نهر النيل عطاء الله لا مانع له
إعداد الدكتور/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المسلم به عند العقلاء في كل زمان ومكان أن الماء سبب الحياة ووقود الأحياء في هذه الأرض المعمورة به، وأنه نعمة عظيمة من الله –تعالى- على الإنسان، قال الله -تعالى-:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (<!--(}، وقال الله -تعالى أيضًا-: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (<!--(}؛ ولذا قرر الرسول – صلى الله عليه وسلم- أن الماء حق الناس جميعًا، وشدد على تحريم احتكاره أو حبسه أو إهداره؛ ليكفل الأمن المائي للناس كافة. رُوي عن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ثلاثة لا يُمنَعْنَ: الماءُ، والكلأُ، والنارُ(<!--("، وفي رواية: «الناسُ شُرَكاءُ في ثلاثٍ: الماءُ، والكلأُ، والنارُ(<!--(، وثمنُه حرامٌ(<!--(»... ولذا جاء في مدونات فقهائنا الأجلاء في باب الطهارة، وباب إحياء الموات: ماء الأنهار والبحار وماء العيون والأمطار، هذه الأنواع كلها ملك للناس جميعًا ليس أحد أولى بها من أحد، وهي لا تُباع ولا تُشتَرى ما دامت في موضعها. أما إذا أحرز الإنسان الماء وحازه، أصبح ملكًا له.
ومصرنا تختص بنهر النيل، حتى قال المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت مبالغًا: " إن مصر هبة النيل "فهو منذ القدم يحمينا من شرور الجفاف في السنوات العجاف، ومصر كما وصفها عمرو بن العاص لسيدنا عمر بن الخطاب-رضي الله عنهما- قائلاً: مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر وعرضها عشر، يخط وسطها نهر ميمون الغدوات، مبارك الروحات، يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان تظهر به عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا اصطلح عجاجه وتعظمت أمواجه، لم يكن وصول أهل القرى إلى بعض إلا في خفاف القوارب وصغار المراكب، فإذا تكاملت زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدأ في شدته وطما في حدته، فعند ذلك يخرج القوم ليحرثوا بطون أوديته وروابيه، فيبذرون الحب ويرجون الثمار من الرب، حتى إذا أشرق وأشرف سقاه من فوقه الندى وغذاه من تحته الثرى، فعند ذلك يدور حلابه ويغنى ذبابه، فبينما هي يا أمير المؤمنين درة بيضاء إذ هي عنبرة سوداء، فإذا هي زبرجدة خضراء، فتبارك الله الفعال لما يشاء(<!--(. فبَيِّنٌ عظمة أرض مصر وبركتها، والتأثير الطيب للنيل فيها، وأن كل ذلك بقدر الله وقدرته عز وجل. وقد روي أثر عن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما- أنه قال: "نيل مصر سيد الأنهار، وسخر الله له كل نهر من المشرق إلى المغرب، فإذا أراد الله تعالى أن يجري نيل مصر أمر الله كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له الأرض عيونًا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله -عز وجل- أوحى الله إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره(<!--("..
وقد رد ذكر نهر النيل في القرآن الكريم في عدة مواضع إما تصريحًا أو تلميحًا، وقد خصه الله -سبحانه وتعالى- بلفظة (اليم)، التي تُطلَق أيضًا على البحار؛ فجاءت ستَّ مراتٍ وقفًا على نهر النيل دون غيره من الأنهار. وقد جاء وسيلة إنقاذ لسيدنا موسى -عليه السلام- كما في قول الله تعالى في قصته: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى .أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (<!--(}، وفي قوله -سبحانه وتعالي أيضًا-: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (<!--(}. كما جاء النيل في القرآن الكريم عقابًا للمتجبرين المتكبرين، كما في قول الله تعالى عن فرعون وقومه وجنده: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِين(<!--(}. كما جاء عذابًا ودمارًا للضالين الفاسقين، كما في قول الله -تعالى- مخبرًا عن السامري أنموذج الضال المضل:{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا(<!--(}.
