بسم الله الرحمن الرحيم
وحيد الدهشان: حياة وآثارا
(قراءة توثيقية أولى لمرحلة من مسيرة شاعر إسلامي)
تأليف الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين
مدرس الأدب والنقد في كلية اللغة العربية بالزقازيق
أستاذ مساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي
1426هـ=2005م
الشعر:
ماذا جنينا من كلا م مبهم |
|
يا من تشتت في ربوع الطلسم |
نصغي لذي قول عقيم هائم
|
|
عمر يبعثر دون وعي عندما |
في ذاته وتشابك لم يعلم
|
|
مازال يخبط في الدياجي تائها |
فلسوف تحصى كل أقوال الفم |
|
فارفق بنفسك في المقالة يا أخي |
أن يستعار لكل رمز مظلم |
|
والشعر يأبى أن يكون طلاسما |
إشعاعها كالآي للمتوسم |
|
الشعر في زمن الضلال منارة |
في قلب من يهوى حياة النوم |
|
الشعر في زمن التخاذل وخزة |
وأنار فيها كل درب معتم |
|
الشعر مما شق الصدور بريقه |
في النفس لا يكبو ودون تلعثم |
|
الشعر ما اخترق الحواجز موغلا |
وانساب فينا في العروق كما الدم |
|
الشعر ما ذابت له خلجاتنا |
قلب يحلق في مدار الأنجم |
|
الشعر آمال كبار صاغها |
نحو العلا عبر الطريق الأقوم(<!--) |
|
الشعر ما اصطحب النفوس مطيعة |
"الدهشان"
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
عندما أشرق الإسلام بنوره على الأرض غير الحياة بعد أن صهر قلوب العرب وعقولهم، في بوتقة الحضارة، وأخذ بأيديهم إلى مدارج الكمال، وقد كانوا قبل ذلك يتمرغون ففي مهاوي السقوط والضلال ويعيشون في مستنقع من الآثام والجهالة.
ولم يتخلف الشعر عن تمثل هذا التحول الحضاري، الذي أثرى به الإسلام الحياة العربية فقد سرت الدعوة الجديدة مسرى النور في الظلمات، وأصبح للإسلام شعراؤه الذين تتردد شعرهم في كل جنبات الحياة، صادعة بذكر الله تعالى، ومبجلة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم، ومستعينة بالقيم العليا التي جاء بها هذا الدين الخاتم لهداية العالمين.
وظل الشعر الإسلامي يمتد ويتطور من جيل إلى جيل، وفي كل عصر ومصر، حتى آننا الحزين، ذلكم الآن الذي طغى فيه تيار التغريب الذي لم يدرك الغاية من الحياة ولم يؤمن بها فشقيت نفسه وعاش الظلام، برؤية سوداء قاتمة، واتجاهات معتمة كابية متأثرا بأزمات نفسية وحضارية يعيشها المجتمع الغربي الذي يختلف اختلافا جذريا عن المجتمع العربي الإسلامي.
عاش هذا التيار تائها متخاذلا، غارقا في ملذات الجسد بكل ألوانها، محاربا العفة والأعفاء، شموسا جموحا نافرا من ثوابتنا الحقة، معتمدا على عقائد الآخر وتصوراته الفكرية عن الحياة والألوهية والطبيعة وعلاقة الإنسان بذلك كله وبغيره، داعيا إلى أن تكون دينا جديدا للبشرية ينسف جميع ما عرفت من شرائع وعقائد، ثائرا على الثالوث المميز لنا: الدين واللغة والقيم الطاهرة... وبذلك ضل هذا التيار بلبسه زي الآخرين ومعاولهم.
تلك حقيقة قررها كثير من ناقدي الأدب ومؤرخيه الأصلاء حول هذا التيار الطاغي..
من هنا كان لابد للتيار الإسلامي العريق أن يصحو ويحرص على الحضور بالساحة الشعرية رغم ازدحامها بالزبد والأصفار، الحضور في الروابط والأندية الأدبية وفي الجرائد والمجلات وفي الجوامع والجامعات وفي المطبوعات والدوريات، وقد كان ذلك الحضور بفضل كوكبة من مخلصي الأمة، من الدعاة المعاصرين إلى الأدب الإسلامي، والنشطاء في حقله المبارك: إبداعا وتنظيرا وتحفيزا.
