authentication required

 

تحليل القصة القصيرة في القطار للكاتب محمد تيمور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إعداد الدكتور/صبري أبوحسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات

مكانة النص:

تعد هذه التجربة الأدبية أول قصة مصرية حقيقية، خالية من الترجمة أو الاقتباس أو التعريب أو التمصير، إنها نص مصري في مكانه وإنسانه وأحداثه. كما أنها -عند كثير من الباحثين ومؤرخي الأدب- أول نص أدبي ينتمي إلى جنس القصة القصيرة في مصرنا وعالمنا العربي. وقد نشرت في جريدة السفور سنة 1917م.

ومؤلفها هو محمد تيمور) 1892-1921م):

ولد في القاهرة عام ١٨٩٢م في رحاب أسرة تجمع بين الثراء والأرستقراطية، وبين العلم والأدب على الطريقة العربية المأثورة؛ فوالده أحمد تيمور باشا الذي كرَّس حياته لخدمة اللغة العربية ومعارفها، وعمته الأديبة عائشة التيمورية، وأخوه الأديب الكبير محمود تيمور؛ وهذا المزيج الخصب أَوْجَد بيئةً خصبةً أنجبت لنا ذلك الأديب الفذ الذي أضفى على الساحة الأدبية مزيجًا فريدًا من دماء التجديد. كان شغوفًا بالأدب، وقد دفعه هذا الشغف للسفر إلى فرنسا؛ ليطلع على الأدب الأوروبي عمومًا والفرنسي خصوصًا، وقد كان لهذه الدراسة أثر فاعِل في كتاباته القصصية. وقد تَقَلَّد عددًا من المناصب.  وقد وافت كاتبنا المنية عام ١٩٢١م، وهو لم يبلغ بعد سن الثلاثين..

ويعد أديبنا من مؤسسي الأدب القصصي والمسرحي في مصر. سافر إلى باريس لدراسة القانون، غير أنه عاد منها إلى القاهرة مع اشتعال الحرب العالمية الأولى عام 1914م، وانصرف منذ ذلك الحين إلى كتابة القصص والمسرحيات، متأثرًا فيها بالمذهب الواقعي. اشترك في تأسيس "جمعية أنصار التمثيل"، ومثلت له على المسرح عدة كوميديات اجتماعية، مثل:"العصفور في القفص" و"الهاوية" وأوبريت "العشرة الطيبة" التي لحنها سيد درويش. وله مجموعة من القصص القصيرة بعنوان "ما تراه العيون". وهي "مجموعة قصصية كتبها «محمد تيمور» وهو ينظر إلى عُمق الحياة المصرية؛ تفاصيلها وشخوصها، مآثرها وحكاياتها. نقلها بغير تكلف، صوَّرها كما هي على حقيقتها؛ فتجد بعض شخصيات قصصه جالسًا معك يحكي لك عن ذاك المشهد، أو تلك اللقطة. أو تجد نفسك وقد امتزجت بأحداث قصةٍ ما. والقصص- على ما فيها من دقة التصوير وروعة الوصف التفصيلي للأحداث- لا تصيبك بالملل، بل يزيدك التفصيل دهشةً وإعجابًا، فضلًا عن تمثيلها جانبًا كبيرًا من شخصية كاتبنا الذي يتحفنا بإحدى بواكير كتاباته أو هي بالفعل أول ما كتب؛ قصة «الشباب الضائع»، وهي القصة التي لم يكملها، بل وضع في نهايتها ومضات تبين الكيفية التي ستسير وفقها أحداث النهاية، وفيها تجلت موهبته في ريعانها، وكانت هي المنصة التي انطلق منها، في دنيا الإبداع القصصي الواقعي الساحر والعجيب.

نوع النص ومذهبه:

نص " في القطار " للكاتب محمد تيمور، تجربة أدبية تنتمي إلى نوع القصة القصيرة؛ لأنها تقوم على عناصر ثلاثة هي: الوحدة السردية، والتكثيف الفني، ووحدة الانطباع، وذلك من خلال توظيف جميع عناصر الجنس القصصي الفنية، وهي قصيرة الحجم حيث يمكن قراءتها في وقت قصير وجلسة واحدة .

