الأنا الوطنية الصاعدة في تجربة(أنا لا تشابهني امرأة) للشاعرة شريفة السيد
مقاربة للأستاذ الدكتور صبري فوزي أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
<!--[if !mso]> <mce:style><! v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} -->____________________________________________
<!--[endif] --><!--<!--الأنا (شريفة السيد سيدة الشواعر وشريفة في الشعراء) هذه العبارة خطتها يدي عندما سمعت إلقاء المبدعة (شريفة السيد) قصيدتها(أنا لا تشابهني امرأة([1]))، خلال تشريفي بتذوق الأعمال الأدبية المقدمة إلى منتدى الشروق الأدبي في ندوته الإلكترونية المقامة يوم الخميس 14/5/2020م؛ إذ شعرت أنني أمام إبداع راسخ مغاير، ومبدعة فذة، خارجة عن المألوف: إلقاء آسر، ونص ساحر، أداء جهوري، ونص حنجوري، ثقة، حضور، قدرة، تمكن، إدهاش، إغراب، إثارة... كل ما تستطيع قوله عن جمال إبداع أدبي بشري في مجال الكلمة المتأدبة المتأنقة يقال، يقال عن النص والناص معًا. يوقن متلقي هذا العمل أنه أمام تجربة يندمج فيها الناص والنص معًا، فشريفة هي القصيدة، والقصيدة هي شريفة.
و(شريفة السيد) درعمية التعلم، تلقب بـ(خنساء العصر الحديث) و"الخنساء لقب فني جاء حيلولة نسقية لنفي الاختلاط بين شعر الرجال وشعر النساء. فإن لقب النساء قد اختصت به هذه المرأة الشاعرة الفذة التي تحدث الرجال في عقر سوقهم الفحولي، ولم يكن قبلها اسمًا معروفًا في النساء! كما لم تكن قبلها امرأة فعلت فعلها في سوق العرب"! فحالة الشواعر العرب عبر العصور والدهور تدل على حضورهن في كل مجلس ومقام، وازداد هذا الحضور وازدان وتأنق في زمننا النسوي بامتياز، والدليل قراءة مجمل إبداع شاعرتنا (شريفة السيد) التي لها من اسمها كل نصيب في مجال الأصالة والفخامة والسيادة والريادة؛ فهي عضو في عكاظات الشعر، وحاضرة في مهرجاناته ومؤتمراته، في مصرنا ووطننا العربي. وهي صاحبة فكرة (المسرح المقروء). وكتبت أغاني مسرحيات عديدة في إطار فكرتها هذه، منها أغاني مسرحية "عرض مجاني للجميع"، وكتبت العشرات من الأوبريتات والأعمال الغنائية، بالإضافة إلى أكثر من عشرين أغنية عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة النبوية، وأُدخل الكثير من أشعارها في مناهج التعليم العالي بالجامعات المصرية وكليات الآداب بجامعة القاهرة وعين شمس وأكاديمية الفنون ومعاهدها الخمسة وجامعة جنوب الوادي وغيرها بالعربية والإنجليزية. كما دخلت أشعارها في بعض الرسائل الجامعية الماجستير والدكتوراه، و قامت بالتحكيم في مسابقات الشعر على مستوى الجمهورية في أكثر من مؤسسة ثقافية وتعليمية، وحصلت على كثير من الجوائز الأولى في مسابقات شعرية على مستوى مصرنا والوطن العربي. وصدر لها ثمانية دواوين شعرية، تحت عناوين: [ملامحي، الممرات لا تحتوي عابريها، فراشات الصمت، صهيل العشق، طقوس الانتظار(مختارات شعري)، ملامح أخرى لامرأة عنيدة، تسابيح(شعر صوفي)، مفاجآت نجوى : (شعر للأطفال)] خلال أربعة عشر عامًا، منذ سنة 1991م حتى سنة 2005م، هذا إضافة إلى مجموعة أعمال أخرى تنوعت بين شعر فصيح، ومسرحية شعرية، وشعر للأطفال، ومسرحيات شعرية للأطفال، ورواية، ومجموعات قصصية، وعدد من الدراسات النقدية، حول أعمال العديد من كبار الشعراء والأدباء... دام حضورها وعطاؤها الأصيل النبيل...
