التماهي الرومانسي مع الوطن في تجربة (دماء فاسدة في القلب) للشاعر السيد جلال
   بقلم الأستاذ الدكتور/صبري أبوحسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الحق أنني تعبت تعبًا جمًّا في قراءتي هذا الديوان، وكنت لا أدري سببًا لذلك، وكنت في حيرة طامة، وضعف نفسي وعقلي أمام هذا الديوان، وكنت لا أدري سبب ذلك! وكلما أقدمت على الديوان بالقراءة والمعايشة والمفاتشة وجدتني أنصرف، وكنت لا أدري سبب ذلك، وما حدث هذا معي في معايشة نتاج شعري معاصر! وكان السبب الذي أوحي إلي به بعد القراءة العميقة الصارمة في الديوان أنه ديوان يصعب تصنيفه، وتصعب القراءة الإجمالية له! ديوان به ذاتية، وبه عاطفية، وبه وطنية، وبه إنسانية، ينطلق بك الشاعر من رؤية إلى ثانية إلى ثالثة، يعطيك بعضه، ثم يمنعك بعضه، ثم يهديك، ثم يصدمك! ينطلق بك من القرية إلى المدينة، إلى القرية، ومن عقد زمني إلى عقد آخر، يكون راضيًا، ثم يكون ثائرًا، ثم يكون غزلاً، ثم يكون تاصحًا، ثم قادحًا،... وهكذا دواليك، أنت مع وأنت في إنسان متشظٍّ متماهٍ، في آن واحد: القراءة السطحية تجعلك مع (السيد جلال) المتشظي، والقراءة الثانية تدخلك في (السيد جلال) المتماهي! ذلكم الإنسان الخاص جدًّا وسط هذه النسخ البشرية التقليدية المكرورة المُمِلَّة!

 ولعل إنجاز تلك القراءة الثانية والداخلية يتحقق في المحاور الآتية:

مدخل إلى المتماهي: الشاعر القائد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

السيد جلال عندي هو (السيد) في شخصه حقًّا، وهو في نفسه (جلال) صدقًا، هيبة عجيبة، ونظرة حادة، وهدوءًا نادرًا، وإحساسًا بالذات عاليًا: مقدام جريء كأنه أسد أو صقر أو جنرال عسكري! رأيته غير مرة، في مقر رابطة الأدب الإسلامي العالمية بالقاهرة ساكتًا صامتًا، منفعلا نفسيًّا، به حرارة داخلية عجيبة، يجلس أو يقف ناظرًا بعمق فيما وفيمن حوله!

أتذكر أنه استُدعي من قبل أستاذنا الدكتور صابر عبدالدايم؛ ليلقي قصيدة حين اجتماعنا في صالون الحاكمية الثقافي الذي يشرف عليه معالي السفير عبدالحميد يونس، وإذا به يبدأ في إلقاء قصيدته، فتحدث ضجة محدودة مفاجئة غير مقصودة، فيتوقف غضوبًا عن إلقاء قصيدته، ويرفض مواصلة إلقائها بعد انتهاء هذه الضجة، على الرغم من طلب الجميع منه كبيرًا وصغيرًا العودة إلى المنصة وإلقاء قصيدته، فيرفض ويصر على موقفه، كأنه المتنبي أو شوقي أو نزار! صنع لنفسه خصوصية ووقارًا، فلا يَبتذل أو يُبتذَل، ولا يُتجاوز أو يتعالى! ولعل لتخصصه في علم الرياضيات دورًا في ذلك! 

منذ ساعتها، وأنا أجله وأهابه، وأرى فيه إنسانًا خاصًّا، وقد أهداني ديوانًا له فكنت حريصًا عليه كل الحرص، ووضعته في ملف خاص بالشعر المعاصر، ومن شدة حرصي عليه وضعته في مكان بالمكتبة بعيدًا عن عبث الصغار؛ حبًّا له وإكرامًا، ولكن حدث ما لا تحمد عقباه، نسيت مكان الملف، وأخذت أسائل نفسي مرارًا وتكرارًا: أين الملف؟ أين الملف؟ أين الملف؟! ولما أستطع أن أقرأ الديوان وأتذوقه! وعلمت أنني وقعت في(حيص بيص) أو (حارة سد)!