وهي تنتمي إلى الاتجاه الواقعي التسجيلي، حيث تناول فيه الكاتب قضية من قضايا المجتمع، وهي قضية ( مجانية التعليم بالنسبة للفلاح المصري في مطلع القرن العشرين ومحاربة الأمية)؛ فقد التقت الشخصيات ـ مصادفة ـ لتبدي رأيها حول هذه القضية بما يكشف عن تباين انتماءاتها الطبقية، ثم افترقت دون أن نجد انحيازًا أو انتصارًا لإحداها على الأخرى؛ كي يترك القاص القضية للمستقبل يحكم فيها.

ومن ملامح الواقعية فيها استخدام اللغة اليسيرة القريبة من لغة الحياة اليومية، وتصوير الشخصيات المصرية البسيطة في الطبقات المختلفة تصويرًا حيًّا واقعيًّا.

الشخصيات:

تعددت الشخصيات في القصة حيث نلتقي بست منها مجهولة الأسماء، هي:

<!--- (الشخصية الرئيسية):

الراوي الذي يسرد الأحداث في القطار، وقد وصف نفسه في مطلع النص بأنه:" مكتئب النفس أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسائل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء. تناولت ديوان "موسيه" وحاولت القراءة، فلم أنجح. فألقيت به على الخوان، وجلست على مقعد واستسلمت للتفكير كأني فريسة بين مخالب الدهر.مكثت حيناً أفكر ثم نهضت واقفاً، وتناولت عصاي وغادرت منزلي وسرت وأنا لا أعلم إلى أي مكان تقودني قدماي إلى أن وصلت محطة باب الحديد، وهناك وقفت مفكراً ثم اهتديت للسفر ترويحاً للنفس، وابتعت تذكرة، وركبت القطار للضيعة لأقضي فيها نهاري بأكمله".

<!--- (الشيخ المعمم):

<!--وصفه الراوي بأنه: "أسمر اللون، طويل القامة، نحيل. كث اللحية، له عينان أقفل أجفانهما الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد"! ويؤخذ على الكاتب تشويهه صورة الشيخ المعمم، بذكر سلوكياته المقززة!

<!--- (الشاب الجامعي):

<!-- وصفه الراوي بأنه:" طالب ريفي انتهى من تأدية امتحانه، وهو يعود إلى ضيعته ليقضي أجازته بين أهله وقومه، نظرت إلى الشاب كما نظر إليَّ الشاب ثم أخرج من حافظته رواية من روايات مسامرات الشعب وهمّ بالقراءة بعد أن حوّل نظره عنِّي وعن الأستاذ".

<!--- (الأفندي):

<!-- الذي وصفه الراوي بأنه" وضّاح الطلعة، حسن الهندام، دخل غرفتنا وهو يتبختر في مشيته ويردد أنشودة طالما سمعتها من باعة الفجل والترمس، جلس الأفندي وهو يبتسم واضعاً رجلاً على رجل بعد أن قرأنا السلام، فرددناه رد الغريب على الغريب،".

<!--- (العجوز الشركسي):

<!--وصفه الراوي بأنه:" شيخ بلغ الستين، أحمر الوجه براق العينين، يدل لون بشرته على أنه شركسي الأصل، وكان ممسكاً بمظلة أكل عليها الدهر وشرب، أما حافة طربوشه فكانت تصل إلى أطراف أذنيه، وجلس أمامي وهو يتفرس في وجه رفقائه المسافرين كأنه يسألهم من أين هم قادمون وإلى أين هم ذاهبون".

<!--- (العمدة):

<!-- وصفه الراوي بأنه: "أحدُ عُمَدِ القليوبية، وهو رجل ضخم الجثة، كبير الشارب، أفطس الأنف، له وجه به آثار الجدري تظهر عليه مظاهر القوة والجهل. جلس العمدة بجواري بعد أن قرأ سورة الفاتحة وصلى على النبي".

  ولكن كثرة العدد لم يخرجها عن حد وحدتها، إذ اجتمعت الشخصيات الست ـ صدفة ـ في مكان واحد وهو [ غرفة من غرف القطار ] وزمن محدود لتتحاور وتتجادل فيما بينها حول قضية واحدة، وتنتهي القصة بنزول الراوي وتركه بقية الشخصيات.

وقد تمكن الكاتب من تقديم نماذجه البشرية حية متحركة نراها رأي العين وهي تعمل وتتحرك، وكل نموذج من هذه النماذج يعكس ملامح الطبقة التي يمثلها فضلاً عمَّا تختص بها من سمات شخصية خاصة.

