ثنائية الوفاء والعطاء في ديوان (قلبي يتألم عند الفجر) للدكتور عبدالوهاب برانية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إعداد: الأستاذ الدكتور /صبري فوزى عبدالله أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
وعضو اتحاد كتاب مصر
هذا هو الديوان الرابع للنابغة الأزهري (عبد الوهاب عبد المقصود علي بَرَّانِيَّة) ابن قرية لقانة، من مركز شبراخيت، التابع لمحافظة البحيرة، وفيه سبعون تجربة، شملت كل ما أبدعه خلال النصف الثاني من العام المنصرم فأول تجربة فيه مؤرخة بـ(الثلاثاء 30رمضان 1440هـ= 4/6/2019م) وآخر تجربة هي (حقيبتي القديمة) وهي مؤرخة بـ(الاثنين ٤/١١/٢٠١٩م). وقراءة سيرة نابغتنا الحياتية تدل على أنه شاب أزهري، تجاوز الخمسين، كامل في أزهريته، أصيل في تعلمه، عاش كما يعيش الأزهريون مع القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، والتراث العربي والإسلامي، وعلوم الإسلام الأساسية من فقه وأصول دين وعلوم لغة عربية، وطور ملكاته بأساسيات العلوم الإنسانية والتجريبية، ثم تخرج في كلية اللغة العربية بدمنهور عام 1988م وقد مارس التدريس في المعاهد الأزهرية إذ عمل مدرسًا في معهد لقانة الديني الأزهري حتى تعيينه معيدًا 1994م، وتدرج في الدراسات العليا حتى حصل على رسالة الماجستير عن موضوع: (قضايا المجتمع في قصص يوسف السباعي)، ثم على الدكتوراه عام 2003م، عن موضوع( الدكتور عبد العزيز شرف ناقدًا)، وقد مارس الخطابة في مساجد محافظة الأصالة والتجديد (البحيرة)، (دكتوراه)، ثم عمل بجامعة سبها الليبية عامي 2007- 2008م، ثم جامعة الباحة السعودية عامين آخرين 2011-2012م، وقد انتقل من كلية اللغة العربية بإيتاي البارود سنة 2015م إلى كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بدمنهور. ومن أبحاثه العلمية: قراءة النص الأدبي، التجربة الشعرية عند طه حسين، البحث الأدبي: آلياته وإشكالياته، علاء الدين وحيد في منهجه النقدي، اللواء محمد حلمي أمين الزيات الشاعر والإنسان. ولحبيبنا سيرة ذاتية صادقة بعنوان(من أوراق الماضي) تكاد تعبر عن كل ريفي ومصري وأزهري، كما نشرت بعض كتاباته في صحيفتي الأهرام والمساء...
ثم جاءته الشاعرية متوهجة في أعوامه الأربعة الأخيرة، فانطلق يبدع كل يوم نصًّا أو أكثر حتى أخرج ثلاثة دواوين، هي ديوان (من وحي الجامعة)، ثم كان ديوان (بقايا إنسان)، ثم ديوان (ومضة من الزمن الجميل). وها هو ذا ديوانه الرابع (قلبي يتألم عند الفجر).
وقد عرفت الحبيب الأريب النجيب الأخ الأكبر(عبدالوهاب برانية) منذ رحلتي إلي إيتاي البارود أثناء رحلة طلب الحصول على شهادة العالمية (الدكتوراه)، زمن العملاقين: محمودالسمان وصفوت زيد، رحمها الله تعالى، فوجدت فيه أنموذج الشاب المثقف المرح الإلف المألوف، الفاعل المضيف المثقف، لا يخلو عقله، ولا لسانه، ولا مجلسه، ولا بيته من نفع وخير ثقافي وعلمي وتعليمي، فهو حقًّا (وَهَّاب) ممن يُقدمون على العطاء والهبة، وهو كذلك ذو ثقافة (برانية)، ليست بتلك المعتادة عن التقليدي الكلاسيكي، حيث الاطلاع على الأدب الحديث عربيًّا وغربيًّا، والقراءة في منجزات النقد الحداثية مع أصالة وجزالة.