وقد ذكر النيل بصفة ضمنية بمعناه في قول الله-تعالى- على لسان فرعون: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (<!--(}. فالمقصود بالأنهار في هذه الآية هي نهر النيل وفروعه، حيث كانت أرض مصر في أيام فرعون عامرة بالقناطر والجسور بتدبير وتقدير، حتى أن الماء كان يجرى تحت منازلهم وأقبيتهم فيحبسونه كيف شاءوا ويطلقونه حيث شاءوا. قال المفسرون: "لما خاف فرعون ميل القوم إلى موسى، فجمعهم ونادى بصوته فيهم مفتخرًا، أو أمر مناديًا ينادي بقوله: أليس لي ملك مصر العظيم، فلا ينازعني فيه أحد، والسلطة المطلقة لي، وأنهار النيل تجري من تحت قصري وبين يدي في جناتي، أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك، وتستدلون به على أحقيتي بالسلطة وفرض النظام، وتنظروا إلى فقر موسى وضعفه هو وأتباعه عن مقاومتي؟!(<!--(" وهذا دال على أن نهر النيل عظيم، ومن عظمته كان سببًا من أسباب فخر فرعون وكبره على قومه والآخرين! كما فسر بعض المفسرين قول الله –تعالى- إخبارًا عن فرعون الذي حدد لسيدنا موسى -عليه السلام- موعدًا لمقابلة السحرة: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (<!--(}، إنه يعني الاحتفال بوفاء النيل كسر الخليج؛ إذ إن العادة قد جرت منذ القدم على أن اجتماع الناس لتخليق المقياس يكون في هذا الوقت. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "فمصر من قديم الزمان تحتفل فيه وتتزين سرورًا باطمئنانها على السقي والرعي، ولعل كليم الله موسى اختار ذلك اليوم؛ لأنه يكون فيه جمع حاشد، وفيه تذكير برحمة الله –تعالى- على مصر بهذا النيل السعيد، الذي يفيض رحمة من الله، فيكون الفصل في قضية الإيمان في زمان ومكان يكون نعمةُ الله سابغةً على مصر الزراعية(<!--(". وفي قوله تعالى: { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (<!--(}. فسر المفسرون هاتين الآيتين أن الجنان كانت بأرض مصر بحافتي النيل من أوله إلى آخره على الجانبين جميعًا ما بين أسوان إلى رشيد(<!--(.
وهناك إشارة في القرآن إلى هذه النعمة العظيمة على أهل مصر بهذا النهر العظيم، يقول الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ(<!--(}، قال كثير من المفسرين: المقصود بهذا الماء النيل، والمفسرون الذين قالوا: ليس مقصودًا به خصوص النيل، قالوا: إن أعظم مثال تتجلى فيه هذه النعمة هو النيل في مصر. حيث يسوق الله -تعالى- إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة، وفيه طين أحمر، فيغشى أرض مصر وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء، وذلك الطين أيضًا، لينبت الزرع فيه، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم، وطين جديد من غير أرضهم، فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود ابتداء(<!--(.
ونهر النيل في السنة النبوية الشريفة من أنهار الجنة أو كأنهارها؛ فقد روي عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «النيل وسيحان وجيحان والفرات، كلٌّ من أنهار الجنة(<!--(» .
ورُويَ في إسرائه -صلوات الله وسلامه عليه- أنه قال: "رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان: فنهران في الجنة وأما الظاهران: فالنيل والفرات(<!--(".
ولعل المراد من كون هذه الأنهار من الجنة أن أصلها منها كما أن أصل الإنسان من الجنة، فلا ينافي الحديث ما هو معلوم مشاهد من أن هذه الأنهار تنبع من منابعها المعروفة في الأرض، فإذا لم يكن هذا هو المعنى أو ما يشبهه، فالحديث من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها، والتسليم للمخبر عنها. وقال الإمام القاري: إنما جعل الأنهار الأربعة من أنهار الجنة، لما فيها من العذوبة والهضم، ولتضمنها البركة الإلهية، وتشرفها بورود الأنبياء إليها وشربهم منها.
