المركز السادس مكرر عبدالسلام هلال ... مصر عن قصته خطوات ثقيلة
خطوات ثقيلة
تنتابني مشاعر متباينة حينما يقول لي أبي سنذهب لشراء أجولة وأكياس الخيش للقطن والأرز لبداية موسم شراء المحصولين .. أبي تاجر حبوب (على قد حال) بسيط ولكنه كريم جدا معنا .. دائما ما تتسم هذه الرحلات من البلد للزقازيق التي تصادف عيد الأضحي ودخول المدارس بكثير من المتعة لنا جميعا .. تأخذنا سيارة أجرة شارك أبي ثلاثة في ثمنها .. ونظل نلف محلات الملابس والأحذية حتى نشتري كسوة العيد أو كسوة الشتاء ودخول المدارس .. متعة لم أعد أحسها منذ آخر مرة ذهبت فيها مع أبي .. ثلاثون عاما أو أكثر مرت على هذه الرحلة .. تداعت كشرط سينمائي أمامي ولكني لم أستمتع بها الآن كما كان يحدث من قبل .
تذكرت كل ذلك وأنا في الطريق للزقازيق لقضاء بعض مصالحي التي اضررت لها لضيق وقت الإجازة .. جاءت جلستنا بالقهوة انتظارا لدورنا بالطابور بجوار الوكالة القديمة .. ظللت أبحث عن المعالم القديمة للشارع والوكالة وبعض المحلات القديمة .. أخذتني خطواتي للسؤال عن الوكالة وصاحبها وابنه .. دلني أحد العجائز بالشارع على حارة جانبية بها وكالة لبيع الأجولة والأكياس البلاستيك .
حارة طويلة جانبية بآخرها منزل قديم متداع يشغل بهوه مخزن كبير مليء بالأكياس من كل الأصناف والألوان. .
سألت العامل العجوز عن صاحب الوكالة ، أشار بيده لمن يقبع في ركن غرفة المكتب بأثاث قديم تأكدت تماما أنني رأيته من قبل .
خطوات الزمن ثقيلة جدا وتترك آثارها على البشر والحجر .. ويبدو أنني لم أنتبه لوقع خطواته علي أنا شخصيا .. تجاهلت كل شيء حتى بعدما ثقلت حقيبة الأدوية واحتلت مكانا ضخما في الذاكرة حيث النسيان طم كل شيء .. تراني لابد أن أعيش القادم كما هو فقط بحلوه ومره وانسى الماضي .. أو أنني لابد أن أتذكر الماضي لعل به ذكرى جيدة تأخذني قليلا من هموم الحاضر والمستقبل .
أحسست بمشاعر شتى حينما رأيته .. في البداية لم أصدق ما أرى .. فركت عيني مرتين ومسحت نظارتي السميكة كي أتحقق مما أرى .. كان هو فعلا ولكنه لم يكن كما رسمت صورته بخيالي .. ضللتني ذكرياتي عنه و لعنت خطوات الزمن و كرهت كل السنوات السابقة التي أوصلتنا جميعا لهذه الحالة .
توقف مشهد واحد أمام عيني وبقيت أنا متسمرا أمام الكهل المتكور على تلك الأريكة الخشبية الخشنة .. يضع عليها مجموعة من الأجولة الخيش ويتخذ من يديه مخدة ويغط في نوم عميق ..
طفل صغير بملامح رجل سبعيني حفر الزمن على وجهه كل الآثار التي يتركها حينما يمر علينا .
ولكني رأيته في المشهد المتصلب في عقلي ذلك الشاب الثلاثيني الذي يمتلئ حيوية ونشاط .. يدير وكالة الخيش ويجلس أبيوه الحاج فتحي ينظر له معجبا وهو يأمر هذا العامل ويحاسب هذا الزبون و يرد على هاتف المحل بكل زهو وفخر .
أجلس أنا الطفل ذو العشرة أعوام بجوار أبي وأنظر إليه وكأنني أتمنى تلك السطوة لتكون لي وهذه التجارة لأبي .
ها هو الحاج فتحي يبتسم لما رآني مركز مع سمير يناديني أن أعطيه قبلة لينفحني ورقة بخمسة قروش ويربت على كتفي متمنيا أن أصبح مهندسا مثل سمير ويقول أبي رافعا يده للسماء .. يسمع منك ربنا يا حاج .
تنتهي زيارتنا للحاج فتحي ، نأخذ الخيش بالسيارة ونغادر ولا تفارق صورة الشاب المفتول العضلات صاحب الأمر والنهي ووريث الحاج فتحي وخليله والأمين على تجارته وأملاكه ذهني .
ويتوقف المشهد عند ذلك وأنا مذهول أفكر في كل ذلك وترتسم كل علامات الاستغراب وعدم التصديق على وجهي .
أفقت من تصفح شريط ذكرياتي على الواقع الذي صدمني .. وقفت صامتا وتحجرت بعيني دمعة وصرت أتحسس وجهي .. تدور برأسي آلاف الأسئلة عن النهاية وتمنيت أن أسافر عبر الزمن لأرى شكلي وكيف سيكون .
أشار لي الرجل بالجلوس بجواره .. لم أستطع أن أقول كل ما كنت أريد قوله .. كنت سأخبره أن أبي كان يحبه ويحب أباه وأنني تأثرت به بعض الوقت وكنت أقلد مشيته وطريقة تصفيف شعره .. وأنني أتيت اليوم لأقول له إني ولد بار بأبيه وأتيت فقط لأبر بأصحاب وأحباب أبي .
دعاني الرجل لكوب شاى وحكى لي ما حدث من مرض ، ووحدة وانتكاس حال تجارته ، وكيف تحولت وكالة أبيه لدكاكين تبيع المحمول واللب والتسالي. .
لم أقوَ على السمع واستاذنت في الانصراف ..أحسست أن خطاي أصبحت أبطأ مما كانت عليه وأنني لم أعد أستطيع حمل جسمي كما تعودت .. وسرت لا ألوي على شئ ولم أنظر خلفي