ودلالة الوفاء الأولى في الديوان نجدها في عتبة (الإهداء) إذ أهدى الدكتور/عبد الوهاب برانية شعره هنا إلى زوجه قائلاً:
"إهداء إلى زوجتي الحبيبة (سناء محمد برانية) التي أعدها نموذجًا فريدًا في الحب والوفاء والقناعة والعطاء، والوطنية والانتماء. أهديها وصِبْيَتِي: محمدًا ورحمة وأحمد – ثِمَار غرسنا وبهجة حياتنا- قصائد هذا الديوان". عبد الوهاب.
فنجد في هذا النص عاطفة الوفاء، وثبات الحب، و امتزاج الذات بالمحبوب: زوجًا وأهلاً ووطنًا.
أما عن عتبة العنوان (قلبي يتألم عند الفجر) فهو تركيب اسمي مكون من مبتدأ (قلبي) وجملة فعلية(يتألم) وقيد زمني(عند الفجر)، وهو دال على امتزاج ثنائية الذات(قلبي) والآخر المحبوب، وزمن المناجاة والخلاص (الفجر)، وهيمنة العاطفة المشبوبة(التألم)، مع وفاء للمحبوب وثبات واستمرار في العاطفة.
وعنوان الديوان(قلبي يتألم عند الفجر) عنوان لتجربة ذاتية لشاعرنا، أبدعها يوم الأربعاء ٧/٨/٢٠١9م، وهي نفثة صوفية صادق للإنسان المؤمن المتوكل المستعين حقا بربنا الشافي المعافي، وفيها صورة واقعية حزينة للإنسان الكادح المطحون، لاسيما من أسميهم الأساتذة المُشاة أمثال شاعرنا وأمثالي، ممن لا يمتلكون سيارة خاصة، ولا يقدرون أو يخططون لذلك، يقول متحيرًا شاكيًا:
نظرت حولي فلا سيارةٌ حوزتي أهوِي إليها كما هذي الملايينِ
ألست ممن يظن الناس يُسْرَهمُ؟ ويحسبون لهم كم ألف مليونِ؟
وقلقه النفسي ونفسه المنكسرة، هنا، جعله يصحح (فاعلن) في عروض البسيط التام(حوزتي)، وهي مخبونة دائمًا!
وتبدأ القصيدة بهذه الصورة الحزينة:
جاءت إليَّ قُبَيْلَ الفجرِ شاكيةً ألمًا ألَمَّ بها تبكي وتُبْكيني
تقول: لست أطيق القلب من وجعٍ
يكاد قلبي من الأوجاع يُرديني
ألقَتْ بكل مواجيع الفؤاد علَى أكتاف موجوعها، من ذا يواسيني؟
وكان الخلاص الوحيد في الاستغاثة بالحق الناصر عز وجل، يقول:
فهل لمثلي ملايينٌ يلوذ بها عندي ملايينُ من عقلي ومن ديني
تركت زوجي على وجلٍ ولذت به ربي، طرقت له بابًا يوارينِي
صليت فجري وحمَّلْتُ الأكف رجا فجاء تفريجه في التَوِّ والحينِ
فعاد وجه حبيب القلب مؤتلقًا ومال للنوم والأنداء ترويني
فظاهر مدى روحانية شاعرنا وصوفيته. تجربة واقعية صادقة إيجابية، ولذا حق لنا أن نقول إن هذه التجربة من الإعلام التربوي الهادف البناء، وهي صالحة لأن تدرس في مرحلة الإعدادية أو الثانوية؛ لما فيها من سلوكيات إنسانية شفافة ماتعة.