ويوجد في تراثنا أثران فيهما طمأنة لكل مصري ومصرية، وسوداني وسودانية على حاضر النيل ومستقبله إن شاء الله؛ إذ يدلان على أن النيل يجري بأمر الله وقدره، وأنه عطاء الله، ولا مانع له، وأنه لا يمكن لبشر أن يتحكم فيه؛ فقد رَوَى يزيد بن أبي حبيب: أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- سأل كعب الأحبار: هل تجد لهذا النيل في كتاب الله خبرًا؟ قال: إي والذي فلق البحر لموسى-عليه السلام- إني لأجد في كتاب الله -عز وجل- أن الله يوحي إليه في كل عام مرتين: يُوحى إليه عند جَرْيه: إن الله يأمرك أن تجري، فيجري ما كتب الله؛ ثم يُوحَى إليه بعد ذلك: يا نيلُ عُد حميدًا(<!--(". وروي أنه جاء كبار أهل مصر لعمرو بن العاص–رضي الله عنه- وقالوا له : نحن من عادتنا أن نأتي بجارية بكر ونزينها بالحلي والثياب ونقوم بإلقائها في نهر النيل ليجري ويعم الخير، وعندما علم عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بذلك أرسل رسالة لعمرو بن العاص وقال له فيها: إن كان نهر النيل يجري من عندك بسبب الجواري فنحن في غنًى عنه، وإن كان يجري من عند الله فباسم الله يجري ونحن في انتظاره. بعد ذلك بدأ المصريين يقومون بإلقاء هذه الرسالة في النيل بدلاً من الجواري، وسُمِّي ذلك بعهد النيل، وأصبحت بعد ذلك عادة يقوم المصريون باتباعها كل عام كتحية منهم لنهر النيل. حفظ الله نيلنا وبارك فيه.
<!--[if !supportFootnotes]-->
<!--[endif]-->
(<!-- ) سورة الأنبياء : من الآية30.
(<!-- ) سورة الحج : من الآية5.
(<!-- ) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: رواه ابن ماجه من طريق سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا: فذكره، وإسناده صحيح". راجع الفتح (5/ 430).
(<!-- ) رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي «سنَنه» مسندًا عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، وحكم عليه بأن: إسنادٌ جيد.
(<!-- ) أخرج هذه الزيادة ابن ماجة 2/826، حديث (2472).
(<!-- ) النجوم الزاهرة 1/32-33.
(<!-- ) النجوم الزاهرة 1/33-34.
(<!-- ) سورة طه، الآيتان:38،39.
(<!-- ) سورة الأعراف، الآية:136. وكذا في سورة القصص، الآية40، وفي سورة الذاريات، الآية 40 .
(<!-- ) التفسير المنير للزحيلي25/166.
(<!-- ) زهرة التفاسير9/4743، طبع دار الفكر العربي بالقاهرة.
(<!-- ) سورة الشعراء، الآيتان57،58.
(<!-- ) متنزهات القاهرة في العصرين المملوكي والعثماني، ص 16، د. محمد الششتاوي، القاهرة: دار الآفاق العربية، 1999م.
(<!-- ) تفسير القرطبي14/111، وتفسير ابن كثير6/332.
(<!-- ) أخرجه مسلم في الصحيح 4/ 2183، كتاب الجنة (51)، باب (ما في الدنيا من أنهار الجنة (10)، الحديث (26/ 2839). ذكر الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: أن هذين النهرين يوجدان ببلاد الأرمن؛ فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر أدنة.
(<!--)صحيح البخاري4/109، رقم(3207).
(<!--) فتوح مصر والمغرب1/202، والنجوم الزاهرة1/45.