ولشاعرتنا (شريفة السيد) ابعة الإبداع النسوي العربي؛ إذ.. توجه نسوي مقصود في مجمل حركتها الثقافية؛ إذ لها جهد مشكور في متابعة الإبداع النسوي العربي؛ فأسست منتدى المبدعات العربيات، الذي يضم مبدعات من كل الدول العربية في جميع مجالات الإبداع، ولها دراسة ميدانية حول معوقات الإبداع عند المرأة العربية، ودراسة فنية نقدية حول الشعر النسائي المصري... والتوجه النسوي هذا نجده في(شريفة السيد) وتجربتها المسموعة المقروءة(أنا لا تشابهني امرأة)، حيث الأنانية النسوية المغالية، والفخر الأنثوي العالي جدًّا، على جنس النساء! إضافة إلى جرأة في التعبير عن الغرام والجمال، والحكي عن مغامرات عاطفية والجهر بالغزل الصريح، ووصف حالات الغرام من هجر ووصال وعذاب واشتياق، وعوائق ومكدرات، فلم تكن قواعد المجتمع وأعرافه حادة من قدرتها الإبداعية!
إن تجربة(أنا لا تشبهني امرأة) تستدعي إلى الذاكرة الثقافية والذائقة النقدية، الموروث النقدي القديم الخاص بالإبداع النسوي أمام المساءلة، فمن مفارقات الأحكام النقدية أن يكون الناقد في الجاهلية أكثر إنصافًا للمرأة المبدعة من الناقد في العصر العباسي!
كان النابغة الذبياني الجاهلي منصفًا الخنساء بين شعراء عصرها، قائلا لها: لولا أن أبا بصير(الأعشى) أنشدني قلبك لقلت: إنك أشعر الجن والإنس، وفي رواية: أشعر النساء، فقالت: والرجال([2])!
أما بشار بن برد ابن الحضارة العباسية الزاهية الذهبية فقد كان جحودًا حقودًا كنودًا ذُكوريُّا في حكمه على شعر النساء بأنه ما من شعر تقوله امرأة إلا وفيه سمات الخنوثة! في مقولته الذائعة: لم تقل امرأة شعرًا قط إلا تبين الضعف فيه، فقيل له: والخنساء، قال: تلك كان لها ...! فلم يحتمل كون المرأة أو الجانب الأنثوي مبدعًا، فأضافها إلى مجتمع الرجال([3])"! وهذا الأصمعي يقول -عندما سئل عن شعر عدي بن زيد-:ليس بفحل ولا أنثى([4])! فالفحولة في نظره قمة الإبداع، والأنوثة قاع الإبداع وأدناه!
إن تجربة شاعرتنا تستدعي أيضًا ما يسمى النزعة النسوية (Feminism)، وهي نزعة فلسفية أو سياسية غربية ظهرت في مطلع القرن العشرين، تعتمد على مسيرة نضالية هادفة إلى رفع الجور والغبن عن المرأة المسلوبة الحقوق، والمطالبة بالمساواة والحرية، وإدماجها في شتّى ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والخدماتية. ومن صورها ما يسمى (الأدب النسوي(، وقد يسمى (الأدب النسائي، أدب الأنثى، أدب المرأة، وبعضهم يفرق بين هذه الاصطلاحات!)، وهو يشير إلى الأدب الذي يكون النص الإبداعي فيه مرتبطًا بطرح قضية المرأة و الدفاع عن حقوقها. إنه "الأدب المرتبط بحركة نصرة المرأة و حرية المرأة و بصراع المرأة الطويل التاريخي للمساواة بالرجل، و هو تلك الكتابة التي فيها تمايز بينها و بين كتابة الرجل، كتابة مغايرة تنجزها المرأة العربية استيحاءً لذاتها و شروطها ووضعها المقهور... إن تجربة شاعرتنا ليس إبداعًا نسويًّا محاكيًّا الأشكال الأدبية السائدة وتقاليدها المهيمنة، أو ليست مما يسمى بالمرحلة المؤنثة، كما أنه ليس رفضًا واعتراضًا على القيم القاهرة، أي ليست مما يسمّى بالمرحلة النسوية، إنما هو إبداع منبثق من وعيها الأنثوي، تعبر فيه (شريفة) عن اكتشاف ذاتها الخاصة كقطب ثان جدير الاعتراف بندِّيته وقدرته على منافسة الآخر، وتسمّى هذه التجربة بـ(المرحلة الأنثوية). وهي المرحلة الأرقى والأخيرة من مراحل تطور الكتابة النسوية، كما أن الخصوصية الثقافية النسوية بادية في النص بقوة؛ لأنّها قائمة على وعي بمفهوم الخصوصية؛ فهي ليست انزياحًا، وليست هروبًا، وإنّما هي إثبات لحضور مختلف عبر نص مختلف«([5]). والقارئ للنص سيرى بوضوح أن المبدعة لها من اسمها كل نصيب؛ فهي امرأة شريفة وسيدة، وتدندن على دلالتي الشرف والسؤدد كثيرًا في مقاطع خريدتها!