والرؤية الكلية للديوان تجعلنا نقول: إنه تجارب شجنة آسية، تتنوع بين وطنية، وشخصية، وإنسانية، يربط بينها جميعًا قلب (عبدالوهاب) الكبير الحساس، قليل من هذه التجارب تقليدي أسير المناسبة، وكثير منها تجاوز المناسبة وأخذ بعدًا إنسانيًّا أو اجتماعيًّا أو وطنيًّا فذًّا. أقف في هذا التقديم مع التجارب المُثيرة المُنيرة، يقول من خريدته(مزاد شعري):
الشعر يجري سائغًا بلسانه وكأنه فيضان نهرٍ عنبري
قد دار في كل المواجع شعرُه لم يُغْضِ عن أوجاعنا أو يزدري
آنًا تراه رهين هَمٍّ غائرٍ وتراه آنًا للفواجع ينبري
تبكي فلا تدري أتبكي همَّه أم همَّكَ المنظورَ بين الأسطرِ
والعطاء في تجارب الديوان متنوع:
عطاء لشخص المبدع حيث ذاتياته عن نفسه، وزوجه، وحقيبته، وعطاء لمصرنا المحروسة حبًّا وتقديرًا، وجلدًا للإرهابيين المتربصين بها، وإعلانًا عن المظاهر الجميلة النبيلة بها، وعطاء لمجتمعه الأزهري: كليته الأولى: لغة إيتاي، وشيوخه وزملائه الراحلين، وطالباته، وزميلاته. وهاك بيان بعض ذلك العطاء:
وتأتي تجربته الأولى(أحبها بلدي) دالة على هذا الوفاء للمحبوبة الأولى (مصرنا)، يقول:
يا مصر يا نبض الفؤا دِ وراحة القلب العليلْ
سيظل حبك صامدا يبقى على الأمد الطويلْ
سيظل عند تزاحم الــ ـعشا قِ معشوقي الجميلْ
سيظل شمسيَ إن أتت أو فارقتْ شمسُ الأصيلْ
والطيرُ حلَّق في سما كِ مراقصًا عالي النخيلْ
والماء يجري عبر نيــ ـــلك ذلك النهر البليلْ
فالوفاء والثبات في هذه الرؤية الوطنية الصامدة مع الزمان(سيظل حبك الأمد الطويل)، وتكرار التعبير(سيظل)، ومع المكان(ستظل شمسي..والطير حلق... والماء يجري...) ومع الإنسان(سأظل أدني صاحبي).
ومن عجيب الوطنية وصريحه وحادِّه وجادِّه عند شاعرنا أن الصداقة الحقة عنده لا تكون إلا لكل وطني مخلص ثابت في وطنيته، وأن المتحولين المتلونين لا نمان لهم في قلبه وروحه، يقول:
سأظل أعشق كل ما ينمِي إليكِ وأستميلْ
سأظل اُدنِي صاحبي ما دام عنها لا يميلْ
فإذا تحول حبه حوَّ لتُ قلبي ألف ميلْ
فالشاعر صريح جاد حاد في علاقاته، وليس من هؤلاء الضعاف المنافقين الرماديين!
وتكاد تكون مفردة (القلب) مهيمنة على معجمه الشعري في كل تجاربه، ففي غرض التهنئة نجده يصدع قائلا:
قلبي يهنئ كلَّ الناس قاطبة عيدٌ سعيدٌ لكم يا كلَّ أحبابي
فكلَّ عام بخيرٍ أنتمُ أبدًا يا من تَخِذتكمُ بالفيس أصحابي
فالقلب هو المُهِنِّئ، ومن جميل المعجم الشعري هنا توظيف التعبير الحياتي اليومي(عيد سعيد)(كل عام بخير أنتم)، وتفاعل الشاعر مع لفظ دخيل(الفيس)؛ مما يدل على طبعه وعفويته، ومرونته في مجال الصياغة الشعرية.