وحدث أن التقينا ثانية التقاءً هاتفيًّا وإلكترونيًّا عبر منتداه(الشروق الأدبي) فسألني عن الديوان فسردت له ما حدث فغضب، فحاولت شرح حالتي مع الكتب في بيتي، وهي حالة عبثية عشوائية، ما أريده من كتب لا أجده، وما لا أريده يأتيني! فتقبل العذر!

والحق أن سيرة شاعرنا، تدل على إنسان مصري من ريف مصر الخصيب، إنه (السيد جلال السيد علي عبد السلام)، واسم شهرته (السيد جلال_ ozorees_moslim)، ولد في كفر الجرايدة من مركز بيلا، بمحافظة كفر الشيخ، في 31/12/1966م.

ولد مع أجواء الهزيمة العربية المدوية، ونشأ في سبعينيات المواجهة، وترعرع في ثمانينيات الصحوة، وتسعينيات الغفلة، وما زال ينتقل من عقد إلى عقد حتى هذا العقد الكئيب الجديب المخزي!  ويعيش الآن في منطقة الأميرية بمحافظة القاهرة العامرة حينًا، والهادرة دومًا، والساحرة ليلاً، والساكرة نهارًا!

وتخصصه التعليمي الجامعي في علم الرياضيات، من خلال حصوله على شهادة: دبلوم المعلمين سنة1986م، ثم بكالوريوس علوم وتربية جامعة المنصورة، سنة1999م.

أما تخصصه الأدبي فهو شاعر في المقام الأول، ويمارس الفن التشكيلي، له ستة دواوين مطبوعة منشورة، وأربعة دواوين مخطوطة، تنوعت بين واحد من شعر الفصحى(دماء فاسدة في القلب)، وثان للأطفال(قم صلِّ)، واثنين من الشعر الزجلي العامي(آخر ديسمبر/رمضان ما جاناش) ، وله من المخطوطات أيضًا رواية(حياة)، ومجموعة قصصية(على قارعة الرصيف)، ومسرح  للأطفال(كلنا عبدالستار)، ويمارس الكتابة في أدب الطفل، وله رؤى وتجارب نقدية!

بدأ نشر شعره منذ بداية الألفية الثالثة بديوانه الأول  (العبير التائه) (<!--)  ، وتوالت دواوينه(برديات من ذاكرة النهر)(<!--)، ثم ديوان(حبيبي يا رسول الله) (<!--)، ثم ديوان(لحظات ما قبل دخول الجنة)(<!--)، ثم ديوان( ثورة الحديقة،العصفورة الكسلانة) (مسرح الطفل) (<!--)، ثم ديوان(عصب البيت) (<!--). وفي شعره ذاتية عالية، وعاطفية خاصة، وجهاد في سبيل القضية العربية الأولى فلسطين وما يتعلق بها من مقدسات وحقوق، إضافة إلى شعره الوطني الماتع عن مصرنا وجيشنا...

وهو عضو فاعل في كثير من المنتديات كاتحاد الكتاب المصري، وجمعية دار الأدباء بالقاهرة،وعضو مجلس إدارة رابطة الأدب الإسلامي العالمية، و عضو برابطة الزجالين وكتاب الأغاني، وعضو بمنتديات القاهرة الأدبية الأخرى.. وقد عمل سكرتيرًا لمجلة الفجر الأدبية (1993-2002م)، وشارك في مؤتمر أدباء مصر بالأقصر 2004م، وببنها سنة 2015م، وبشرم الشيخ 2017م، وبمحافظة مطروح سنة2019م، وفاز بعضوية الأمانة العامة لمؤتمر أدباء مصر كأمين عام لأدباء، في محافظة القاهرة لعامي 2018/2019م.

وقد شارك في تحكيم المسابقة الثقافية ( شعر وزجل ) لوزارة القوى العاملة في  الأعوام (2016/2017 - 2017 / 2018 - 2018 /2019 )، وهو يعمل الآن رئيس نادي أدب المطرية (2020/ 2022م)، وهو مؤسس منتدى شروق الأدبي بتاريخ 2/6/2007م، و هو محاضر معتمد بالهيئة العامة لقصور الثقافة.وقد  فاز بالمركز الثاني في شعر الفصحى في المسابقة الكبرى لجريدة الجمهورية 2011م، وتم إعلان النتيجة في فبراير سنة2012م.

