منهج الإحياء في القراءة الأدبية
سياحة تحليلية في فكر العلامة محمد أبوموسى
إعداد/ صبري فوزي عبدالله أبوحسين
أستاذ ورئيس الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالزقازيق
هذه مطالعة تمهيدية أولى لشخصي الضعيف في آثار شيخنا العلامة محمد محمد حسنين، أبو موسى، أستاذ ورئيس البلاغة والنقد بكلية اللغة العربية الأم، حفظه الله تعالى، وبارك في عمره وفي أثره، حاولت فيها أن أعالج قصورًا في تنشئتي العلمية - وأضرابي وأترابي- وأداوي تفريطًا حدث مني - أو فُرِضَ عليَّ!- في صرفي عن قراءة نتاج ذلكم العلَم الفذِّ!
وقد أنجزت هذه المطالعة في عنوانات ثلاثة، تمثل مراحل أو حالات ثلاث لي -ولكل جيلي من الجامعيين الأزهريين- تتمثل في:
- إلى الشيخ.
- مع الشيخ.
- ما بعد قراءة الشيخ.
فكل عنوان يمثل مقطعًا من سيرتي التعليمية، الأول: مرحلة التعليم الجامعي، التي كانت سلبياتها دافعًا على البحث عن الأفذاذ، والثاني: قراءة في نتاج الشيخ فيما يخص مجال تخصصي: القراءة الأدبية، والثالث: عن كيفية الإفادة من جهود الشيخ في صناعة الباحثين والباحثات. فأقول ومن الله التوفيق والسداد:
أولا: إلى الشيخ:
يشقى أناس ويشقى آخرون بهم ويسعد الله أقوامًا بأقوام!
ما أصدق هذه الثنائية المرة الأليمة! لاسيما على جيلي (أبناء السبعينات وما بعدها) الذي مرَّ عليه حينٌ من الدهر، حِيل بينه وبين العلم الأصيل الفاعل عن قصد أو غير قصد؛ بسبب بعض من الشيوخ والأساتذة، الذين هم نوع من ناقلي المعرفة، الكُسالى، الذين يحاصرون الطالب في معارفهم المدرسية المحدودة، ولا يحاولون إطلاعه على مصادر العلم العتيقة، ولا على الجديد الفريد في التخصص! فصاروا مسيطرين على عقولنا من خلال الوسيلة التعليمية المبتدعة -في التعليم الجامعي المصري!-: المذكرة الجامعية، وما أدراك ما هيه! حيث العشوائية في التأليف، والذاتية القاصرة في الرؤية، والذوق السطحي في التحليل، والقصور في عرض مفردات كل علم وتخصص! أو قل: أصبنا بذاك الجمود من خلال هذه التجزئة لعلوم العربية في صورة مقررات مدرسية جامعية أدت إلى تجزئة العقول وتصنيفها، إن لم أقل القلوب، والأشخاص! وغاب منا ذلكم الصنف الفريد الفذ من العلماء، المتنوع الذاكرة، المستوي الأركان، الجامع لصنوف المعرفة، المؤهل لتلقي كل علم، وابتلينا بسبب ذلك- على حد تعبير مرجعية الشيخ: العلامة محمود شاكر-رحمه الله-: بــ" إعراض ناشئة الأجيال لا عن الشعر الجاهلي وحده، بل عن الشعر العربي كله، بل عن اللغة نفسها، إعراضًا لا مثيل له في تاريخ الأمم(<!--)! فنجأر ندمًا: يا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا!
ولكن كان يقضي على هذه السلبية وتلك المعاناة أننا سمعنا إلى أفذاذ في العلم خلال محاضرات ثقافية نادرة، عُقدت في رحاب كلياتنا، لا زلت أتذكر منها محاضرة للعلامة الدكتور محمد أبي موسى في كلية اللغة العربية بالمنوفية سنة 1992م مع كبار اللغة العربية بالجامعة: محمد رجب البيومي، طه أبوكريشة، فتحي أبوعيسى، عبدالحميد العبيسي، أمين سالم، كاظم الظواهري، بارك الله في آثارهم ونسلهم...