 وللكاتب قدرة فائقة على تصوير شخوصه في عبارات قصيرة موجزة، والأسلوب الساخر المتمثل في التقاط التفاصيل الدقيقة الخاصة بكل شخصية، فأعطى كل شخصية من السمات والملامح الخارجية ما يميزها عن غيرها ويكشف عن عمرها وطبقتها الاجتماعية التي تنتمي إليها، وبعض لوازمها السلوكية .

النسيج القصصي:

استطاع الكاتب أن يحقق لقصته القصيرة الوحدات الثلاث، وهي:

وحدة الحدث:

بنيت هذه القصة "في القطار" من مقدمة تمهيدية تمثلت في الفقرات الثلاثة الأولى عرض فيها الكاتب/الراوي لزمان القصة الصباحي النهاري، ومناخها المنعش، وحالته النفسية الحزينة القلقة الباحثة عن علاج ودواء، تمثل ء في القراءة ثم الجلوس للتفكير ثم تمثل العلاج لديه بطريقة غير إرادية  في السفر، وكانت وسيلة السفر القطار،  حدث واحد يتمثل في قيام الراوي بالسفر بالقطار إلى خارج المدينة حيث الخضرة والطبيعة الجميلة ترويحا للنفس المكتئبة من طول العناء ومشقة الحياة، ويتسم الحدث فيها بالنمو والتطور، حيث يبدأ من بؤرة متحركة تجمع بين الأضداد (الطبيعة الجميلة والحالة النفسية السيئة)، ثم يتصاعد بهذا الحدث حتى يركب القطار ويصف لحظات الانتظار، ثم يستقر به المقام في إحدى عرباته، ثم تتوافد بقية الشخصيات، لتتلاشى الأزمة الشخصية النفسية، فننتقل إلى أزمة القصة الحقيقية، إلى منعطف آخر، تمثل في أزمة اجتماعية، هي أزمة تعليم الفلاح، والتي جعل منها محور حديث الشخصيات داخل عربة القطار، بين مجموعة بشرية ممثلة لفئات متنوعة من المجتمع المصري عصرئذٍ. ويقوم الحوار بدور التصعيد للتوتر النفسي لدى الشخصيات حيث يشتد الجدل فيما بينها، ويظهر التناقض على أشده، وتعبر كل شخصية عن موقفها من تلك القضية، وينتهي الحدث بنزول الراوي من القطار .

وحدة الزمان:

 وهو صباح أحد الأيام، ولا تتعدى فترة أحداث القصة ساعتين أو ثلاثة.

وحدة المكان:

وتتمثل في مكان أولي تمثل في (الحديقة)، ثم أماكن ثانوية تمثلت في الطريق والمنزل ومحطة باب الحديد، والأرض والضيعة، ومحطة شبرا، والقليوبية. ثم المكان الأساس، الذي شهد الحدث الأبرز، وتجمع شخوص القصة القصيرة، وهي (غرفة من غرف القطار) .

وقد وفق الكاتب في اختيار البيئة المكانية حيث يتسع المدى المكاني ليستوعب الريف والقطار المنطلق إلى آفاق غير محدودة، ويمكن النظر إلى (القطار) على أنه تجسيد لطبيعة المرحلة إذ يمثل مرحلة انتقالية في تلك الحقبة من تاريخ مصر، وهو ينم عن منعطف حضاري جديد يتمثل في الموضوع الأساسي للحوار وهو ( مجانية التعليم) .

لغة النص:

اللغة في النص القصصي تتمثل في أسلوبين: السرد، والحوار، وهاك بيانهما ووصفهما في النص:

(أسلوب السرد):

 هو اللغة الوصفية الحكائية التي يصور بها الكاتب الأحداث والشخصيات، ويصف بها الزمان والمكان، وقد سيطر السرد على النصف الأول من القصة "في القطار" حيث صور في لغة موجزة وعبارات قصيرة، وألفاظ موحية  معبرة عن المكان و الزمان والشخصيات بطبائعها وطبقاتها ولازماتها، والتعبير الخيالي التصويري بادٍ في مقدمة القصة القصيرة الذاتية النزعة:" صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته، ويرد الشيخ إلى شبابه، ونسيم عليل ينعش الأفئدة ويسري عن النفس همومها، وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة كأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق وقد دبت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسائل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء....جلست على مقعد واستسلمت للتفكير كأني فريسة بين مخالب الدهر" . أما بقية القصة فنزعتها موضوعية غيرية حياتية، ومن ثم هيمن عليها الأسلوب الحقيقي.