إن هذه السيرة الذاتية الحية الفاعلة، تدلنا على شخصية مصرية مثقفة رائدة، حاضرة بقوة في الشأن الثقافي المصري الرسمي والشعبي، بطريقة فردية خاصة، شخصية فاعلة، شخصية منتجة، شخصية قائدة، مؤثرة إيجابيا بعقلها وقلبها فيمن حولها، تُنطق العناوين وتجادل الأحداث وتداعب الزمان، وتنبض المكان، وتنتقل بإبداعها من مكان إلى آخر، ومن فن إلى ثان، ومن جيل إلى جيل. دام حضوره وعطاؤه وألقه ووهجه!

إننا مع شاعر مخضرم، يدرك رسالة الشعر والفن ودورهما عبر الزمان والمكان والحياة والأحياء، يكاد يتجاوز عمره الثقافي والإبداعي الثلاثين عامًا! فقراءته ثرية وقراءته مثرية، وقراءته إضافة إلى خريطة الشعر المصري الحالي!

مع الديوان وفيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن (دماء فاسدة في القلب) ديوان من الشعر السطري التفعيلي الحر، المعتمد على تكرار التفعيلة الواحدة، من البحور الصافية، عدا قصيدتين بيتيتين. وقد تكون من عنوان، وإهداء، وثمان وخمسين تجربة، ذيل شاعرنا كل تجربة بمكان وزمان إبداعها. وبقراءة هذه التذاييل نجد أن بيئة هذا الشعر مكانيًّا تتأرجح بين القاهرة التي فيها حياته ومعاشه، وكفر الجرايدة (بكفر الشيخ)التي منها ميلاده ومنشؤه، و(عمروس بمركز الشهداء بالمنوفية) التي منها حبه وهواه، ثم زوجه، وربة بيته ووزير داخليته. أما بيئة هذا الشعر زمانيًّا فتبدأ من بداية عقد التسعينيات من القرن الغابر إلى نهاية العقد الثاني من هذا القرن القاهر. ولم يرتب شاعرنا تجارب ديوانه تاريخيًّا أو مكانيًّا، بل رتبها عاطفيًّا وفكريًّا، فجمع كل التجارب الذاتية وراء بعضها، وجمع التجارب الاجتماعية وراء بعضها، ثم كانت التجارب الفذة الخاصة العالية التي تمثل شاعرية(السيد جلال في أوجها) في نهاية الديوان.والخيط الجامع بين التجارب هو ذات الشاعر وانفعاله مع عالمه الداخلي ثم الخارجي، من خلال غربة نفسية، وأخرى خارجية، تنتظمها حالة حزينة، تمتد طولا وعرضًا، قلبًا وقالبًا. والغالب في التجارب الرمزية الشفافة، الموحية، القابلة لغير تأويل، وغير تفسير .  

 

وفي المحطات الآتية أدلة نصية وفنية على ذلك:      

 

<!--في البدء تجد عتبتي العنوان والإهداء في الديوان دالة على ذلك:

أما عتبة العنوان فنصها(دماء فاسدة في القلب). وهو جملة اسمية مكونة من مبتدأ مفرد نكرة أخبر عنه بخبرين هما خبر مفرد(فاسدة)، وخبر شبه جملة (وفي القلب)، أو مكونة من مبتدأ موصوف(دماء فاسدة) وخبر (شبه جملة: جار ومجرور) هو(في القلب).

فالدماء فاسدة ومستقرة في القلب، أو الدماء الفاسدة مستقرة في القلب.

فالفساد إما خبر ونتيجة، وإما سبب ونعت، والقلب محل ثابت لهذه الدماء!

وهذا العنوان الشاعر الجاذب الدال يثير أسئلة في عقلية المتلقي، هي:

ما (أو من) هذه الدماء؟ وما فسادها؟ وما (أو مَن) القلب؟

ولا يجاب عن هذين السؤالين إلا بقراءة الديوان كله، وقراءة القصيدة الثانية عشرة المعنونة بهذا العنوان.

 إننا أمام ديوان يصور خسارات وانكسارات داخلية نفسية وخارجية، جاثمة على الشاعر وأحيائه وحيواته!

