سعد مصلوح: العالم المطوِّر

 

إلى السعد:

لم أكن من هؤلاء المفتونين بقاطرة الحداثة الغربية وما تفرضه علينا من صيحات وموضات كل حين؛ وذلك بسبب نشأتي الريفية الأزهرية المحافظة، حيث التلقي عن شيوخ أجلاء محافظين، عشاق التراث، المغروسين فيه ليلَ نهارَ، الغارسين فيه مريديهم!

وزاد صرفي عن هذه الإفرازت الغازية تلك الأطروحات الهائمة الغائمة، التي ما إن طالعها ذو عقل إلا قال: لكم لغتكم ولي لغتي، ولكم قبلتكم ولي قبلتي! وظللت كذلك إلى أن صدمت صدمات ثقافية عدة اضطرتني إلى مطالعة في الحداثة الأدبية والنقدية تنويرًا للذات، وبناءً لجيل كُلِّفت به في مساقات ذات صلة بها، هي: تاريخ الأدب الحديث، الأدب المقارن، الأدب العربي المعاصر، وختمت بتاجها ودرتها: النقد الأدبي الحديث لطلاب الفرقة الثانية من تخصص الأدب والنقد بكلية الدراسات العليا بجامعة الأزهر، وكانت مفردتا: الأسلوبية، وتجربة الدكتور سعد مصلوح في الأسلوبية الإحصائية، بداية المطالعة الأولى في تيارات الحداثة، وبداية التعرف على علم من أعلام الحداثة مغاير لهؤلاء الهائمين الغائمين الذين صرفوني عنها، الذي أصدروا كتابات حداثية أشبه بالتراجم المبعثرة، وأخرجوا ترجمات أشبه بالتآليف المعجمة!

فتسلحت لهذه المهمة التعليمية التثقيفية، فعشت طويلاً مع الأسلوبية من خلال مصادر دراستها المعتمدة عند عبدالسلام المسدي، وصلاح فضل، ومحمد عبدالمطلب، وشفيع السيد، وكُتاب مجلة فصول، ولم يجذبني منهم إلا الدكتور سعد مصلوح لوضوحه، ودقته، وجمعه بين التنظير والتطبيق، ولا ينافسه في ذلك إلا الدكتور محمد عبدالمطلب -حفظهما الله وبارك في عمرهما وأثرهما ونسلهما- فإذا بي أدخل رحاب (السعد)، وأعيش مع سيرته الذاتية ورحلته التعلمية والتعليمية، وإذا بي أطالع بعض تآليفه، وبعض منشوراته الفيسية، ومتابعة جهوده وأخباره، ومقولات الإعجاب من قبل قرنائه وطلابه الأساتذة النجباء في عالم الفضاء الأزرق، وفي مدونته الإلكترونية، وإذا بي أفوز منه بالسهم الربيح والقِدْحِ المعلَّى، بارك الله أيامك وأعوامك !

حيث أجدني أمام بحر زخار من العلوم والمعارف، وقطب أصيل من شوامخ المثقفين العرب الأصلاء، يجمع بوسطية بين تراثية الشيخ محمود شاكر وتنوير الشيخ رفاعة الطهاطاوي، وليس في ذلك أية مبالغة أو غلو، بل هي الحقيقة الماثلة في قلبي وعقلي تجاه الرجل، وليس بيني وبينه صلة شخصية، ولم أره أو أسمع صوته مباشرة إلى الآن! فوجدتني أخط الآتي:   

