المركز الثامن مكرر محمد زوبيعة ... الجزائر عن قصته حفلة الشموع
حفلة الشموع
خرج مبكرا على غير عادته ، اهتدى إلى ساحة المدينة حيث موعده مع أسراب الحمام بذات المكان ، جلس على كرسي يفرك بقايا الخبز براحته المتجعدة بعد أن بدأ الحمام يدنو منه .. كان في غاية السعادة و هو يطعم تلك الطيور ، ألهمه المنظرو ظل مبتسما كلما تذكر أن اليوم ميعاد وصول إبنه الوحيد المهاجر الذي لم يلتقيه منذ سنوات .
بدت وحدته تتلاشى قبل الأوان و أفلت أخيرا لانغلاق دائرة الحزن حوله ، فهو الذي مزقته الوحدة و تلاعبت به الظروف.. فأطبق الخناق عليه منذ رحيل شريكة دربه واختفاء ابنه الوحيد عن الأنظار، فصار كمن يترقب بين الفينة و الأخرى غيبوبة لا يصحو بعدها إلى الأبد .
عاد لبيته و قد طال انتظاره ، إلا أنها لم تفارقه ابتسامته . مع حلول المساء تناول جريدة ووضع نظاراته ، سافر بين أعمدتها مقلبا الصفحات بوقع ثقيل ولما أحس بحرقة في عينيه لملم أوراقها واضعا إياها على ركبتيه وراح يهز رأسه و يتمتم ..
وفي لحظة ما ، وقعت نظرته على تاريخ ذلك اليوم، قرب الجريدة إلى عينيه وتأكد مما أبصره.. راح يبتسم كمن قرأ نكتة ..
إنه تاريخ ميلاده ، أمعن النظر جيدا محدثا سريرته :
آه ، كم اشتقت إليك أيها الميلاد، ولكني لا أدر من ابتعد عن الآخر ! أنا أم أنت ؟
قرر العجوزعلى الفور أن يفاجئ ابنه و يقيم حفلة عيد الميلاد ، حضر نفسه واقتنى بعض الحوائج لذات الغرض و ما يخص الإستقبال .
جلس أمام الباب محدقا للطريق عله يظهر أخيرا فلذة كبده بعد الغياب الطويل ، إلى أن بدأ اليأس يتسلل إلى أعماقه حين أسدل الظلام و لم يظهر أحد .
عاد إلى الداخل و اختلى بنفسه وسط غرفته مثقلا بالخيبة و الإنكسار..لكنه قرر استكمال ما بدأ، فأطلق العنان لنشوته وأعطى إشارة انطلاق الأفراح ..
نظر من حوله .. فراودته أشياء جم ..
عندما كان صبيا لم تسعفه أنفاسه الفتية لحظة الحسم من إطفاء شمعاته القليلة ،وفعل ذلك بعد جهد جهيد بمباركة من أهله ،و اليوم لما شاخ و كبر قرر أن يحي الذكرى و لو على سبيل الذكرى ، فقد حضي عمره بوابل من السنين وصار شيخا مثقلا بارقام و تواريخ فاقت السبعين ..
أمسك حزمة الشموع و أخذ يثبت الواحدة تلوى الأخرى و أعاد تثبيت الكثير منها بعدما مالت و تهاوت على بعضها البعض
وحين انتهى و ألقى نظرة ..أرعبه المشهد !! بالكاد كان للمنظر وجود للحلوى كل شمعة كانت تقف كالشبح محدقة للأخرى ،فكانت نفسه متحملة رهاب الجميع مرر يده المرتعشة جاعلا عود الثقاب مقبلا رؤوسهن الواحدة تلوى الأخرى مثلما كان الدور أول مرة
استهلك العديد من أعواد الثقاب ، وحين خلص من ذلك لاحظ أن أولى شمعاته قد غلبها النعاس و انطفأت قبل تقسيم الحلوى
وأخرى قد التهمت نفسها وتقيأت ما التهمته وشوهت دموعها ديكور الحفلة
حاول استجماع أنفاسه و نفخ نفخة قصوى ..فتراقصت شعلات الشموع مستهزئة بأنفاسه ضاربة عرض الحائط ذيل ترتيب أحلامه ..و آخر تطلعاته
حاول مرارا و تكرارا ..لكن لم يجده الإصرار ،توقف لبرهة وهو يلهث ويترقب عصيانها العنيد ..أما الشموع فبقيت موقدة تضيء تجاعيد وجهه الحزين
عدل عن فكرته و أرخى جسده المنهك على كرسي خشبي يترنح به في خبايا ناموس غريب ، وهو لا يزال يتابع باهتمام عرس الشموع ..
استلطف افراح ضيوفه وراقص الماضي بأهدابه على ألحان النعاس بذوق لذيذ
و اقتنع أن سنينه رحلت مع امواج الأيام اتباعا .. فهو في الأخير لن يحفظ من تاريخه و حضارته المنسية إلا ما لفظت به إليه شواطىءذكراياته الممتدة في عمق النسيان ،قد سلب الجزر منه أثمن كنوز نفسه ، غصبا عن نفسه ..ولكن المد كان كريما معه واسترد له بعض الامانات ملفوفة بالمحبة و الحنين
وحين انطفأت آخر شمعة و اختتمت الحفلة على وقع الهدوء ..كان الشيخ يغط في نوم عميق .. فلم يتذوق من الحلوى ..وما كان ليتذوقها رفقته أحد