بنية السرد ودلالته في أقصوصة(شوق) للقاص ناصر صلاح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التعريف بالمبدع: ناصر صلاح المجذوب الحار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجع علاقتي بالمبدع ناصر صلاح عبد العاطي إلى أخريات القرن العشرين، في رحاب نقابة المهندسين ومقر رابطة الأدب الإسلامي العالمية حين كان بجمعية الشبان المسلمين برمسيس، من خلال صحبة طيبة تجمعنا بالحبيب المهندس وحيد الدهشان، حفظه الله تعالى، وقد كان(ناصر) يومها-وما زال- شابًّا ظريفًا متثقفًا، هادئًا هاديًا بانًيا مضيفًا مفيدًا مثقفًا، عاشقًا للإبداع متابعًا للمبدعين والمبدعات، يجمع بين التخصص العلمي البحت من خلال عمله سكرتيرًا بنقابة المهن العلمية، والنزعة الإسلامية الحارة، والحضور –قدر طاقته- في كل فعاليات الأدب والثقافة من خلال عضويته في العديد من الملتقيات الأدبية، مع تأسيس هيئات نشر خاصة بجهود ذاتية صرفة، بعيد عن شللية جهات النشر الرسمية الحكومية، وتجارية جهات النشر الخاصة، وكانت سببًا في تعرف جيلنا على بعض المغمورين من أبناء الريف المصري الخصيب من خلال إشرافه على ملتقي الوعد الأدبي التابع لمصدر يافا للدراسات وصدر من خلاله مائة كتاب بين الشهري والسنوي منذ 1997 الى 2010م، وعضويته في هيئة تحرير سلسلتي آفاق أدبية وقصيدة، وعلى صفحات أدبية بالصحف منها جريدة الميثاق الدولية، وجريدة صوت بلدي، ورئاسته نادي أدب المطرية أربع دورات. وهو الآن بحمد الله خمسيني العمر، من مواليد شهر مايو عام 1968م، شبابي الحركة الثقافية والإبداعية. وقد تنوع إبداعه بين شعر فصيح، وزجل، وقصة قصيرة، وأدب رحلات، وقد نشر العديد من قصائده بعدد من الصحف والمجلات في مصر والوطن العربي، وصدر له: (إلي الوطن السليب: غدًا نعود)، وهو صور ولقطات شعرية عن المقاومة، طبع سنة1999م، وست مجموعات زجلية بعنوان (من أغاني حرفوش المجذوب) الأولى سنة 2000م، والثانية سنة 2003م، و المجموعة الثالثة تحت عنوان(الشوارع هس هس) صدرت عام 2009م عن هيئة قصور الثقافة والرابعة بعنوان (بقلع الضرس) سنة2012م (على نفقته الخاصة)، والخامسة والسادسة مخطوطة، وله كذلك ديوان زجلي بعنوان (رباعيات حرفوش المجذوب)، و في أدب الرحلات له كتاب بعنوان(رحلة واحدة وسبع طائرات)، حول رحلته إلى طهران عام 2006م، وشارك في كتاب (أجمل مائة قصيدة في الشعر الحديث والمعاصر) مع صفيه وحيد الدهشان، ومن مؤلفاته المخطوطة، التي لما تطبع بعدُ كتاب ظرفاء الملتقيات، و ديوان بالفصحى بعنوان (شجون)، وكتاب نقدي بعنوان) روح الشعر) الذي يحوى عدة مقالات نشرت بجريدتي الأسرة العربية وشباب مصر عامي 2006 و2010م، حول بعض القصائد والدواوين للمبدعين، وكتاب في السيرة الذاتية بعنوان (محطات على طريق الإبداع) حول أهم الشخصيات والأحداث تأثيرًا في رحلته الأدبية، وكتاب بعنوان(وقفات مع الآيات).وهو تأملات ذاتية في بعض آيات القرآن الكريم، وإعادة طبع لكتاب (من حواديت جدى) نسخة كاملة ومنقحة، وكتاب(ربع سطر) وهو كتاب يحوي لقطات نثرية موجزة عن الواقع، ثم مجموعة قصص قصيرة... وما زال نيل عطائه يجري في ظلال الكلمة الطيبة، عطاء حيًّا حيويًّا، حارًّا حاضرًا في كل ما يلم بالإنسان في كل زمان ومكان، حسب متابعاته ورؤاه الخاصة والصريحة البينة جدًّا. وهو (المجذوب) في كل ما خطه قلمه حقًّا جذبه الإبداع الأدبي من تخصصه العلمي، كأني به من هؤلاء العلميين الذين وجدوا في القلم بغيتهم وفي الأدب سلواهم، فهرعوا إليهما، كالبارودي العسكري الفارس، و الشاعر علي محمود طه المهندس، والقاص يوسف إدريس الطبيب، ومهندس البترول وحيد الدهشان،... وغيرهم. وهو (الحار) كذلك، تجده يعرض رؤيته بحرارة وإخلاص وحدة وجرأءة وتنوع وتفنن، يدندن عليها، ويكررها حتى تصل إلى أكبر قطاع من الناس، وليس (ناصر) من هؤلاء الذاتيين المنغلقين حول أنفسهم بل هو غيري اجتماعي إنساني، فما كتبه كان أدبًا للحياة والأحياء, ودليل ذلك أقصوصته (شوق) التي نعيش معها الليلة في هذا المنتدى العامر، منتدى الشروق الأدبي، وهاهي ذي الأقصوصة كما قدمها مبدعنا:
النص المقروء المقارب:
شوق
قصه قصيره بقلم ناصر صلاح:
قبلته قبلة الصباح.