وقد امتلك الكاتب مقدرة فائقة على تصوير الشخصيات بأسلوب ساخر وعبارات قصيرة وجمل موجزة، قادرة على التقاط التفاصيل الدقيقة الخاصة بكل شخصية بما يكشف عن طبيعة كل شخصية وطبقتها ولازمتها التي لا تفارقها، ومن ثم جاءت الشخصيات متميزة السمات والملامح دون أن يحدد لها أسماء دالة عليها، كما اتضح في عرضنا لشخصيات قصتنا القصيرة المقروءة.

(أسلوب الحوار):

 أما أسلوب الحوار فقد سيطر على نصف القصة الأخير، فأحالها إلى مشهد مسرحي، وقد جاء بعض الحوار ساخرًا، ويرى الزميل الدكتور عبدالفتاح منصور أن الأسلوب "جاء بعضه خطابيًّا زاعق الخطابية، بما لا يتناسب وطبيعة الفن القصصي الذي يرفض الخطابية والنزعة التعليمية المباشرة"! وأرى أن الكاتب أنطق كل شخصية بمايناسبها فالشيخ المعمم والشركسي لابد أن يكون كلامهما خطابيًّا زاعقًا! وليس في النص ما أسماه حبيبنا وزميلنا (النزعة التعليمية)!

وقد وظف الكاتب الحوار للكشف عن النزعة الطبقية المتعالية لدى بعض الشخصيات كشخصيتي الشركسي، والعمدة، كما كشف الحوار أيضا عن اللامبالاة لدى طبقة الأفندية وفضح خُواءهم الفكري، كما كشف في الوقت نفسه عن امتلاء الشاب التلميذ بالأمل في المستقبل والرغبة في التغير .

 وقد استخدم الكاتب اللغة الفصحى البسيطة القريبة من لغة الحياة اليومية في السرد والحوار على السواء، وإن كان الحوار قد ظهرت فيه بعض الألفاظ العامية المحدودة، مثل قول الكاتب على لسان العمدة: (صدقت يا بيه)، (أنا مولود بيها يا بيه)، وقوله على لسان الشركسي:"أدبسيس فلاح"، وقوله على لسان الأفندي:"برافو يا أفندي، برافو، برافو..

نص القصة القصيرة المبحوثة: (في القطار) للكاتب محمد تيمور

صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته، ويرد الشيخ إلى شبابه، ونسيم عليل ينعش الأفئدة ويسري عن النفس همومها، وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة كأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق وقد دبت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسائل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء.

تناولت ديوان "موسيه" وحاولت القراءة، فلم أنجح. فألقيت به على الخوان، وجلست على مقعد واستسلمت للتفكير كأني فريسة بين مخالب الدهر.

مكثت حيناً أفكر ثم نهضت واقفاً، وتناولت عصاي وغادرت منزلي وسرت وأنا لا أعلم إلى أي مكان تقودني قدماي إلى أن وصلت محطة باب الحديد، وهناك وقفت مفكراً ثم اهتديت للسفر ترويحاً للنفس، وابتعت تذكرة، وركبت القطار للضيعة لأقضي فيها نهاري بأكمله.

وجلست في إحدى غرف القطار بجوار النافذة، ولم يكن بها أحد سواي وما لبثت في مكاني حتى سمعت صوت بائع الجرائد يطن في أذني "وادي النيل، الأهرام، المقطم" فابتعت إحداها وهممت بالقراءة وإذا بباب الغرفة قد انفتح ودخل شيخ من المعممين أسمر اللون، طويل القامة، نحيف القوام، كث اللحية، له عينان أقفل أجفانهما الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد، وجلس الأستاذ غير بعيد عني، وخلع مركوبه الأحمر قبل أن يتربع على المقعد، ثم بصق على الأرض ثلاثا ماسحا شفتيه بمنديل أحمر  يصلح أن يكون غطاء لطفل صغير، ثم أخرج من جيبه مسبحة ذات مائة حبة وحبة، وجعل يردد اسم الله والنبي والصحابة والأولياء الصالحين، فحولت نظري عنه فإذا بي أرى في الغرفة شاباً لا أدري من أين دخل علينا، ولعل انشغالي برؤية الأستاذ منعني أن أرى الشاب ساعة دخوله.