ولما انطلق (الشيخ) في حديثه محاضرًا أسلمت للشيخ الأذن والقلب والعقل، ولا أكون مبالغًا إذا قلت: الجوارح؛ إذ سمعت صوتًا ناصعًا جهوريًّا، وفكرًا حارًّا، وشخصية آسرة مثيرة، تجذبك جذبًا إلى التراث، وتفتح قلبك وعقلك عليه وفيه، وتحييك مع السلف الصالح، وتغرس فيك قيمة العلم، وهمة البحث، وعشق الفصحى، وتحسستُ في كلامها آيات البيان، ورأيت الكلام الحارَّ الطاهر في سَمْته الآنق عند البيانيين الكبار: المنفلوطي، والرافعي، وشكيب أرسلان... وأمثالهم، وتفرست من كلامه طريقة جديدة في قراءة النصوص، من خصائص التراكيب، ودلالاتها، وعجائب التصاوير وسماتها، و كيفية سبر أغوار الشعر واكتشاف دقائقه، وبواعث الإبداع و روابطه، فصرت منذ عهد الطلب الجامعي مبجلاً الشيخ عارفًا قدره، أقف أمام آثاره في كل مكتبة ومعرض للكتب معجبًا مدهوشًا...
ولكن –وما أمر لكن هذه!- لم تسعفني الأيام بالقراءة المتأنية المستوعبة الشاملة في نتاج الشيخ، واقتصرت المطالعة على قراءة جزئية لنصوص متفرقة، أزين بها أبحاثي، وأنوِّع بها مراجعي؛ ولعل ذلك راجع إلى ظروف علمية وتعليمية- وُضع فيها جيلي- تتمثل غالبها في النظرة السطحية لدى بعضنا عن علوم العربية من معجم، وصرف، ونحو، وبلاغة، من أنها علوم نضجت حتى احترقت، وبلغت حد الكمال عند الأسلاف، وأن المحدثين ما هم إلا قارئون إياها ومرددون صداها! ومن ثم كان (الدلائل والأسرار والإيضاح) مصادر كافية وشافية في عقلنا لتوثيق المعلومة البلاغية، ولا حاجة إلى غيرها من كتابات المحدثين، ناهيك عن المعاصرين! وما زالت مقالة السوء في علوم البلاغة دائرة إلى آننا المنكسر هذا! فهذا أستاذ جامعي يخط بحثًا علميًّا محكمًا، وينشره في مجلة عالم الفكر الكويتية بعنوان: (تدريس البلاغة العربية: التاريخ –الحاضر- المستقبل)، يصب فيه جام غضبه على طرق تدريس البلاغة في الجامعات ويصفها بالقديمة التقليدية، ويقدم مقررًا بديلاً لها، تتمثل وحداته العلمية فيما أسماه: البلاغات القديمة: الفرعونية واليونانية والرومانية، وتأتي البلاغة العربية مفردة من مفردات هذا المقرر! مع الإشارة إلى البلاغة الحديثة: عربية وغربية، وتخلو قائمة مراجع البحث من أي كتاب لشيخنا أبي موسى، مع الإشارة إليه على أنه من شراح الدلائل(<!--)!
وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظرِه إذا استوتْ عندَه الأنوارُ والظلَمُ!
وظلت مطالعاتي الشيخ هكذا: قراءة جزئية مبعثرة، أضيف إليها –بعدئذٍ- سماع بعض محاضراته الشفهية من خلال تقنيات التواصل الحديثة: (اليوتيوب والفيس وأخواتهما)، وقراءة بعض ملخصات هذه المحاضرات من قبل طلابه المخلصين، فأزداد قربًا، وعشقًا، وجذبًا....