وفي تجربته (نسائم العيد) يجلد الشاعر الوطني المجاهد جحافل الإرهاب وخفافيش الظلام، التي أخذت تشق طريقها بأدوات الغدر والخيانة؛ لتفزع ملايين المصريين في حفنة من فلذات الأكباد غدرًا وخسة، ففزعت ربة الشعر لهذا المصاب الجلل، فجعلته يقول موضحًا زمن الغدر، وحال جنودنا فيه:
أتى الإرهاب فجر العيد جندا يصونون البلاد من الأعادي
أتاهم حينما لاذوا بفجر يشق النور عن ظُلَم العبادِ
وقد حملوا سلاح السلم لما رأوا نور السلام على البلادِ
ثم كانت الغدرة الطامة من المرتزقة الفاسقين:
إذا بالغاشم العربيد يأتي كما تأتي العواصف بالبوادي
أحالوا ثوبنا في العيد ثوبا خضيبا باحمرار معْ سواد
ولا يقف شاعرنا مع ما أحدثوه من قتل وفساد، بل ينتقل سريعًا إلى الموقف الوطني الإيجابي عقب الفعلة الإرهابية الشنيعة، يقول:
ولكن فاتهم أنَّا سريعا سنرصدهم بأجنادِ جياد
نجندلهم لأقدامٍ وأيدٍ نمزقهم بأضراسٍ شداد
ونخلي أرضنا من كل جرذ نشتت شملهم في كل واد
ونرفع ذكر من صمدوا عَلِيًّا ونعلي هامَهم في كل نادي
ثم كان الختم بالدعاء:
فيا بلدي رُزِقْتِ الأمنَ دومًا وجُنِّبْتِ المواجعَ يا بلادي
وتأتي تجربته (شراع محبة في سماء بلادي) فريدة وطنية، وشعورًا طريفًا في التعبير الإيجابي عن ظاهرة خاصة في حب الوطن غارسة الأمل، وما أحوجنا إليه، فيصور لنا حالة الشعب يوم الجمعة 21/6/2019م، أثناء مباراة الافتتاح لبطولة كأس الأمم الإفريقية، يقول مخاطبًا معشوقته دائمًا:
كم أنتِ يا مصر الحبيبةُ فلذةٌ قد أُودِعتْ بين الحشى إيداعا!
هذي القلوب تَخَلَّقَتْ ممزوجةً من طين مصرَ فأُبْدِعَتْ إبداعا
حتى غدتْ أمَّ الجميعِ، دعاؤها تسعى له كل القلوب سِراعا
الكل يأتي إذ تنادي أمه ينسى لديها الهمَّ والأوجاعا
ما كنتُ أحسب يا حبيبة قلبنا أمرَ الحبيب على المحب مطاعا
حتى رأيت الكلَّ يسعى جاهدا فالكل يرفع في سماك شراعا
والكل يهتف باسم مصرَ وقلبُهُ قد أرهف الإحساس والأسماعا
وكانت النتيجة من هذا المشهد الشعبي الفطري هذه الزفرة الوطنية:
هذا مكانك يا بلادي عندنا حبٌّ يعم القلب والأضلاعا
فما زال القلب مهيمنًا عليه، وما زال شعور الإحساس بالنصر ثابتًا لديه؛ فمصر في قلوب أبنائها وبناتها ورجالها ونسائها، ولا يضيرها نعيقٌ هنا أو عواءٌ هناك، ممن يتربصون بها ويكيدون، فإلى الأمام دائما يا بلادي. ذلك خطاب أساس رئيس في رؤى (برانية) الشعرية، وهي نزعة داخلية متجذرة فيه ككل أصيل نبيل حر مستقل في بلدنا المحروسة ربانيًّا.