أما الإهداء فيزيدنا قناعة بهذا الإحساس الجاثم، جاء نصه:

إهداء:

إلى الذي يصبُّ في قلبي

كما ينبعُ منهُ

إلى الحصان الأسودِ

المتْعبِ من فرسانه،

ولم يهنْ كرٌّ، و لا فرٌ لهُ

إليكَ يا"حعبي/حابي"

إليكَ يا نيل....

هذه سبعة أسطر شعرية على نسق تفعيلة الرجز(مستفعلن) بصورها[مُتَفْعِلُنْ]، مثل (إلى الذي)[ٍمُسْتَعِلُنْ] مثل (مُتْعَبِ مِنْ)، و[مُسْتَفْعِلن] مثل: (فرسانه)، (فَرٌّ له)، [مُسْتَفْ] مثل(نيلُ).

وطريقة صياغتها تدل على أن الديوان كله رسالة من الشاعر إلى من وصفه بأنه (يصبُّ في قلبي، كما ينبعُ منهُ، (الحصان الأسودِ)، و(المتْعبِ من فرسانه)، وأنه لم يهن في كر ولا فر، وسماه بهذين الاسمين الفرعونين(حعبي/حابي) و حعبي أو حاپي هو إله النيل عند الفراعنة المصريين القدماء. ومعناه السعيد أو جالب السعادة. وهو أحد الأبناء الأربعة لحورس الكبير و إيزيس أو سرقت، المذكورين في النصوص الجنائزية، وخصوصًا على الجرار التابوتية التي تحوي أحشاء الميت. ويصور في الأدب الجنائزي كحامٍ لعرش أوزوريس في العالم الآخر.  وواضح من هذين الاسمين البعد الخاص في شعر (السيد جلال) وهو النزعة الفرعونية في الصياغة والتصوير، ومن ثم لا نتعجب حين نقرأ أن شهرته(أوزوريس المسلم)

وهذا الموصوف بهذه الصفات المتنوعة قيمة وجهدًا وجهادًا هو النيل. وهو المرسل إليه كل تجارب الديوان. وبناء على هذه الرؤية يمكننا أن نجعل الديوان وطنيًّا باطنيًّا، عاطفيًّا خارجيًّا.

  وهذا الديوان ابن زمانه، يتحدث عن النيل ماضيًا فرعونيًّا، وواقعًا آنيًّا، نحن أمام شاعر عاشق وطنه، عاشق سبب الحياة والأحياء في وطنه، إنه شاعر النيل، وابن النيل، وحامي النيل، المقدر للنيل، والخائف الوجل للنيل في واقعه وقادم أيامه...

هنا الإهداء يفسر العنوان، فالقلب هو الوطن، والقلب هو النيل، والقلب هو الإنسان المصري!

ولا عجب في صنيع الشاعر ورؤيته الخاصة المخلصة، إذ نجده يستخدم لفظ (القلب) في تضرعه ومناجاته إلهنا -عز وجل- في قصيدة سابقة على الديوان، وليست منه، عنوانها(مناجاة) قائلاً:

إلــهــي أدمت الأحزان قلبي    ولا يرجى له أبدًا شفاء

تكالبت الضباع على جراحي    وما للحزن في وطني دواءُ

شهيقي كالزفير مدمدمان      وفي رئتي الذئاب لها وفاء

ثم يشكو إلى الله الفسدة الحقدة أعداء الوطن والإنسان قائلاً:

على الدرب القويم إليك نمضي     ويسقط في الطريق الأدعياء

فيلوون الحقائق فيسفور    بلا خجل وما بقي الحياء

يكيدون الورى كيد النساء   يسوقهمُ تعالٍ وازدراء

فكونوا مثلما شئتم فأنتم  وما تأتونه قطعًا سواء

فما لله يبقى في الكتاب    وما للغير ليس له بقاءُ

وقراءتنا القصيدة المعنونة بعنوان الديوان تزيدنا بيانا عن الدلالة الكلية لهذا الديوان الناجع النافع الماتع الناصع....