وظل حالي هكذا مع (الشيخ) إلى أن كانت جلسة علمية عامرة، في رحاب كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات، مع الحبيب الدكتور سعيد جمعة-وهو من طلاب الشيخ وقارئي آثاره، ومتابعي كل فكره منطوقًا ومكتوبًا، فشكوت له من تفريطي -وجيلي- في حق البلاغة وأهلها الأصلاء طيلة رحلة تعليمي، وتطرقت إلى الحديث معه عن رغبتي في أن يكون (منهج الدكتور محمد أبوموسى -حفظه الله تعالى- في القراءة الأدبية) مفردة علمية معتمدة في مقرر علمي، تحت اسم : (النقد الأدبي المعاصر) بكليات اللغة العربية وشعبها المناظرة بالجامعة؛ كطريقة عملية لتقديم القدوات العلمية والبحثية الجادة والفاعلة إلى طلاب أزهرنا الشريف، ولتقريب الأجيال التالية من نتاج الشيخ، وتعريفهم على منهجه وطريقته في القراءة والإقراء، وحماية لهم من ذلك النتاج الاستهلاكي السطحي المعروض أو المفروض عليهم؛ فهش وبش لذلك، وقال: وأساعدك في ذلك بكل ما أوتيت من قوة، وأخبرني بأنه كتب في الشيخ بحثًا بعنوان: (فن صناعة العلماء عند أبي موسى)، وكذلك كتب عدد من طلابه ومحبيه، وعارفي فضله وعلمه، منهم: أستاذنا الدكتور محمود توفيق(<!--)، والدكتور سلامة داوود، وأضفت إليه من قائمة قارئي آثار (الشيخ): الدكتور كمال لاشينٍ، والدكتور مصطفى السواحلي، الأستاذين بقسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية الأم، والدكتور خالد فهمي، والدكتور مصطفى طاحون، الأستاذين بكلية الآداب بجامعة المنوفية، ومن طلابه الخليجيين: الدكتور علي بن محمد الشعابي الحارثي، وأحمد بن صالح السديس، وغيرهما، هذا فضلاً عن كثير من الترجمات الغيرية التي خطها كثير من الباحثين والمثقفين، والتي تذخر بها الشبكة الدولية للمعلومات(<!--).
وأخبرني الدكتور سعيد أن الدكتور إبراهيم الهدهد-رئيس جامعة الأزهر السابق، وأحد طلاب الشيخ النبغاء الجهابذة- يخطط لعمل كتاب تذكاري بمناسبة بلوغ (الشيخ) سن الثمانين، يجمع فيه كل ما قيل عنه، وعن آثاره، من دراسات طلابه وقرائه. واقترح علي الدكتور سعيد أن أكتب في هذه الفكرة تحت عنوان: (منهج الإحياء في فكر الشيخ)، وأخبرني بأن (الشيخ) عنده: إحياء لفظي، وإحياء تركيبي، وإحياء منهج، وإحياء أفكار، وإحياء نصوص، وإحياء عقول، إحياء علوم. وطلب مني أن أكتب في ذلك المنهج، وكانت رغبة أستاذنا الهدهد أيضًا، فيما بعد هذه الجلسة السعيدية..
وكانت هذه بداية غوصي في سيرة (الشيخ) وإدماني قراءة بعض آثاره؛ فوجدته يعرض هذه الحالة الجامعية التعليمية في مقدمات كتبه البناءة، ويصف هذه المأساة التعليمية في غير موضع من آثاره، منها قوله: "الخطر الشائع الآن أن الطلاب يسمعون في دروسهم كلامًا لم يُدرس ولم يُراجع ولم يُدقق ولم يُمحص، وإنما هو كلام يأخذه بعضنا عن بعض، وأن المؤلفين أيضًا هكذا يفعلون، يكتبون كلامًا لم يُدرس ولم يدقق وإنما يأخذ بعضهم عن بعض، فإذا كانت هناك قضايا مغشوشة أو مدسوسة تناقلها قائل عن قائل وكاتب عن كاتب، ولست متجنيًا إذا قلت: إن الكلمة التي تهوي بصاحبها سبعين خريفًا في النار، منها الكلمة التي تقال لطلاب العلم من غير مراجعة، والتي تكتب في الكتاب من غير مراجعة(<!--)".