وننتقل من وفاء شاعرنا للوطن الأكبر إلى وفائه لأساتذته ولزملائه، فله غير مرثية فيمن رحلوا عن دنيانا، أقف هنا مع رائعته عن أستاذنا محمود عباس عبدالواحد، الذي رحل عن دنيانا يوم 21/6/2019م،وهو رجل ملأ الدنيا علمًا وعطاءً، ونالنا من علمه وفضله الكثير، وقد نعاه الناعي إلى الأمتين العربية والإسلامية، والخاسر الأكبر برحيله تلاميذه وعشاق سماع صوته المموسق القوي الجميل المنطلق عبر الأثير في إذاعة القرآن الكريم، فنظم شاعرنا قصيدة من البحر البسيط التام، قافيتها لامية موصولة بالألف، عدتها سبعة عشر بيتًا، الذي حظي بمناقشة أستاذنا الدكتور محمود عباس له سنة 2003م، فكانت قصيدته نفثة تلميذ آلمه فقد أستاذه، جاء مطلعها حديثًا مباشرًا عن العلاقة العلمية بين الباكي والمرثي:
من قبل عِقْدٍ ونصف العِقْدِ ناقشني
مَن كنتُ أختصه بالحب إجلالا
ومن خير ما فيها قوله عن أستاذنا:
إذا تحدث محمودٌ تُصِيخ له قلوبُ مَن وصفوا نُؤْيًا وأطلالا
كأنما لفظه قَدْ قُدَّ من ذهبٍ فصاغَ منه لأهل العلم أمثالا
عبرَ الأثير وفي القاعات تسمعه وفي المحافل أقوالا وأفعالا
وقد تمازج لا تدري لقيتَ به صوتَ البلابل أم تلقاه رئبالا
لو كان يوصف صوتٌ بالوثوق لما
قد جاز إلا لكم وصفا وتمثيلا
ثم يقول مصورًا علاقته به:
قالوا شديدٌ حديدٌ في مناقشةٍ لكن وجدتك عذبَ الماءِ هطَّالا
قدَّمتني للألَى حضروا مناقشتي كباحثٍ قد غدا للبحث وصَّالا
فزدتني شرفا ما بعده شرفٌ وصرت أزهو به ما عشتُ مختالا
فالكل يغبطني من طيب صنعكمُ خلعتَ ثوبا بلى عني وأسمالا
أنبتَّ ريشا لطيرٍ كان قبلكمُ بلا جناحٍ فصار الطيرُ جَوَّالا
ثم يختم البكائية بعاطفته الثابتة المستمرة:
فلن ورب الورى ننساكمُ أبدا ما دمتَ يا والدي قد صِرْتَ رحَّالا
وجميل ما في البكائية عاطفتها وتصوير شاعرنا لأثر أستاذنا فيه، وقد صدق في وصف أستاذنا كل صدق، لاسيما في تصوير فصاحته الصوتية والتعبيرية والفكرية. غفر الله له وألحقه بالصالحين.
وإنسانية شاعرنا وأبوته وتواضعه نجده في تجربته (لا تحزني) التي أبدعها ردًّا على منشور حزين قرأه لإحدى طالباته، يقول:
إسراءُ مالكِ تحزنينْ والهمَّ قد رسم الجبينْ؟
والحرف مقطوع الوتينْ والناي حطمه الأنينْ
فلتعزفي ما تحلمينْ لا تعزفي وجع السنينْ
والهمُّ عندك جاثم فلتطرحي الهم الثخينْ
ويقدم الدواء النفسي لحالتها الكئيبة، قائلا:
فالأفق مرسوم كما يا أختنا قد ترتئينْ
والكون يرفل في ثيا بِ عيوننا للناظرينْ
فلترسميه كما براه الله من ماء معينْ
فالحل في تغيير المنظار من أسود أو غامق إلى أبيض فاتح، فالجميل يرى الكون جميلاً.
ومن إنسانيته قصيدة (مزاد الشعر) التي تعبر عن حالة أستاذ الجامعة المبني للمجهول، والمثقف المبدع المطحون، الذي لا يجد من ينشر إبداعه، فيضطر إلى نشره على حساب قوته وقوت أهله، يقول:
مَنْ يشتري مني القصيدَ مُنَضَّدًا؟ إني أبيع الشعرَ مَنْ ذا يشتري؟
مَنْ يشتري شِعرًا تَوَلَّى نظمَه أستاذُ آدابٍ وشيخٌ أزهري؟
الشعر يجري سائغًا بلسانه وكأنه فيضان نهرٍ عنبري
فتلك نفثة مبدع مصدور من الواقع المادي الجاثم، ومن سيطرة أصفار وغوغاء وببغاوات على مقاليد النشر لكل ما هو رخيص هابط، وترك كل نبيل طريف جاد من بنان شيخ وجنان أزهري!