التجارب الأولى في الديوان:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يبدأ شاعرنا ديوانه بمجموعة قصائد ظاهرها ذاتي رومانسي، وباطنها وطني قومي:

تأتي القصيدة الأولى(القصيدة الأرق) ممثلة لمطلع الديوان. وهي سطرية قصيرة، بلغت ست عشرة سطرًا، على نسق(مستفعلن الرجزية)، ولعل الشاعر أطلق عليها قصيدة رغم قصرها؛ لما كان في نيته وقصده من إنجازها كبيرة الكم، لكنها خرجت في هذا الكم السطري المحدود، وهيمن على نهاية أسطرها قاقية القاف الساكنة، وفيها صخب لفظي وإيقاعي جاثم، وعنوانها دال على حالة نفسية متأزمة، مع من يخاطبها، تبدأ بضمير المخاطبة المؤنثة، التي تحتمل أن تكون أنثاه، وتحتمل أن تكون بلده، وتجد فيها عبارات: (الفؤادُ يحترقْ) (شدّني نحوَ الغرقْ)، (حريقه الشفق)، (فؤادًا محترق)، الدالة على محنة وفاجعة تحدث عنده أرقًا، حاول التعبير عنه بقصيدة فكانت أرقًا في إبداعها، وأرقًا في مضمونها، وتاريخ إبداعها يعضد هذه الرؤية، ولن أذكره! وهي قصيدة مناسبة جدًّا لزمن إبداعها، فقد كان زمنًا زاخرًا بالمحبطات والمكدرات، جعل كل مصري ومصرية، في القمة والقاع، في المركز والهامش، في حالة أرق تامة وقلق صاخة!

ثم تأتي قصيدتاه القصيرتان الوجعان: وجع أول، ووجع ثان، المنبنيتان على نسق(فاعلن المتداركية)، وبنية التكرار مهيمنة في إبداعهما: تجربة(الوجع الأول) محزنة مؤسفة، تبدأ بخبر عن صوت وآهات ونبض، يأتيه من محبوبته، مصحوبًا بالوجع، وكأننا أمام حبيب وحبيبة! لكن يصدمنا الشاعر المتماهي في وطنه قائلا:

حبّك مشنقةٌ تبعثُ فىَّ الروحْ

ألحانٌ طربتْ بقصائد قلبٍ مذبوح

أرقٌ من قممٍ وسفوحْ!!

 

  فالشنق والذبح والأرق ألفاظ من حقل دلالي خاص، لا يناسب مقام العشق، وإنما مقام الوطنية زمن الأزمات والنكبات والتخبطات!

وتجربة (الوجع الثاني) مسعدة مفرحة، تصل أعلى درجات الوحدة والاندماج في قول السيد:

أنبأني عنك ِ...

عن لهفةِ عينيكِ

تشتاقُ لهذا القادم ِيشتاقُ إليكِ

عن هذي الطفلةِ تسكنُ في جنبيكِ

                          عن لحظة حبٍّ تتفتحُ في شفتيكِ

إن مخاطبته هنا صافية(كمياه النهر العذب) متحركة مطربة(تسير تغني) ...

وتأتي تجربة (عشق) القصيرة سطريًّا[عشر أسطر]، والكاملية تفعيليًّا[متفاعلن]، فاصلاً عاطفيًا ملطفًا من لأواء الوجع والآهات والإحساب بالغروب والمعاناة، يقول السيد:

 الآنَ كيفَ إذنْ

أعيرُ الوقتَ في العمرِ اهتماما؟

حينَ الهوى يتوقّفُ الوقتُ...

نرمي وراءَ قلوبنا الأيامَ

فهذه حالة هيام خالصة شادية!

وفي تجربة (غروب) القصيرة سطريًّا[تسعة أسطر] المتقاربية التفعيلة(فعولن) نجد الانكسار والألم الجاثم الذي عبر عنه شاعرنا في ختامها:

وعندَ الغروبِ جلستُ وحيداً

بغير ِكتابٍ...

بعين ٍحزينة ْ..

أقلّبُ كفّيَّ موتاً بطيئا

بغير ِانتهاءْ

وما أقسى الموت البطيء! وما أتعب أن يكون بغير انتهاء!