مقاربة القصيدة:
وإن مقاربة القصيدة(أنا لا تشبهني امرأة) رأسيًّا وأفقيًّا، وشكليًّا ودلاليًّا يعطينا أدلة على ما نقول:
أما القراءة الرأسية الشكلية فتدلنا على أننا أمام نص أنثوي صارخ في مضمونه ومغزاه، وتفعيلي سطري في إيقاعه وموسيقاه، على نسق تفعيلة البحر الكامل(متفاعلن) بصورها العروضية المنتظمة الشائعة، وهي: (متفاعلن السالمة، مثل: أنا لا تشا[///O // O متفاعلنْ]بهني امرأة[///O // O متفاعلنْ])، (مستفعلن المضمرة، مثل: كالعمرِ أم[/O/O // O مستفعلن]ضي في حيا[/O/O // O مستفعلن])، (متفاعلانْ المذيلة، مثل: تكَ لا رجوعْ[///O // O O متفاعلانْ])، (مستفعلان المضمرة المذيلة، مثل: حين الخشوعْ[/O/O // O O مستفعلانْ]). وهذا أحدث سلاسة إيقاعية، ونغمًا مطردًا تألفه الأذن المتلقية، أما صور (مُتَفا المحذوفة)، و(مُتْفا المضمرة المحذوفة) و(مُتَفاعلْ المقصورة) فلم ترد في القصيدة! وهي مما يحدث تنويعًا في إيقاع الشعر السطري!
أما قوافي أسطر هذه التجربة فقد بنتها الشاعرة على بنظام خاص حر في نهايات الأسطر، نجد فيه غالبًا نوع تنوع وانتظام وتكرار. تقول في المطلع:
كالعمرِ أمضي في حياتكَ لا رجوعْ
وأُمرُّ كالضوءِ المراوغِ في المدَى حين الخشوعْ
أنا لحظةٌ أنا فرصةٌ
عندَ انتهاءِ بريقِها لا تنفعنَّ إذنْ دموعْ
ومثل قولها:
أنا أمضغُ الوقتَ الكسولْ .. وأكسِرُ الصَّمتِ الخجولْ
وأنحني لأخيطَ منهُ سوسناتٍ يانعاتٍ في الحقولْ
قلقي لُحافي إنْ استطالتْ تحتهُ قدمايَ أيضًا يستطيلْ
ويفكُّ قيدي عقدةَ الزمن البخيلْ
تخيلوا: أنا لامتطاءِ الحُلم ليلاً لا أميلْ
وبجَعبتي
ســـــــبعونَ وهمًا صغتـُها أعطيتـها اسمًا واحدًا المستحيلْ
وهكذا تسير الشاعرة في بناء أسطرها بنهايات متشابهة غالبًا إلا في سطر أو اثنين تأتي القافية فيه مخالفة قاضية على الرتابة من النهاية الموحدة المكررة!
والتسكين داخل السطر الشعري ورد خمس مرات في النص، في قولها:
تاريخُ أشواقي أنا لا ينتهي..
لكنني سأظلُ وحدي الواثقةْ... وأظلُ وحدي الرائقةْ
أنا لا أمرُّ على الأمورِ رفاهيةْ.. أنا داهيةْ..