أول النشأة:التأسيس العربي

مصري صعيدي، ترقى في سلم العلم بطريقة ذاتية فذة، تعد أنموذجًا يحتذى، إنه سعد عبدالعزيز مصلوح، الذي ولد في 1/3/1943م، بقرية)منسفيس( في محافظة المنيا، وتلقى فيها تعليمه الأولي الأساس على يد والده البارع في اللغة العربية خطًّا ونحوًا وعروضًا وتذوقًا للشعر، يقول:" لا أكاد أعرف تاريخًا لابتداء علاقتي بعروض الخليل. حفظت كثيرًا من الأشعار في طفولتي حفظًا جيدًا مصححًا على الوالد، رضي الله عنه، فاستقام لي الإحساس بالنغم الشعري أداءً وسماعًا في بواكير العمر. وجدتني في ليالي شهر رمضان أسهر مع الرفاق في انتظار " المسحراتي " ؛ تلك الشخصية الرمضانية الساحرة . كنّا نسير وراءه من شارع إلى شارع، نلتذ قرعه للطبل... كان من عادة " المسحراتي " في العشر الأواخر أن يعدل عن استيقاظ الناس واستدعاء أسمائهم إلى توديع الشهر بأبيات حفظها على ما اتفق له، فيأتي بها كسيرة مقطوعة النسب بصحيح الوزن. وعلى حين ينصرف الرفاق إلى الهياط والمياط كان همي واشتغالي بتصحيح المنطوق واعتدال الميزان. سمعته يقول ذات سحور :

نَبْكِيكَ يَا شَهْرَ الصّيامِ بِدَمْعِ تَجْرِي         فَتَحْكِي في الخُدُودِ سُيُولَا

فاعترضته وصوبت له من غير سابق حفظ بما يستقيم به العروض. قلت له: (بأدْمُعٍ تجري). فغضب ونهر وزجر وجرى من خلفي مهددًا متوعدًا. وفي الصباح قصصت على الوالد ما كان فأقرّني وأعلمني أن الرجل ليس خبيرًا مثلي بسلامة الوزن، فسعدت كثيرًا بما تَاحَ لي من موهبة كُشِفَ لي بها ما لم يعرفه رفاقي وما غاب عن علم الرجل. 
ولعلي قصصت في سابق ما كان من إشكال بيني وبين أستاذي في حقبة الدراسة الثانوية من حديث الخلاف على بيت ابن خفاجة الأندلسي وما أعقب ذلك من تورطي في هجائه ، بيد أن للأمر جذورا تمتد إلى المرحلة الإعدادية ؛ إذ كان يدرس لنا فيها الأستاذ " عبد الغني " وهو من جهابذة اللغة العربية الذين يفزع إليهم عند الخلاف في مسائل النحو ، غير أن في علمه بالعروض لِينًا لا حيلة له فيه .أقامني وأنا في الصف الثالث وكانت سني اثنتي عشرة سنة - لأقرأ رائعة المتنبي:

صحب النّاسُ قبلنا ذَا الزمانا          وعناهم من شأنه ما عنانا
كان الأستاذ يصغي معجبًا بسلامة المنطق وجودة الإلقاء حتى كان البيت الباذخ :
ولو ان الحياةَ تبقى لِحَيٍّ             لعددنا أضلنا الشجعانا
وقرأته صحيحا بتسهيل همزة (ان ) لا عن معرفة بالقاعدة ولكن استسلامًا لسلامة النغم، فاستوقفني مراجِعًا وحملني على قراءتها بالقطع فأبيت وأصررت، وحين ضاق بي ذرعًا طردني من قاعة الدرس، فخرجت تشيعني ضحكات الرفاق. ذهبت غضبان مغيظًا إلى حجرة الأساتذة قاصدًا المدرس الأول (وكان يقرض الشعر)، ثم سألته في خبث الصغار من غير أن أعلمه بالخبر: كيف نقرأ هذا البيت؟ فقرأه كما قرأته. فما كان مني إلا العودة في زهو المنتصر إلى الفصل، ثم إني طرقت الباب، وأدخلت رأسي بين مصراعيه بحيث يراني ويسمعني الأستاذ والزملاء وقلت: " أنا راجعت الأستاذ عبد اللطيف، وهو يقول لكم : هي ( ولو انّ ) من غير همزة. ثم أغلقت الباب، ووليت منهم فرارًا. أما ما كان بعد ذلك فلا تسل عن قوارص اللوم والتأنيب من الوالد والمدرس الأول، وعما تبوأت من مكان ومكانة بين الذين شيعوني بضحكات الهزء بالأمس القريب".ولم يكن الوالد العربي القح فقط بل كان المتسلح بغير لغة، الضليع فيها، يقول السعد:"من آثار سيدي الوالد:الشيخ عبد العزيز مصلوح، قصائد من عيون الشعر الغربي ترجمها شعرًا، عن الإنجليزية والفرنسية
رحمات الله عليه !أي رجل كان!!! وقد نشرها السعد كتابًا بعنوان: فرائد القصائد من ديوان الشعر الغربي، ترجمها إلى العربية شعرًا عبدالعزيز مصلوح، وجمعها وقدم لها السعد، فما أجمل الوالد، وما أوفى المولود! إنها جينات شعر طاهرة، وسلالة علم ساحرة. وقد وصف ناقد هذه التجربة الإبداعية قائلاً: إنها متعةٌ لا تنقضي، ومقدرةٌ تستحق التحية، وعملٌ يتجاوز الإعجاب : نظم الفكرة الإنسانية وعرضها في مشهد شعريٍّ قديم أصيلٍ، واضحٍ فيه الوعيُ الباهرُ بالعربية ونمطها الصعب الجليل.