وتأتي تجربة (لن أبيع) الرملية، الوسطى سطريًّا[ثلاثة وعشون سطرًا)؛ لتعلن عن ثبات العلاقة وديمومتها، على الرغم من تقلب كل شيء وتعرض كل شيء للبيع، يقول:

ليس لي قلبان في جوفي

فأهوى غيركِ

ما بجنبي والليالي قد ملكـْتِ

كلُّ حُلْو ٍفي حياتي كلِّها كان لكِ

قبلَ شقِّ القمرِ

وارتحال ِالعُمرِ...

وارتفاع ِالشمس ِفي حسّي

إنها علاقة وجدت منذ كان، (قبل شق القمر، وارتحال العمر، وارتفاع الشمس في حسه!) مما يدل على أنها علاقة بالقلب/المكان، وليس القلب/الزمان، فيتماهى لديه الشاعر مع المواطن تماهيًا شفافًا رقيقًا!

ومن حالة (الوجع)، ثم (الغروب) ثم (عدم البيع) إلى حالة (الهجر) تقلبات ومتاهات يدخلنا الشاعر إياها، معبرًا عن النفس البشرية العصية على التفسير والتحليل والتصنيف والتأويل!

وتجد في تجربة(هجر) توظيف تقنية التجنيس المسمى بديعيا (جناس التركيب المتشابه) حيث يتم التشابه بين لفظين مركبين متفقين في الخط، وقد وظفه الشاعر رابطًا رئيسًا بين مطلع النص وختامه في قصيدته هذه، حيث يقول:

أيا ملاك الشِّعر:

هل هجرتني

سكنتَ عُشا غير عُشِّي

بعدما أغويتني...؟

سئمتَ حالي؟

سئمتَ حزني وتعاستي وأوحالي؟

سئمتَ حِلِّي شاردا فيك

كما سئمتَ ترحالي

وأنت من أوحي

إلي متعوسِ ليلي الشعرَ منحةً

وأوحَي لي....؟

وتبدو في نهايات الأسطر إلزام الشاعر نفسه الحاء قبل الألف واللام والياء في كلمات:(حالي/أوحالي/ترحالي/ أوحى لي)، وفيها انكسار نفسي، حيث الحزن والتعاسة، والأوحال، والشرود، ومن ثم كان أن هجرته ملاك الشعر!

وفي تجربة (دوران) الرجزية نجد الإعلان عن استمرار العلاقة بين الذات/الجزء، والوطن/ الكل، حيث يقول شاعرنا متناصا مع رباعيات عمر الخيام(ت1131هـ):

(إنْ تُفصَلُ القطْرَةُ من بحرِها...)*

ففي ملامح ِالوجودِ

دوَّنتْ أسرارَها

كقطرةٍ من دمنا تجري وتلعبْ

تدورُ كالأفلاكِ في المدارْ

القلبُ منبعٌ لها وهْوَ المَصَبْ

ففي الرّحيل ِعيشُها

وفي البقاءِ موتُها....

لو سكتَ الفؤادُ أو نَضَبْ

فالعلاقة بينمها علاقة قطرة الدم بالقلب، إن تحرك عاشت، وإن سكت أو نضب ماتت! فالحركة والرحيل حياة، والبقاء والسكون جفاف وموت!

وبعد هذه التجارب التسعة المعلنة عن قلق وأرق واضطراب ووجع، تأتي زفرة(إرادة) نتفة شعرية بيتية هائية على نسق البحر السريع، لتكون أنشودة كل بائس يائس، وكل متألم قانط، يقول:

أقبلْ على الأيام مبتسماَ           وافتح ذراعيك احتفالا بها

لا تبتئسْ من فعلها أبداَ        مهما تقلبتْ فنحن لهاَ

نروي ثراها والدّنا أملاَ          ونزرع الساعات في حبها

مَنْ غيرنا زهرُ لها عاطرٌ        مَنْ غيرنا يزرع في حقلها

قصيدة حية فاعلة نابضة، أُعدها علاجًا نفسيًّا لكل متلق عربي في آننا، في زمن الكآبة والغرابة، والجفاف والجفاء والتأييس والتقنيط، والحرب النفسية التي لا تنتهي على ذلكم الإنسان العربي المنكوب في وطنه وأمته، ويكادون يشككونه في مقدساته وتاريخه وتراثه وأعلامه وأبطاله وغزوااته وإنجازاته!إنها تجربة أبدعت عام 1997م، وما زالت حية، ينفعل بها إنسان وقتنا الغشوم!