نظرت إلى الفتى وتبادر إلى ذهني أنه طالب ريفي انتهى من تأدية امتحانه، وهو يعود إلى ضيعته ليقضي أجازته بين أهله وقومه، نظرت إلى الشاب كما نظر إليَّ الشاب ثم أخرج من حافظته رواية من روايات مسامرات الشعب وهمّ بالقراءة بعد أن حوّل نظره عنِّي وعن الأستاذ، ونظرت إلى الساعة راجياً أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر رابع فإذا بأفندي وضّاح الطلعة، حسن الهندام، دخل غرفتنا وهو يتبختر في مشيته ويردد أنشودة طالما سمعتها من باعة الفجل والترمس، جلس الأفندي وهو يبتسم واضعاً رجلاً على رجل بعد أن قرأنا السلام، فرددناه رد الغريب على الغريب، وساد السكون الغرفة والتلميذ يقرأ روايته، والأستاذ يسبح وهو غائب عن الوجود والأفندي ينظر لملابسه طوراً وللمسافرين تارة أخرى، وأنا أقرأ وادي النيل منتظراً أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر خامس.

مكثنا هنيهة لا نتكلم كأنا ننتظر قدوم أحد، فانفتح باب الغرفة ودخل شيخ بلغ الستين، أحمر الوجه براق العينين، يدل لون بشرته على أنه شركسي الأصل، وكان ممسكاً بمظلة أكل عليها الدهر وشرب، أما حافة طربوشه فكانت تصل إلى أطراف أذنيه، وجلس أمامي وهو يتفرس في وجه رفقائه المسافرين كأنه يسألهم من أين هم قادمون وإلى أين هم ذاهبون، ثم سمعنا صفير القطار ينبئ الناس بالمسير وتحرك القطار بعد قليل يُقل من فيه إلى حيث هم قاصدون.

سافر القطار ونحن نجلس لا ننبس ببنت شفه، كأنما على رؤوسنا الطير، حتى اقترب من محطة شبرا فإذا بالشركسي يحملق فيّ ثم قال موجهاً كلامه إلىّ: 

- هل من أخبار جديدة يا أفندي؟

فقلت وأنا ممسك الجريدة بيدي ليس في أخبار اليوم ما يستلفت النظر اللهم إلا خبر وزارة المعارف بتعميم التعليم ومحاربة الأمية.

ولم يمهلني الرجل إلى أن أتم كلامي لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني وابتدأ بقراءة ما يقع تحت عينيه، ولم يدهشني ما فعل لأني أعلم الناس بحدة الشراكسة، وبعد قليل وصل القطار محطة شبرا وصعد منها أحدُ عُمَدِ القليوبية، وهو رجل ضخم الجثة، كبير الشارب، أفطس الأنف، له وجه به آثار الجدري تظهر عليه مظاهر القوة والجهل. جلس العمدة بجواري بعد أن قرأ سورة الفاتحة وصلى على النبي ثم سار القطار قاصداً قليوب.

مكث الشركسي قليلاً يقرأ الجريدة، ثم طواها وألقى بها على الأرض وهو يحترق من الألم وقال: 

- يريدون تعميم التعليم ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح مصاف أسياده، وقد جهلوا أنهم يجنون جناية كبرى.

فالتقطت الجريدة من الأرض وقلت: 

- وأية جناية؟

- إنك ما تزال شاباً لا تعرف العلاج الناجح لتربية الفلاح.

- وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجح من التعليم؟

فقطب الشركسي حاجبيه وقال بلهجة الغاضب: 

- هناك علاج آخر.

- وما هو؟

فصاح بملء فيه صيحة أفاق لها الأستاذ من نومه وقال: 

- السوط، إن السوط لا يكلف الحكومة شيئاً، أما التعليم فيتطلب أموالاً طائلة، ولا ننس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد.

وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة حفظه الله كفاني مؤنه الرد فقال للشركسي وهو يبتسم ابتسامة صفراء: 

- صدقت يا بيه ولو كنت تسكن الضياع لقلت أكثر من ذلك.

إننا نعاني من الفلاح لنكبح جماحه، ونمنعه من ارتكاب الجرائم.

فنظر إليه الشركسي نظرة ارتياب وقال: 

- حضرتكم تسكنون الأرياف؟

- أنا مولود بها يا بيه.