فأشرقت ابتسامته البريئة من عينيه.
حملته بين ذراعيها ودارت به عدة دورات كعادتها منذ سنوات.
تحدثه فرحة:
صباح العسل.
صباح الجمال.
صباح السكر.
تلقى به الى السماء وتحتضنه مرات ومرات.
فجأة يختل توازنها تسقط على الأرض يسقط جانبها.
جن جنونها ..آسفه يا حبيبي ..
تحمله تبكى ..
تهذى بكلمات تختلط بدمائها النازفة من يديها.
لتلون زجاج البرواز المتناثر على الأرض حولها.
وعند سماعنا لنص الأقصوصة لاحظنا تعمد المبدع نطق عنوانها بالعامية، وكذا نطق عبارة(آسفه يا حبيبي)!
وهاكم مقاربتي هذا النص:
أولا: العنوان:
(شوق) لفظة مفردة، مصدر للفعل شاق يشوق فهو شائق، واسم المفعول مشوق. والشوق: نزوع النفس إلى الشيء وتعلقها به، وحركة الهوى نحوه، إنه حالة نفسية نبيلة تستدعي شائقًا ومشوقًا، وتضع أمامنا هذان السؤالان: من الشائق؟ ومن المشوق؟
ثانيًا: النوع الأدبي:
وضع القاص نصه تحت النوع القصة القصيرة، وأرى أنه كمًّا وكيفًا أقصوصة، لأنه يتكون من فقرة واحدة، وحدث واحد، وكلماته خمس وسنوت كلمة فقط، يمكن أن تكتب في صفحة واحدة، في عشرة أسطر أو أقل! ويقرأ في أقل من عشر دقائق!
والنص فكريًّا أقصوصة واقعية مكثفة جدًّا، التقط قاصنا من الواقع المعاش المشاهد المكرور هذه اللقطة الإنسانية العادية، وعرضها إلينا هذا العرض اليسير في مفرداته وعباراته!
ليجعلنا في حيرة بين كونها واقعية صرفة، أو واقعية رمزية!
ثالثًا:النسيج السردي:
جاءت الأقصوصة في مشهدين أساسيين:
الأول في سبع جمل فعلية، من بداية النص(قبلته قبلة الصباح) إلى قول القاص: (وتحتضنه مرات ومرات). وهو مشهد يمثل التمهيد للدخول في النص، والتعريف بشخصيتيه والعلاقة بينهما.
والثاني من قول القاص: (فجأة يختل توازنها...) حتى نهاية النص في تسع جمل. وهو مشهد يصور الأزمة والمشكلة والصعوبة الحادثة فجأة، والمأساة الناتجة منها!
أما عن الشخصيتين في النص فهما (شخصية أنثى) تمثل الشخصية الأولى الرئيسة، وهي مسيرة الأحداث، تتحرك، تحرك، تتكلم، تؤثر، تتأثر، ويبدو أنها جدة أو أم أو أخت كبرى أو امرأة ناضجة، تقوم برعاية الشخصية الأخرى عاطفيًّا(قبلته) ولسانيًّا(تحدثه) وسلوكيًّا (حملته بين ذراعيها ودارت به عدة دورات كعادتها منذ سنوات)، و(تلقى به الى السماء وتحتضنه مرات ومرات). أما الشخصية الثانية فكأنها شخصية طفل أو من في حالة الطفل كالمعوق!، وهو في الحكاية ساكن صامت، لا يستطيع حماية نفسه أو التحكم في نفسه، وقد وصفه القاص بابتسامته البريئة من عينيه!
أما عن العلاقة بين الشخصيتين فهي علاقة حب ورعاية وعناية وعطف وحنو! وهي علاقة طويلة، يدل على ذلك قول القاص: (كعادتها منذ سنوات)!
