعر فحل نابغة مخضرم، شاعر خاص، انطلق من ذاته، إلى القرية، إلى المدينة، إلى أن يكون شاعر القضية، وشاعر الأمة، يقول:
أحب الناس كل الناس حتى لأغمس في عذوبتهم يراعي
ويملؤني الكفيف أسًى وحزنًا ومن عينيَّ أمنحه شعاعي
وهكذا ديدن شعراء فلسطين يختلفون عن غيرهم، ينطلقون من المأساة التي ولدوا ويُولَدون فيها، ويتعرضون بسببها إلى شموس حارقة ونفوس عميلة عاصفة، ومرارت لا تنتهي، إنه يسيح في القضية الفلسطينية منذ خمسين عامًا، منذ سنة 1969 وهو يُلقي قصيدة في أمسية شعرية في المركز الثقافي في القامشلي، وما زال هذا حاله في كل أمسيات وأصابيح منتديات قاهرتنا العامرة، يعرفنا ويثيرنا شعريًّا بذاته وحاله ووطنه وأمته، ظلمه النقد الإعلامي، وأنصفه النقد الأكاديمي، كما أنصفه القراء، حفظه الله تعالى!