أنا يا حبيبي لستُ أجلسُ قاعدةْ... أنا صاعدةْ
أنا أمضغُ الوقتَ الكسولْ .. وأكسِرُ الصَّمتِ الخجولْ
وكان أمام الشاعرة أن تقسم هذه الأسطر، وتكتبها كما تنطقها وتنشدها وتؤديها، ومن ثم تخرج من هذه الملاحظة الشكلية!
والبناء الكمِّي للقصيدة جاء في ستة وعشرين ومائة سطر، موزعة على سبعة مقاطع، على النحو التالي:
- المقطع الأول الذي يبدأ بـالعنوان(أنا لا تشابهني امرأة) يتكون من ستة عشر سطرًا. ويمثل مطلع القصيدة واستهلالها.
- المقطع الثاني الذي يبدأ بـالعنوان(تاريخُ أشواقي أنا لا ينتهي..) يتكون من خمسة وعشرين سطرًا.
- المقطع الثالث الذي يبدأ بـالعنوان(أنا لا أمرُّ على الأمورِ رفاهيةْ.. أنا داهيةْ..
) يتكون من عشرة أسطر.
- المقطع الرابع الذي يبدأ بـالعنوان(يا سيّدي) يتكون من عشرين سطرًا. ويمثل حسن التخلصدة واستهلالها.. في القصيدة.
- المقطع الخامس الذي يبدأ بـالعنوان(العزم يعشقني أنا) يتكون من واحد وعشرين سطرًا.
- المقطع السادس الذي يبدأ بـالعنوان(أنا يا حبيبي لست أجلس قاعدة أنا صاعدة) يتكون من سبعة عشر سطرًا.
- المقطع السابع الذي يبدأ بـالعنوان(أنا من تزين سيفها بالنبل في وقت الحمم) يتكون من سبع وعشرين سطرًا. ويمثل ختام النص ومخلصه وفيه مغزاه.
ومن خلال هذا الإحصاء للأسطر الشعرية وتوزيعها على المقاطع، نعلم أن تداعي الصور والتعابير والمشاعر هو المسيطر على الشاعرة، في بنائها قصيدتها، وليس صنعة هندسية متعمدة!
وعلى القارئ للنص أن يضع أمامه أسئلة بخصوص هذا الإحصاء، منها:
ما سبب كون المقطع الثالث قصيرًا(10 أسطر)؟
ما سبب كون المقطع السابع طويلاً(27 سطرًا)؟
ما سبب التقارب بين المقطع الثاني(25سطرًا) والسابع(27سطرًا) في عدد الأسطر؟
ما سبب التقارب بين المقطع الأول(16 سطرًا) والسادس(17 سطرًا) في عدد الأسطر؟،
ما سبب التقارب بين المقطع الرابع(20 سطرًا) والخامس(21 سطرًا) في عدد الأسطر؟،
وهذه الأسئلة قد نجد لها إجابة وربما لا نجد! والمعايشة العميقة الدائمة للنص فيها الحل!
وهذا ما نعيشه في قادم القراءة.
تفكيك العنوان
(أنا لا تشابهني امرأة) جملة اسمية مكونة من أربع كلمات(أنا لا تشابهني امرأة)، تنوعت بين ضمير التكلم (أنا) وياء التكلم، وأداة نفي(لا)، وقعل مضارع مزيد بالألف(تشابه)، واسم الجنس(امرأة). وهو موزون على نسق إيقاع القصيدة، مكون من تفعيلتين. وقد تكرر سبع مرات في النص، ووظفته شاعرتنا في الفصل بين كل مقطع وآخر، وختمت به نصها، وهو يمثل السطر المكثف والأعظم في النص كله.
والمبتدأ في العنوان يتمثل في الضمير (أنا)، وهو ضمير رفع منفصل، مبنيّ على السكون للمتكلِّم أو المتكلِّمة، ويجمع على نحن، ولا يثنَّى ولا يقع مضافًا ولا نعتًا ولا منصوبًا. ويكون للمتكلم وحده؛ مذكَّرًا كان أو مؤنثًا، ومثال دلالة الضمير (أنا) على المتكلم المفرد المذكر قوله تعالى: ﴿ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ([6])﴾، ومثال دلالته على المتكلمة المفردة المؤنثة قولُه تعالى: ﴿ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ([7]) ﴾.