- ما شاء الله.

جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه، والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه ثم ينظر إلينا ويضحك، أما التلميذ فكانت على وجهه سيماء الاشمئزاز، ولقد همَّ بالكلام مراراً فلم يمنعه إلا حياؤه وصغر سنه، ولم أطق سكوتاً على ما فاه به الشركسي، فقلت له: 

- الفلاح يا بيه إنسان مثلنا وحرام ألا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان فالتفت إلىّ العمدة، كأني وجهت الكلام إليه وقال: 

- أنا أعلم الناس بالفلاح، ولي الشرف أن أكون عمدة في بلد به ألف رجل، وإن شئت أن تقف على شؤون الفلاح أجيبك، إن الفلاح يا حضرة الأفندي لا يفلح معه إلا الضرب، ولقد صدق البيك فيما قال. وأشار بيده إلى الشركسي.

ولا ينبئك مثلُ خبير.

فاستشاط التلميذ غضباً، ولم يطق السكوت، فقال وهو يرتجف: 

- الفلاح يا حضرة العمدة .....

فقاطعه العمدة قائلا: 

- قل يا سعادة "البك لفظاً" لأني حزت الرتبة الثانية منذ عشرين سنة.

قال التلميذ: 

- الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب لأنكم لم تعوّدوه غير ذلك، فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه لكنتم وجدتم فيه أخاً يتكاتف معكم ويعاونكم، ولكنكم مع الأسف أسأتم إليه فعمد إلى الإضرار بكم تخلصاً من إساءتكم. وإنه ليدهشني أن تكون فلاحاً وتنحى باللائمة على إخوانكم الفلاحين.

فهز العمدة رأسه ونظر إلى الشركسي وقال: 

- هذه هي نتائج التعليم.

فقال الشركسي: 

- نام وقام فوجد نفسه قائم مقام.

أما الأفندي ذو الهندام الحسن فإنه قهقه ضاحكاً وصفق بيده وقال للتلميذ: 

- برافو يا أفندي، برافو، برافو.

ونظر إليه الشركسي وقد انتفخت أوداجه وتعسّر عليه التنفس وقال: 

- ابن الحظ والأنس يا أنس.

قهقه عدة ضحكات متوالية.

ولم يبق في قوس الشركسي منزع فصاح وهو يبصق على الأرض طوراً وعلى الأستاذ وعلى حذاء العمدة تارة.

- أدبسيس فلاح.

ثم سكت وسكت الحاضرون، وأوشكت أن تهدأ العاصفة لولا أن التفت العمدة إلى الأستاذ وقال: 

- أنت خير الحاكمين يا سيدنا فاحكم لنا في هذه القضية. فهز الأستاذ رأسه وتنحنح وبصق على الأرض وقال: 

- وما هي القضية لأحكم فيها بإذن الله جل وعلا؟

- هل التعليم أفيد للفلاح أم الضرب؟

فقال الأستاذ: 

- بسم الله الرحمن الرحيم (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)، قال النبي عليه الصلاة والسلام لا تعلموا أولاد السفلة العلم. "

 وعاد الأستاذ إلى خموله وإطباق أجفانه مستسلماً للذهول، فضحك التلميذ وهو يقول: 

- حرام عليك يا أستاذ إن بين الغني والفقير من هو على خلق عظيم كما أن بينهم من هو في الدرك الأسفل.

فأفاق الأستاذ من غشيته وقال: 

- واحسرتاه، إنكم من يوم ما تعلمتم الرّطان فسدت عليكم أخلاقكم ونسيتم أوامر دينكم، ومنكم من تبجح وبغى واستكبر وأنكر وجود الخالق.

فصاح الشركسي والعمدة (لك الله يا أستاذ) وقال الشركسي: 

- كان الولد يخاف أن يأكل مع أبيه، واليوم يشتمه ويهم بصفعه.

قال العمدة: 

- كان الولد لا يرى وجه عمته، والآن يجالس امرأة أخيه.

ووقف القطار في قليوب، فقرأت الجميع السلام، وغادرتهم وسرت في طريقي إلى الضيعة وأنا أكاد لا أسمع دوى القطار وصفيره، وهو يعدو بين المروج الخضراء لكثرة ما يصيح في أذني من صدى الحديث.  

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 37521 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

292,478