هذي البضاعة لا تراها قارئي إلا بدفتره الشجيِّ العاثرِ
قد ضَمَّ هاتيكَ القصائدَ كلَّها وأذاعها وكأنها لم تُنْشَرِ
وتجاهلته صحائفٌ ومطابعٌ قد أُفْسِحَتْ لا للعجيب الأمهرِ
لكنْ لمن عرف الطريق وليس من ضل الطريق إلى الذيوع الأشهرِ
فكانت النتيجة أنه صرف من ماله الخاص على تجاربه:
فمضى حفيًّا بالقصائد منفقًا أموالَه في نشرها لم يُخْسِرِ
من ذا يقيل قصيده من عثرةٍ؟ لا لا تقيلوا عثرة المتعثرِ!
فبرانية هنا حريص على الإبداع وليس على شخصه! وتلك قمة الإخلاص وعنوان التفاني في إيصال قلبياته إلى جمهوره ومتلقيه...
وفي تجربته(إعمار الحياة) طرافة في الطرح لا تخرج إلا من نفس زكية ذكية نقية داعية ميدانية؛ فهي حديث من القلب لأب عزفت ابنته عن الزواج، وتقدم بها السن، ولديها كل مقومات بناء الأسرة وإعمار الحياة، جاء يلتمس النصيحة عند شاعرنا فقال لها:
أبنيتي لِمَ قد عزفتِ عن الذي لا بد منه لكي تسير بنا الحياةْ
ما لي أراكِ على الدوام حزينةً قد بان حزنُكِ في تقاسيم الجباهْ
وهكذا عبدالوهاب الأب يهتم لبناته ويحزن لحزنهن، ويجدد فيهن الأمل والطموح قائلاً:
هذي الوسامةُ لا أودُّ أرى بها حرفًا حبيسًا تستبدُّ به الشفاهْ
هذي الخدود الناضراتُ بوجنتيـــ ــــكِ يغار منها الوردُ في عالي رُبَاهْ
والجِيدُ رِئْمٌ والعيونُ كما المها والجسم كالأبنوسِ يخلب من يراهْ
أنت العفيفة والحصينة يا ابنتي أنت المثالُ الذي ربي بَرَاهْ
أنت اليقين إذا الخطوب تراكمتْ أنت الخشوع كما تَبَدَّى في الصلاهْ
أنت ابتهالاتُ الصباح على الدُّنَى أنت النَّدَى العِطْريُّ تحسده المياهْ
كل الأوانسِ ترتئيكِ نموذجًا للبنت لا تُخْطِي تعاليمَ الإلهْ
ومن ثم يأمرها ناصحًا:
كوني بنيةُ كالصباح يجـيء للدُّ نيا وضيئًا قبلما تأتي الغداهْ
كوني كزهر الروض جذابا ولا أبدًا تكوني مثلَ أشواكِ العِضاهْ
كوني ملاكا يا ابنتي في ثوب إنــــ ــــسيٍّ له سهمٌ بإعمار الحياهْ
وهكذا يقنعها بجملة صور من الطبيعة حولها، مقررًا حقيقة أن الزواج سنة كونية وعبادة إسلامية، به يكون الكون، وبه تزهر الحياة وينتعش الأحياء.
إننا هنا أمام تجربة نسوية فذة، يمكن من خلالها أن يخاطب كل أب وكل داعية وكل معلم وكل إعلامي بنات حواء؛ لنخفف من معاناتهن وآلامهن...
والثبات في هذا الديوان يتضح في القالب الإيقاعي، والمعجم الشعري، إذ يكاد يدور الشاعر حول إيقاعات ومفردات وتعبيرات محدودة مكرورة، تألفها الأذن، وتتعود عليها ملهمة الشاعر...
حبيبي (عبد الوهاب)، دمت مبدعًا ممتعًا، متنقلاً بين الرؤى والأحلام، صائلاً بين التجارب والأطروحات، هادفًا، وداعيًا، وبانيًا، وشاديًا، وشاجيًا، ومنيرًا ومثيرًا، مجاهدًا لَسِنًا للوطن والنفس البشرية معًا. ولكن انتقل من كلاسيكيتك المجدِّدة في هذا الديوان إلى عوالم شعرية وفنية أكثر طرافة وحداثة، وأشد سحرًا وأسرًا، وإنك على ذلك لقادر، وله وفيه متمكِّن ..