ثم تابع (السعد) تعليمه في المتاح من المدارس في بيئته الأولى (المنيا)... إلى أن ذهب(السعد) إلى قاهرة المعز، فعاش أجواء جامعة القاهرة من خلال (دار العلوم) روضة الأصالة المنفتحة، فحصل منها على ليسانس في اللغة العربية والدراسات الإسلامية سنة1963م، بتقدير جيد جدًّا مع مرتبة الشرف الثانية. وكانت هذه أولى النشأة، فأثبت ذاته وكان أولها. ومن هذه المرحلة تأسس السعد تراثيًّا وعربيًّا، وعرف مفاتيح الثقافة الوافدة... ثم سارت به الحياة الجامعية دورتها الأكاديمية السامية المعهودة، فعمل معيدًا بكلية دار العلوم سنة 1964م، في تخصص علم اللغة (اللسانيات، أو أصول اللغة) فأهل  للحصول على درجة الماجستير من الكلية نفسها سنة 1968م، عن موضوع: (دراسة صوتية في لهجات المنيا (مصر) في ضوء الجغرافيا اللغوية) بتقدير ممتاز. ثم عين مدرسًا مساعدًا في التخصص نفسه سنة 1968م..

ثاني النشأة: الاستنارة الغربية

 وإثر حصوله على رتبة مدرس مساعد ابتعث إلى الخارج للحصول على درجة الدكتوراه باللغة الروسية من معهد بلدان آسيا وأفريقيا ، في جامعة موسكو سنة 1975م، في تخصص(الصوتيات المختبرية) عن موضوع: (الأسس الأكوستيكية للقافية في الشعر العربي)، ومن هنا تعمق في ثقافات الغرب ومناهج تفكيره...

 ثم انتقل إلى مرحلة العطاء البحثي الذاتي، والفعالية التعليمية الرسمية؛ فعُيِّن مدرسًا سنة 1975م،  ثم رقي إلى درجة أستاذ مساعد سنة 1980م. ثم رقي إلى درجة أستاذ سنة 1991م. وقد عمل أثناء رحلته في غير جامعة عربية، منها عمله أستاذًا مشاركًا في كلية الآداب – جامعة الملك عبد العزيز المملكة العربية السعودية، 1978 – 1982م، ثم انتقل خبيرًا أول  في معهد الخرطوم الدولي للغة العربية (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الكسو) 1983- 1987م، ثم عين في درجة أستاذ بكلية الآداب – جامعة القاهرة 1991 –1993م، ثم عمل أستاذًا مشاركًا في كلية التربية الأساسية – الكويت 1987 – 1996م. وهو –حاليًا- أستاذ بكلية الآداب في جامعة الكويت، تركته مصر وما تركها، يأتيها كل حين ممارسًا رسالته من خلال مركزه العلمي التعليمي يقبل على طلابه منورًا ومفيدًا ومضيفًا وبانيًا إياهم، مهما كان عددهم، فشاره التدريس للواحد كالتدريس للألف، إنما الأستاذ بطلابه، وبدونهم لا قيمة له. رزقه الله طول العمر وحسن الفعل وسديد القول، وجميل الأثر.

وكَمْ أبقَى الزمانُ على قديم       وأخْلَدَهُ لِكَيْ يَلِدَ الجَدِيدَا

المصدر: كلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات من محاضرة بعنوان: تجربة العلامة سعد مصلوح في الأسلوبية الإحصائية
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 307 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

337,337