والخبر في العنوان يتمثل في جملة فعلية منفية(لا تشابهني امرأة)، وإيثار فعل المشابهة على فعل الشبه للدلالة على المشاركة والمفاعلة، ولإشارة إلى روح التنافس والتسابق، والعنوان يوحي بصراع بين فرد وجماعة النساء، وهذا الصراع مفتوح غير مقيد، صراع في كل شيء، وعلى كل شيء!
وقد جاء العنوان عتبة رئيسة معينة للمبدع والمتلقي معًا: المبدع يستعين به في ختم كل مقطع من مقاطعه السبعة لينطلق إلى الذي يليه، والمتلقي يعلم من خلاله أن كل مقطع يقدم دلالة خاصة تقرر عدم تماثل أي امرأة مع هذه (الأنا)!
و(الأنا): في اصطلاح علماء النفس: إدراك الشَّخص لذاته أو هويّته، فتكرار أنا في النص يدل على إدراك المبدع أو من يمثله لذاته وهويته، والطريقة المذكورة فيها الأنا في القصيدة تذكرنا بالمصطلح (الأنا الدّفاعيّة) الذي يقصد بها الحفاظ التَّعويضيّ على تقدير الذَّات وذلك في الظُّروف أو الأخطار التي تهدِّد الأنا، سواء من الداخل أو الخارج([8]). وليست الأنا المتكيفة بالواقع وفي الواقع الراضية به وفيه!
إن قصيدة(انا لا تشابهني امرأة) من خلال القراءة الشكلية تمثل الأنا النسائية الحاضرة بقوة وحيوية وبهاء، تعلن عن تفردها عن بقية النساء. وتقرر الشاعرة هذه الدلالة في غير سطر من فريدتها، مثل قولها:
-أنا لمْ تلدْني بعدُ أمْ
-اليـُتـْمُ يشبهُني أنا
-أنا لا أمر كعابرةْ... أنا ماكرةْ
إنها تجربة تكاد تعبر عن كل امرأة، وتقولها كل امرأة، وتتحرك من أجلها كل امرأة، تجربة تصل إلى كل امرأة. وهذا سبب جاذبيتها ومفسر سحرها.
ولعل شاعرتنا تتوارد في عنوان قصيدتها (أنا لا تشابهني امرأة) مع أسطر من القصيدة التي كتبتها الشيخة الشاعرة سعاد آل الصباح، وألقتها أمام صدام حسين في بغداد، والتي أسمتها: ( قصيدة حب الى سيف عراقي)، حيث جاء فيها قولها:
أنا امرأة لاتشابه أي امرأة
وقولها:
أنا امرأة لا أزيف نفسي
وإن مسني الحب يوماً فلست أجامل([9])
وعلى الرغم من أن هذا العنوان يحمل فكرة تكاد تكون مهيمنة على كل امرأة في الكون وجدت وستوجد إلى أن تنتهي الحياة، إلا أن الجديد في التجربة هو صوغه بهذه الشاعرية، وعرضه بهذا التفصيل والتنوع عبر أسطر النص ومقاطعه.
المعجم الشعري:
في القصيدة المقارَبة ظواهر لغوية مهيمنة، ذات دلالة خاصة، منها:
- ظاهرة الإكثار من الضمير(أنا)؛ إذ تكرر لفظ(أنا) خمسًا وثلاثين مرةً في القصيدة: ست مرات في كل من المقاطع: الأول والثاني، والسابع. وخمس مرات في كل من المقاطع: الثالث والرابع، والسادس، وقد جاء مرتين فقط في المقطع الخامس! وقد صدرت به معظم الأسطر الشعرية الوارد بها، كما في قول الشاعرة:
أنا ما بدأتُ لأنتهي
أنا لمْ أزلْ في طـَوْرِ تكوينِ الأنوثةِ بينَ جدرانِ الرَّحِمْ
أنا لمْ تلدْني بعدُ أمْ
وأحيانًا يختم به السطر الشعري كما في قولها:
خمسونَ حُزنًا أفحموا غيري أنا
وقصد به التأكيد والقصر، تأكيد دلالة أن الحزن يحدث لغيرها، ويقتصر على غيرها فقط، فهي مستثناة من أن يقع لها أو عليها أو منها حزن!