والتحدي في تفكيك هذه الحكاية هو السؤال: إلى من ترمز هاتان الشخصيتان، والعلاقة بينهما؟
رابعًا: لغة الأقصوصة:
تكونت الأقصوصة من خمس وستين مفردة، توزعت بين(15 فعلاً)، و(38 اسمًا)، و(12حرفًا). هيمنت الجمل الفعلية الماضوية على المشهد الأول الذي يقرر العلاقة بين الشخصيتين، وشاعت الجملة الفعلية المضارعية في المشهد الثاني الذي فيه حركة واضطراب وأزمة وانفعال، مما يدل على بلاغة الصيغ اللغوية في النص بوضعها في مقامها اللائق بها!
وجاءت الأسماء متنوعة بين أسماء زمان، مثل (صباح، منذ سنوات)، ومكان مثل: (الأرض، السماء، البرواز)، وأسماء عادية مثل قبلة، العسل، السكر، الجمال، دورات، دماء...
وجاءت لغة الأقصوصة واضحة الألفاظ، سلسة التراكيب، خبرية في المقام الأول، مكونة من ثماني عشرة جملة فعلية، وجملة اسمية ندائية، هي(آسفه يا حبيبي)!
وقد هيمن أسلوب السرد على بناء النص بدءًا وحشوًا وختامًا. وجاء أسلوب الوصف ثلاث مرات هي: (ابتسامته البريئة من عينيه)، (بدمائها النازفة)،(البرواز المتناثر على الأرض حولها).
أما الحوار فهو حوار أحادي في قول القاص عن بطلته ( تحدثه فرحة صباح...)، (جن جنونها آسفه يا حبيبي)، ويوجد حوار نفسي، لم يذكر نصه، في قول القاص عن بطلته: (تهذى بكلمات تختلط بدمائها النازفة)، ولعله ولولة وندب وتفجع، أو عتاب شديد لنفسها التي تسببت في سقوط هذا الطفل أومن في حكمه.
خامسًا: مغزى الأقصوصة:
عند القراءة المعمقة للنص، والوقوف عند كل لفظة وجملة وحركة ومشهد يتضح لنا الآتي:
- أن علاقة الشخصية الرئيسة الأنثى(الأم ومن في حكمها) بالشخصية الثانية(الطفل ومن في حكمه) علاقة الكل بالجزء، الجزء الذي لا يستطيع الانفصال عن الكل، فالعلاقة بينهما عضوية حيوية، ودليل ذلك قول القاص: (يختل توازنها تسقط على الأرض يسقط جانبها) فالأفعال الثلاثة مرتبة منطقيًّا، عندما اختل التوازن من الأكبر الراعي، حدث السقوط من الجزء التابع مباشرة!
فالدلالة المستنبطة إذن أن هذه الشخصية الراعية(الأم ومن في حكمها) ترمز إلى الأسرة، وقد نرتقي فنقول: الوطن، وقد نرتقي فنقول: الأمة، وقد نرتقي فنقول: الكون.
وهذا الطفل أومن في حكمه هو الفرد، أو المواطن أو الدولة الفرعية أو الإنسان.
فلا حياة ولا استقرار ولا بقاء ولا ثبات للفرد أو المواطن أو الدولة الفرعية أو الإنسان في اختلال وسقوط الأسرة أو الوطن أو الأمة أو الكون!
هذا الجزء في ظلال الكل آمن ثابت مستقر، وهو الكل ملجؤه وملاذه ومأمنه!
- ونقف أمام هذا البرواز، علام يشير؟ إنه يشير إلى التقاليد والأعراف والثوابت الدينية، التي كانت معلقة في أعلى مكان عندنا، ثم تعرضت للاختلال والسقوط فتناثرت! والعجيب أن ملون بالدماء النازفة من هذه الأم!
إن (ناصر صلاح) قال في هذا النص الومضي اللمحي القصير السريع الخاطف ما قاله مثلا الجاحظ في رسالتيه الحنين إلى الأوطان، والأوطان والبلدان، استمع مثلا إلى هذه العبارة من رسالته الأولى: حرمة بلدك عليك مثل حرمة أبويك، لأن غذاءك منهما، وغذاءهما منه، وكان يقال: أرض الرجل ظئره، وداره مهده. والغريب النائي عن بلده، المتنحّي عن أهله، كالثور النادِّ عن وطنه، الذي هو لكلِّ رامٍ قنيصة... الجالي عن مسقط رأسه ومحل رضاعه كالعير الناشط عن بلده الذي هو لكل سيع قنيصة ولكل رام دريئة.
وهكذا نجد حالة (شوق) من القاص نفسه إلى تلك العلاقة الحميمية الآمنة بين الأم ووليدها، والفرد وأسرته، والمواطن ووطنه، والإنسان وكونه!
<!--<!--<!--<!--