كما يتحدث (الشيخ)عن خطر القراءة المدرسية السطحية للنصوص، فيقول: "أما درسة الشعر بمعنى معاينة سطح القصيدة بلا تعمق ومس جثمان ألفاظها بلا خبرة، وعزل المخبوء في أنغامها عن ألفاظها ومعانيها فأنا بمنأًى عنه وأنا منه بريء، فاحذر هذا الوجه المألوف أو الذي صار مألوفًا عندنا بإلحاح بعض كبار الأدباء المحدثين عليه؛ فإنه يعتمد كل الاعتماد على ألفاظ مبهمة مرسلة بالمدح أو القدح، وليس هذا بمنهج، ومهما يبلغ المرء فيه من حسن العبارة فإنه لا يخرج عن كونه ضربًا من اللهو اللذيذ المذاق ولكنه مر المغبة(<!--).
كما يقدم(الشيخ) العلاج الناجع لذلك السرطان الفاتك في أوصال تعليمنا الجامعي قائلاً: ""من الواجب أن يرى الجيل الأفذاذ من علمائنا حتى يحدث نفسه بالمراجعة والرجوع عن هذا الباب المهلك، والكتب التي كتبها هؤلاء المساكين الذين غيبت عنهم علومهم، كتب يغني بعضها عن بعض؛ لأنها لم تقم على الاجتهاد والاستنباط، وإنما قامت على السطو، كما كان يقول المرحوم شاكر، وهذا بخلاف الكتب التي عانى من أنتجوها وراجعوا ونظروا وتدبروا وقاسوا واستنبطوا، فهذه كتب لا يسد اختلالَها غيرُها، وهكذا كل ما كتبه "شاكر" ومن على طريقه(<!--)".
فهذه القراءة الإحيائية الأصيلة الجادة المستقلة المتأهبة الطويلة عند العلامة محمود شاكر-رحمه الله- ومدرسته، من أمثال شيخنا أبي موسى، هي الحل وهي الخلاص من هذا التيه القرائي والنقدي الغربي الحداثي الغازي! وبها يتكون الجيل المرجو: جيل راسخ ثابت يضيف إلى أسلافه، وينتج ما يقتضيه عصره، ولا يكون عالة على غيره، ولا وسيلة نقل صماء عرجاء شوهاء بتراء!
فما هذه القراءة؟ وما معالمها؟ وما إجراءاتها؟ وما ثمارها؟
لا ريب في أن سيرة (الشيخ) ونتاجه يقدمان لنا الإجابات الشافية المرجوة، إن شاء الله تعالى، فإليه بقلب صاف، وعقل واعٍ، ونفس متأهبة: <!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]-->
(<!--) نمط صعب ونمط مخيف ص329، مطبعة المدني بالقاهرة، سنة 1994م.
(<!--) عالم الفكر، عدد 176، أكتوبر-ديسمبر سنة 2018م، ص7-50، للدكتور عماد عبداللطيف!
(<!--) في مقدمة تعليقه على كتاب البديع للشيخ، حيث بين وجه عدول الشيخ عن صناعة كتاب في علم البديع على نحو ما صنع في علمي المعاني والبيان، وقدم رؤيته في كيفية قراءة الشيخ. راجع: علم البديع عند الشيخ محمد محمد أبوموسى، كتبه وعلق حواشيه الدكتور محمود توفيق محمد سعد، ص3-25، طبع مكتبة وهبة سنة 2019م...
(<!--) من أبرزها ترجمة الأستاذ مصطفى شعبان الباحث بالمجمع اللغوي، التي بعنوان: من أعلام اللغة المعاصرين:الأستاذ الدكتور محمد محمد أبوموسى، والمنشورة في مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية، على الرابط:http://www.m-a-arabia.com/vb/showthread.php..
(<!--) قراءة في الأدب القديم ص(ح)، مطبعة وهبة سنة 2012م..