وقد يأتي هذا الضمير في الحشو، في قولها:
تاريخ أشواقي أنا لا ينتهي
وهنا نجد الشاعر تقع في ضرورة شعرية، وهي إثبات ألف أنا في الوصل! فالمعروف لغويًّا أن ألف هذا الضمير الأخيرة تكتب ولا تلفظ إلاّ في الوقف أو ضرورة الشِّعر، أما في الوصل فلا تثبت. وقد وردت في الشعر العربي قديمًا وحديثًا عند الأعشى، وحميد الكلبي، والعباس بن الأحنف، والشاب الظريف، وشوقي والشابي وغيرهم، وأقترح على الشاعرة أن تنزل جملة(لا ينتهي) في سطر مستقل، ولعل في ذلك خيرًا في الإلقاء لهذا المقطع!
- ظاهرة الإكثار من التركيب الوصفي: فقد ورد ثماني وأربعين مرة في النص، وقد تنوع بين تراكيب وصفية دالة على المعوقات والأخطار المحيطة بالأنا مثل: حدود شائكة، الزمن البخيل، الظروف الطارئة، خيمتي المتهالكة، قوتي ملفوفة بندى معارك رقتي، رمالي المتحركة، الجروح الناتئة، طعنات الغرام القاتلة، الوجع المدمى، القمر المدمى...
وتوجد تراكيب وصفية دالة على قيم ومشاعر وسلوكيات خاصة بالأنا مثل الوجد العفي، الصمت الخجول، الحزن البهي، أمنياتي الهادئة، الألق الفتي، الصبر الوفي، الغياب العبقري، سوسنات يانعات في الحقول، خمرية النبضات، الصباح البابلي...
- كثرة تاء التأنيث فقد وردت أكثر من ستين مرة في القصيدة، حيث لا يكاد سطر يخلو منها، مما يدل على النزعة النسوية المسيطرة على النص، وقد تنوع ورودها بين مربوطة في الأسماء المفردة، مثل: (امرأة، لحظةٌ، فرصة، الأنوثة، البراءة، سدرةً، التجزئة، التنشئة، وغيرها)، ومفتوحة في جمع المؤنث السالم، مثل: (فلسفات، مارقات، مهفهفات، سجلات، الآهات، سوسنات...). وتشيع تاء التأنيث في أوصاف خاصة بالأنا على صيغة اسم الفاعل، مثل: (شائكة، مباركة، السافكة، الواثقة، الرائقة، الطارئة، داهية، ماكرة، عابرة، مزهرة، هادئة، ظامئة، صاعدة قاعدة، هالكة، مفاجئة، قارئة، ظامئة،...) ويلاحظ ختم الأسطر بها وتوظيفها قافية شائعة فيها.