وقد سار في ركبهم سيرا حيا وحيويا الشاعر المهندس "وحيد حامد الدهشان"، الذي انصهر بأشعاره في بوتقة الإسلام منذ بداياته الإبداعية الأولى، فصار ذا نكهة مميزة بين جيله ورفاقه، معبرا عن كل محمدة ومنقبة، راصدا حركة المد الإسلامي الزاحف في بقاع متفرقة من العالم، هاتفا لجيل جديد، جعل الإيمان أساس كل غرس ومنهج كل عصر، باثا في أبناء الإسلام أسباب الفخر والحماسة، مشعلا جذوة الجهاد في بنيه على اختلاف أهوائهم، مقدما نفثات غيور وصرخات مهموم مكلوم، ذابت نفسه واكتوت للواقع الإسلامي الأليم، هاجيا الأعداء، كاشفا مخازيهم ومآسيهم، جالدا العملاء، فاضحا رؤاهم في تعابير ساخرة متهكمة.
شاعر إسلامي حتى النخاع، جماهيري التوجه، يكاد يصل شعره إلى كل متلق بسهولة ويسر، شاعر عرف كيفية الوصول إلى الناس في اللحظة المناسبة.
شاعر نزاري مطري في النقد اللاذع، والسخرية المبكية، والصراحة الخطرة، حيث توظيف اللغة الحياتية اليومية، مع اللغة الشعرية الرصينة التقليدية المحافظة.
شاعر له من اسمه نصيب: هو "وحيد" في حدته وشدته وجرأته، وفي رفضه للتلهي بالذاتيات الوجدانية، وفي شعبية إبداعه شعرا وزجلا.
وهو "حامد" لربه وللناس، بشعره، حيث الإسهام في كل ما يستدعى إليه من مناسبات سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو شعبية.
وهو""الدهشان""حيث يكثر من علامات الاستفهام القائم على الاندهاش والإدهاش، تجاه ما يسمعه ويراه،في وطنه وكونه، وحيث يكثر من الإبداع المستفز.
وليست تلك مبالغات لا واقع لها، فقد عاشرت "الدهشان" الشاعر والإنسان منذ منتصف التسعينات، فوجدته رجلا حركيا لا يكسل ولا يخمد، يسير حاملا سيفه/ قلمه، منتقلا من ميدان إلى ميدان ومن ناد إلى ناد، معه كتيبة من الشعراء والنقاد الشباب الذين يتابعهم ويساعدهم بكل ما أوتي من معارف وملكات ثقافية وحياتية،حيث علاقاته المتشعبة ومكتبته الزاخرة، التي بها كثير من الإصدارات التي تدور حول الشعر والشعراء،خصوصا في عصرنا الحديث .
إنه يحيا ضمن ثلة يجمع بينها حب الشعر وإقامة عكاظه بين أبناء العروبة، وإثبات حضوره في ابتلاءات الأمة، معبرا عن أحوال مدائن الفجر الإسلامي في هذا الكون التائه.
شاعر نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا. رزقت الغوص في أنماذج من شعره خلال منتديات الأدب الإسلامي بقاهرتنا العامرة، أنموذجا تلو الآخر، ورأيت مدي تلقي الجمهرة المثقفة واستجابتها لإبداعه استشهادا به ونقدا له، ببيان حسناته وسوءاته؛ ومن هنا كانت أولى الكتابات عنه مقالا لي منشورا في جريدة النور عام 1997م، عرضت فيه ديوانه الأول "في رحاب الدعوة الإسلامية".
وكان هذا المقال إرهاصا لما أقوم به الآن من توثيق لحياة "الدهشان" وآثاره، ولما سأقوم به في المستقبل القريب ـ بمشيئة الله تعالىـ من دراسة نقدية قائمة على منهج تكاملي لشعره، الذي ينبغي للنقد الأدبي الإسلامي أن يحرص على تضويئه وإبرازه، ببيان ماله وما عليه؛ لندلل على قدرة الشعر الإسلامي على الحضور أو الاستحضار الفاعل في الواقع المعاصر.
وقد جاء هذا التوثيق تحت عنوان: "وحيد الدهشان: حياة وآثارا، قراءة توثيقية أولى في مسيرة شاعر إسلامي".
وقد تكون هيكله الأكاديمي من مباحث ثلاثة، هي:
المبحث الأول:"حياة الدهشان: السيرة والمؤثرات"
المبحث الثاني: الآثار الشعرية التقليدية
المبحث الثالث: الآثار الشعرية المتطورة
ثم ذيلت البحث بملحق فيه" أحلى الأشعار الدهشانية"، ليعطي للقارئ رؤية مباشرة عن معالم شاعرية "الدهشان" شكلا ومضمونا.
ثم، بعد هذه المفاتشة الأولية في آثاره، كانت خاتمة مشتملة على بعض الحقائق حول شعره، ومعددة لبعض الرجاءات الفنية الإيجابية والبانية فيما يخص إبداعه المستقبلي.
هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الباحث.
المبحث الأول: "الدهشان": السيرة والمؤثرات
توطئة :
من ثوابت النقد الأدبي الأصيل أن من واجبات الناقد الأدبي في مواجهته للنص الأدبي أن يجتهد في نقل المحيط الذي نما منه وفيه، وأن يتبين التربة التي مهدت لهذا النمو إبداعا وتلقيا(<!--(, خصوصا إذا كان النص لشاعر اجتمعت فيه – وله – جملة من المؤثرات القوية البارزة كالمهندس "وحيد الدهشان"، ذلكم المبدع الذي ينتمى إلى طائفة الشعراء الملتزمين تجاه أنفسهم ومجتمعهم, التزاما صادقا صارما، منطلقا من أن الشعر للفن والحياة معا، بكل ما فيهما من قضايا وأحاسيس، وآلام آمال.
ومن ثم لا يستطيع ناقد الشعر "الدهشانى الولوج إلى ساحته ودخول عتبته والغوص في أعماقه من دون تعرف مفاتيح شخصيته اجتماعيا وثقافيا؛ لأنه شعر مرتبط بآثار النشأة ومعطيات البيئة زمانيا ومكانيا، ومعتمد في كثير من الأنماذج على تجارب الماضى وخبراته، وناهل من المخزون الثقافي المتراكم لدى الشاعر عبر سنى حياته الممتدة والصاخبة.
إ نتاج "الدهشان" الأدبى – الفصيح والزجلى – مزدحم بكثير من الإشارات والومضات والوقائع، التي لا يمكن تحليلها من خلال استنطاق بنية الشعر وحده، بل لا بد من تتبع مسيرة شاعرنا منذ المنشأ حتى لحظتنا هذه، تتبعا مكثفا عميقا، يعتمد على الفقه لا التسجيل.
الحياة :
ففي قرية " منشأة بخاتى " بمركز شبين الكوم في محافظة المنوفية، ولد شاعرنا وحيد حامد "الدهشان"، يوم الثامن والعشرين من شهر يناير، سنة سبع وخمسين وتسعمائة وألف للميلاد.
وقد تلقى تعليمه بمدارس وزارة التربية والتعليم، ثم انتقل إلى التعليم الجامعي بكلية الهندسة والتكنولوجيا في جامعة المنوفية، وتخرج فيها سنة إحدى وثمانين وتسعمائة وألف للميلاد؛ ليسهم – بتخصصه العلمي – في الصناعة، منذ تخرجه حتى عام ألفين للميلاد، حيث أحيل إلى المعاش المبكر بناء على رغبته، وحرصا منه على التفرغ للأدب والثقافة؛ ليقوم بدور أكثر فاعلية في ميدان سلاح الكلمة صحافيا وشعريا وبحثيا.
وهذه النشأة الاجتماعية والعلمية كان لها اثر فاعل في إبداع "الدهشان" فقد دخل إلى عالم الأدب من بوابة الشاعر الكبير / حسن على عثمان(<!-- ), ابن قرية منشأة بخاتى " وأستاذه ورائده وموجهه في دنيا
الشعر.
وقد كان والده أول رمز للمقاومة والثبات على المبدأ تفتحت عليه عيناه وتشرب قلبه جوانب
عظمته ـ رحمه الله تعالى ـ يقول فيه:
حبيب القلب يا من كنت ترعانا |
|
بقلب كان للإخلاص عنوانا |
رفيقا كنت بالحسنى تعاملنا |
|
وتفهمنا وتسدى النصح إيمانا |
حليما حيث كان الحلم ينفعنا |
|
وعند الحق مفهوما فغضبانا
|
قضيت العمر في بذل وتضحية |
|
وخير ذاق منه الناس ألوانا |
فكم أعطيت رغم العسر عن كرم |
|
وكم عاونت ملهوفا وحيرانا
|
نودع فيك أخلاقا ويقتلنا
|
|
حديث الناس حقا كان إنسانا(<!--) |
فهده الخلال المتنوعة روحيا واجتماعيا لها أثر جلى في "الدهشان" يتضح لمن يتأمل مدارات شعره وطنيا وسياسيا وثقافيا.
وليس أبوه وحده بل والدته كذالك لها دور في بناء شخصيته يقول:
قالوا عرفت الحب طفت بخاطرى |
|
وهمست منذ نعومة الأظفار
|
أيام هدهدنى الحنان وضمنى |
|
رفق أضاء القلب بالأنوار |
هذا أبى يحدو خطاى بحكمة
|
|
معدودة من نعمة الأقدار |
وعطاء أمى رغم شدة طبعها |