وتأتي التجربة الحادية عشرة (عناء اللحظة) معلنة عن بعد طريف في شخصية المبدع، حيث يقول:

متعبُ القلبِ وسْط الطريقِ ِ

خِلتُ نفسيَ قبطانَ بحرٍ عنيدْ

أُسكِنُ القلبَ في القلب ِ

ثم أبدأُ منتشياً من جديدْ

فجأةً صِرْتُ ميْتا

يحرّقني قلبكِ مستمتعاً

بعذابيَ..

عن شقوتي لا يحيدْ

...

أنا العاشقُ المُستَبَدُ العنيدْ

فكونه قبطانًا، يفنى قلبه في قلب، ويتحرق قلبه، والعشق، والعناد، ووقوع الاستبداد عليه، مفردات طريفة لتجربة خاصة جديدة! وهي تسير في الخيط الروحي والفكري، القلق الأرق المعاني، الذي يهيمن على التجارب الأولى للديوان!

وفي التجربة الثانية عشرة نجد الحوار الثنائي بينه وبينها المعلن عن سراب وخواء، يكشف عنه ختامها:

يا نعيمَ الأشقياء السجدِ

في صحاري الزيفِ

يبنون الخلا

ما رأينا طائراً

ـ كنتِ مناهُ ـ

واستعاد الجوَّ

أو نال العلا !!

وهكذا يصدمنا الشاعر، ينتقل بنا من هيام إلى هجر، إلى وصل، إلى قطع، معبرًا عن الحالة الإنسانية والبشرية التي تتقاذفها الحياة والأحياء!

وتجد الأنا مهيمنة في قصيدته الرومانسية(حبٌّ قبضُ النار) وهي كبيرة الكم السطري(تسعة وستون سطرًا)، فيكرر سطر المطلع(أنا لا أبحثُ عن تجربةٍ أخرى) بين كل مقطع، ويعرف نفسه بأنه قلب، يقول:

أنا لا أبحثُ عن تجربةٍ أخرى

عن حبٍّ يلتهمُ الباقيَ منّي

فأنا صرتُ كتابًا مطبوعًا

لا يقبلُ بعضَ إضافة ْ

قلبًا يسعَى بين الناس ِ

ويعرفهُ العامّةُ والخاصّة ْ

يرفضُ أيَّ ملامحَ أخرى

تجعل منه كيانًا آخرَ

لم تأْلفْهُ روحكِ أنتِ

مثبتًا ومقررًا ومؤكدًا عاطفته تجاه معشوقته وفناءه ووحدته فيها ومعها؛ خوفًا من نار الغيرة ومخاطر تعدد العلاقات وتنوعها!  

أما القصيدة التي عنون بعنوانها الديوان (دماءٌ فاسدةٌ في القلبِ)فهي بيتية في الأساس، مكونة من تسعة عشر بيتًا، لكن كتبها الشاعر سطرية، مكونة من واحد وخمسين سطرًا، جاءت على نسق تفعيلة البحر الكامل(متفاعلن، بصورها المختلفة)، وهي مجموعة من الصور الشعرية الدالة على انكسارات وانتكاسات في القلب/ الذات، والقلب/الوطن، يقول السيد جلال في مقطعها الأول:

لي في عيون الشرق قلبٌ هائمٌ          بين الرياض ِمن الأسى يتفطّرُ

كل الحدائق زانها قمرٌ،               فما للزهرِ باتَ مُنكَّساً يتحسّرُ

حتى الطيورِ تخاذلتْ في نفسها           تشكو فجيعتها لمن يتضوَّر

فالانكسار الداخلي(الأسى) والانتكاس الخارجي(مُنكسًا يتحسر) مهيمنان على الشاعر، كما تجد هذه الحالة في هذه الثنائية المقلوبة: (فالنورُ يُقهرُ، والدُّجَى لايُقهرُ !!)