- ظاهرة حضور الزمن وإحضاره فالألفاظ الدالة على الزمن دلالة مباشرة أو الألفاظ المشيرة إليه كثيرة جدًّا في النص كله، فمن الألفاظ الدالة مباشرة على الزمن: (العمر، دهر، الدهور، لحظة، الزمان، الصباح، اليوم، وقت، ليلا، طور، تاريخ). ومن الألفاظ المشيرة إلى الزمن: (سرمدي، سأظل، لم أزل، لم تلدني، خمسون حزنًا، سبعون وهمًا، تزامنت بدأت، لأنتهي...). ودليل هذه الهيمنة الزمنية قول الشاعرة المقطع الأول:
كالعمرِ أمضي في حياتكَ لا رجوعْ
وأُمرُّ كالضوءِ المراوغِ في المدَى حين الخشوعْ
أنا لحظةٌ أنا فرصةٌ
عندَ انتهاءِ بريقِها لا تنفعنَّ إذنْ دموعْ
فالعمر، والحياة والحين واللحظة والانتهاء، كلها ألفاظ دالة ومشيرة إلى الزمن منذ البداية، ونرى هذا الحضور الزمني في الختام، حيث تقول:
أخطُو بكلِّ العنفوانِ على جسورِ التهلُكةْ
كي أزرعنّك سهرةً ورديةً عُمْقَ الرِّئةْ
مصباحيَ المفتوحُ شباكًا عليكَ وإن مضَى دهرٌ فلا لنْ تُطفئَهْ
- هذا إضافة إلى تنويع الشاعرة لصيغة الفعل بين ماض وحاضر، فقد وردت الأفعال (109مرة)، موزعة إلى المضارع في النص(75فعلاً، بنسبة8،68%)، و الفعل الماضي(33فعلا، بنسبة 30،2%)، و الفعل الأمر فعل واحد، وهو (تخيلوا، بنسبة0،9%)، مما يدل على هيمنة الفعل المضارع على الفعل الماضي، بنسبة تزيد على الضعف، فالأحداث والأفكار في النص حالية آنية، وشاع استخدام صيغة المضارع المبدوء بالهمزة المعبرة عن الأنا المتكلمة، مثل(أغلق، أمضغ، أسكن، سأظل، أتشمم، أزرع، أستكشف،...)، ويلاحظ أن الفعل الماضي انتشر وهيمن في المقطعين السادس والسابع بكمٍّ أزيد من المضارع؛ وذلك لأن الصراع انتهى، والانسجام والوئام أخذ يحضر ويتحقق، ومن ثم كان استدعاء الذكريات، على النحو الذي نراه في قول الشاعرة:
أنا لا أجيدُ العزفَ لكنْ كم عزفتـُكَ يا حبيبي في القصيدِ وفي القصصْ
أعطيتـُكَ الدورَ البطولةَ، والأماكنَ، والزمانَ، وكل كل حكايتي
أصبحتَ أنتَ قضيَّتي وبكَ احترقتُ وذقتُ طعناتِ الغرامِ الفاتكةْ
صُغتُ احتلالَكَ لي دهورًا رغم أنفَ الواطئةْ
وختمتُهُ بمفاوضاتٍ تستبيحُ مبادئَهْ
- دخول أل على الفعل المضارع: أدخلت شاعرتنا (ال) الخاصة بالاسم على الفعل المضارع، تشبيهًا له بالصفة لأنه مثلها، وهذه ضرورة، وردت في الشعر القديم، " قال ابن منظور : ... من ذلك قول الفرزدق:
ما أَنْتَ بالحَكَمِ التُرْضى حُكومَتُهُ ولا الأَصيلِ ولا ذي الرأْي والجَدَلِ
فأَدخل الأَلف واللام على تُرْضى، وهو فعل مستقبل على جهة الاختصاص بالحكاية؛وأَنشد الفراء:
أَخفن أَطناني إِن شكين وإِنني لفي شُغْلٍ عن دَحْليَ اليَتَتَبَّعُ([10])
فأَدخل الأَلف واللام على يتتبع، وهو فعل مستقبل لما وصفنا"
وذلك في موضعين من قصيدتها: قالت في المقطع الخامس:
مرآةُ قلبي ترمُقُ الكُحلَ الـ يُكَملَ زينَتي
وقالت في المقطع السادس:
أتنفسُ النفسَ الصَّعودَ بأنفكَ الــ يُحيي مَمالكَ هالكةْ
و(ال) في الموضعين اسم موصول بمعنى الذي. ولعل الوزن دعاها إلى هذا الاستعمال، أو قصدت إليه قصدًا كنوع من الانزياح والمخالفة اللغوية التي تحدث صدمة في المتلقي تدفعه دفعا إلى الوقوف عند السطرين تدبرًا وتذوقًا. فيعرف في السطر الأول أنه أمام نوع من الكحل خاص، وفي السطر الثاني أمام أنف مؤثرة تأثيرًا عجيبًا من خلال نفسها الصعود!
أما القراءة الأفقية الفكرية العميقة للنص فتدلنا على أن النص يندرج على بوح وطني شفاف عال، ففي المفتتح للقصيدة تذكرنا الشاعرة بمطلع تجربة حافظ الدالية المغناة، (مصر تتحدث عن نفسها) :
أنا إن قدر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي([11])
فشاعرتنا بنت رائعتها على نسق هذا البناء الحافظي، فالأنا بالنص كله، سواء المعبر عنها بالضمير المنفصل أو المتصل، هي مصر، تتحدث وتصيح، وتزهو وتفخر، وتعلو، وتتعالى، وتحب وتعشق..