وسبب هذه الانتكاسة وهذا الانكسار مذكور في قول الشاعر:

لا يجْدَعُ الآنافَ يا وطني

سِوَى قلبٌ

تردَّى في الهوى يتحيّرُ

ويختم شاعرنا قصيدته بالحل قائلا:

يا قلبُ

هل للقلبِ من روح ٍ تُحرِّرهُ

سوى دمهِ بهِ يتحرّر

ـ في غبطةٍ ـ

من جانبٍ لجوانبٍ

ما من حدودٍ،

أو قيودٍ تأْسرُ

فالعطرُ حرٌّ،

والوجودُ رياضُهُ

يأبى الحُبوسَ جهارة يتذمّرُ

يا قلبُ حررْ أُغنياتكَ والدّما

يا قلبُ غيّرْ،

ربما نتمصرُ

فالتغيير الداخلي هو الحل، وهو الخلاص، حتى ننتقل من حالة البداوة والجهالة إلى الحالة المدنية(نتمصر)...

وهذا التعبير(نتمصر) دال على أن المراد بالقلب في المقام الأول (مصر)، وأن (الدماء الفاسدة) هي النماذج البشرية المزيفة والملوثة والدخيلة التي ابتعدت عن (مصر) روحًا وتاريخًا وحضارة وثقافة!

وبعد هذه التجارب الذاتية الأولى ننتقل إلى التجارب الغيرية الاجتماعية، ومع أول تجربة (ملاح في نهر الحب) نلحظ أن شاعرنا ما زال رومانسيًّا، ويأبى إلا أن يكون رومانسيًّا، على الرغم من كون مناسبة الإبداع غيرية، فهي (إلى روح الأديب/سمير كرم فريد)، وهي مكتوبة سطريًّا من ثلاثة وخمسين سطرًا، على الرغم من كونها بيتية مكونة من سبعة عشر بيتًا، على نسق البحر الكامل التام الذي قافيته عينية مطلقة بالألف!

وهي أنموذج عالٍ لما يمكن أن يسمى الترجمة الشعرية الغيرية، جدد فيها شاعرنا منذ العنوان، الذي نصه: (ملاح في نهر الحب) المكون من جملة اسمية مكونة من مبتدأ وخبر شبه جملة، والمبني على تشبيه الراحل بالملاح، ومشاعره أو قلبه بنهر الحب، فهو عنوان يمثل صورة بيانية مكثفة، مُبِينة عن الراحل، قالت وتقول كل ما يمكن أن يتوقع عن هذه الشخصية السمسرة الفريدة، بدأها بمقطعين استفهاميين اندهاشيين، قائلاً:

ماذا عساني قائلاً،

والصدقُ فينا

باتَ مَسْكُوتَ اللسانِ

مُودِّعا..!؟

ماذا أراني فاعلاً

يا صاحبي في منتدى

قد ضمّنا عُمْراً معًا

لو أنَّني قد جئتُهُ

كيما أراكَ لجمعنا مُتطلِّعا

وأرى مكانك خالياً

من ربّهِ متألماً

متحسّراً متصدّعا

ويظل يعدد مآثر الأديب الراحل ناعتًا إياه بنعوت الجمال إنسانيًّا وثقافيًّا:

كُنَّا لكَ الأبناءَ

لم تبخلْ علينا مرّةً

بأبوّةٍ مُتمنِّعا

جئناكَ نبحثُ عن حنين ٍ كنتَه ُ

متودّدًاـ في نُصْحِنا ـ

                                             متواضعا

ويعلن عن عاطفته نحوه قائلا:

يبكيكَ قلبي

يا مدائنَ عِشْقهِ

والدّمعُ لو يجدي

بكينا رُكّعا

في كل أرض ٍجبْتها

ـ في حبنا ـ متفانياً

                                 متمنّياً أن نُجْمعا

 

وما زالت لفظة القلب مهيمنة على شاعرنا لا تكاد تتخلف عنه في تجربة إما صرحة أو ضمنًا، فهو قلب، وشاعر القلب، وعاشق القلب، ووطنه قلب، وكل محبوب من محبوبيه قلب!

<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

<!--)) سنة (2000/2001)  عن إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد/شركة الأمل للطباعة والنشر.

<!--)) صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 2011م.

<!--)) طبع ونشر على نفقة الشاعر الشخصية سنة 2012م.

<!--)) صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.

<!--)) صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة2020م.

<!--)) صدر عن (عن الهيئة العامة لقصور الثقافة) سنة2020م.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 141 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

328,170