إن (شريفة) بدءًا من السطر الأول تحدث خطابًا منها إلى مخاطب عبرت عنه بكاف الخطاب للمذكر، تقول:
كالعمرِ أمضي في حياتكَ لا رجوعْ
وفي المقطع الأول حديث عن ديمومة الحضور لهذه الأنا
كالعمرِ أمضي في حياتكَ لا رجوعْ
وأُمرُّ كالضوءِ المراوغِ في المدَى حين الخشوعْ
أنا لحظةٌ أنا فرصةٌ
عندَ انتهاءِ بريقِها لا تنفعنَّ إذنْ دموعْ
وهو حضور بهي:
أنا ما بدأتُ لأنتهي
أنا لمْ أزلْ في طـَوْرِ تكوينِ الأنوثةِ بينَ جدرانِ الرَّحِمْ
أنا لمْ تلدْني بعدُ أمْ
مخبوءةٌ بينَ العطورِ المُثقلاتِ بنشوةِ الوجدِ العَفيّْ..
بينَ التشظِّي
عندَ مُفترقْ الجنونِ وعندَ وشوشةِ البَخورِ
لمَنْ تمخَّضَ حُلمُها وعدًا حَيـِيّْ
خمريةُ النَّبضاتِ تابتْ جبهتي مِنْ قبلِ قبل التنشئةْ
وفي المقطع الثاني تعلن الشاعرة عن حضور أشواق مصر عبر التاريخ السحيق الذي لا ينتهي، خمسون أو ستون حزنًا، أو سبعون وهمًا، لا تقف أمامها حدود أو شوائك، تعيش الواثقة، ووحدها الرائقة:
تاريخُ أشواقي أنا لا ينتهي..
متجدِّدٌ مهما أطاحَ بهِ الوهنْ
خمسونَ حُزنًا أفحموا غيري أنا
ســــــتون حُزنًا ضد أحوالِ الزمنْ
لمْ أُغلقِ الأبوابَ في وجهِ البراءةِ حين جاءتْ منْ حدودٍ شائكةْ...
أنا للحدودِ مباركةْ
فجعلت لنفسها تاريخًا لا ينتهي، وأشارت بالأعداد إلى الخمسينات والستينات والسبعيات وكلها عقود شهدت فيها مصر أحداثًا فارقةً، وأن لها حدودًا شائكة، ومعاملة طيبة مع هذه الحدود، تشير إلى انطلاقها في علاقاتها الدولية.
وتشير إلى الجمال الفني والأدبي، والثبات الاقتصادي لمصر والمصريين بقولها:
أنا أمضغُ الوقتَ الكسولْ .. وأكسِرُ الصَّمتِ الخجولْ
وأنحني لأخيطَ منهُ سوسناتٍ يانعاتٍ في الحقولْ
قلقي لُحافي إنْ استطالتْ تحتهُ قدمايَ أيضًا يستطيلْ
وتشير إلى تعامل المصريين مع الزمان واقعًا ومستقبلاً:
ويفكُّ قيدي عقدةَ الزمن البخيلْ
تخيلوا: أنا لامتطاءِ الحُلم ليلاً لا أميلْ
وبجَعبتي
ســـــــبعونَ وهمًا صغتـُها أعطيتـها اسمًا واحدًا المستحيلْ
والمفارقة في جمع مصر بين العجائب لا سيما في موضوع الدماء، تقول:
ناريةُ الخطواتِ أسكُنُ سدرةً مسفوكةَ الدَّمِ
واكتشفتُ اليومَ أني السَّافكةْ
وفي المقطع الثالث نجد عزم مصر وصبرها على الحزن والغياب والوجع والقفر، وتحيل ذلك انتصارًا دائمًا، تقول:
أنا لا أمرُّ على الأمورِ رفاهيةْ.. أنا داهيةْ..
أتشمَّمُ الحُزنَ البهيّْ
أرتـِّبُ الوجعَ الذكيّْ... أُعدُّ نفسي للغي