نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات

بين العدس والبصل بقلم علي الشافعي

اثنان ـــ يا رعاكم الله ــ بيني وبينهما عشق وجودي : طبق العدس والخضرة , اما العدس ــ خاصة المجروش رغم ثقله على المعدة , ولو خيرت بينه وبين اشهى المأكولات من ارقى المطاعم لاخترت العدس , قولوا عني ما شئتم على راي طيبة الذكر قول عني ما تقول : فقْريّ , عديم ذوق , لا يقدّر النعم .
اما الخضرة فاعشقها , اعشق الزراعة والري والعزق ( التعشيب) وجني المحصول , واترنم واتمايل طربا على نغمات الحراثين والحصادين , ويغصني ان ارى قطعة ارض بورا . واهوى التجول بين الحقول الخضراء منذ الطفولة خاصة في الربيع , فلا أظن انني تركت جبلا او واديا او سهلا في بلدتنا والبلدات المجاورة لم تطأه قدماي . 
سالت امي ــ رحمها الله ــ يوما عن سر هذا العشق قالت : لا ادري يا ولدي , ربما لأنك فُطِمتَ على العدس , فهو اكثر ما كان متواجدا من مؤونة البيت في تلك الايام , وذلك ببركات وكالة الغوث , التي كانت تحرص على توزيعه ضمن حصة كل فرد من ابناء اللاجئين كل شهر , فكنت اصنع لك كل يوم طبقا تتناوله في الصباح فيكتم على نفسك حتى المساء , على موعد عودة الغنم فنحلبها , فأزودك بكوب من حليبها فتنام حتى الصباح , اما الخضرة فمنذ ان درجتَ صرت تلحق والدك الى المزارع تساعده , وتجلب لنا ما يحتاجه البيت من خضار . قلت سامحك الله يا امّ , اما دريت ان من فطم على العدس ونشا بين المزارع ستكون حياته بين العدس والبصل . 
في يوم من ايام الخريف اللاسعة , اشتهيت طبقا من العدس , تعلوه طبقة من زيت الزيتون حديث العصر , بجواره حبة ليمون و فحلُ بصل بحجم قبضة اليد , وصحن من الزيتون حديث التخليل , وقد كان , فجاءني على الغداء , فالتهمته بحذافيره مع فحل البصل . واذكر انني شربت كوبا من الماء ثم مددت قدميّ واستندت الى الجدار واستلقيت . وما هي الا لحظات حتى سمعت قرع جرس الباب الخارجي , فتحت الباب واذا بي ارى سيارتَيْ همر فارهتين , باب السيارة الاولى مفتوح , واذا برجل طويل القامة , ضخم الهامة ,عريض المنكبين بهي الطلعة , حليق الراس لامع الصلعة ينحني قائلا : اتفضل معاليك فدولته في انتظارك , والمجلس منعقد . فغرْت فمي مستهجنا : معاليك ؟ انا؟ قال : نعم معاليك انت . قلت : لعلك تائه يا اخي ؟ قال : لا معاليك , كيف اتوه , انا في مهمة رسمية تفضل معاليك , قلت مستعربا : وهل دولته يعرفني ؟ قال : نعم , يعرفك اكثر مما تعرف نفسك , اتفضل معاليك ما في وقت لدينا , الطاقم الوزاري مجتمع ينتظر قدوم معاليك , قلت : سأبدل ثيابي اذن . قال : لا داعي معاليك , في المجلس بدلات حكومية مفصلة على مقاس الوزراء . ركبت السيارة غير مصدق لما يجري , وانطلقت تمخر عباب الطريق . 
دخلت المجلس فوجدت المقاعد ممتلئة الا واحدا بجوار دولته . قفال لي : اتفضل اجلس هنا بجانبي , ثم تابع : معاليك اجرينا تعديلا وزاريا , وقد عهدت اليك بحقيبة الزراعة , فانا اعرف انك تحب الزراعة , ولك باع طويل فيها . قلت في نفسي : الله اكبر هذا الرجل ملهم , مكشوف عنه الحجاب ويعرف كل شيء عن افراد شعبه , وقد اعطى القوس باريها واسند الامر الى اهله , قلت له : هذا شرف لي ان اخدم وطني , لكن لي شرط ؛ ان تكون القرارات التي اصدرها محصنة وواجبة التنفيذ عند الكل ؟ قال نعم , وعلى كل افراد الشعب , الغني قبل الفقير, والكبير والصغير, والطويل والقصير , والوزير والغفير , وابن الراعي وابن الامير , وانا قبل غيري , فقط اريد همتك , فانا اريد ان تكتفي البلاد ذاتيا من الحبوب والخضار والفواكه مع نهاية الخطة الخمسية , وان تزداد الرقعة الزراعية الى الضعف , قلت : سترى دولتك ما يسرك بإذن الله لكن على شرطنا . 
ركبت السيارة الفارهة وانتقلت الى مبنى الوزارة , وفور وصولي طلبت ورقة وقلما وعطوفة الامين العام , وامليت القرارات الاتية وطلبت منه النشر والتنفيذ الفوري:
1- نقل وزارة الزراعة الى اعلى قمة جبل يشرف على الغور والشفا .
2- سحب جميع المقاعد الفارهة من الوزارة وبيعها لصالح تمويل قروض المزارعين , فهي وزارة ميدانية وليست مكتبية .
3- يهدم كل منزل اقيم على ارض زراعية , ويكلف صاحبه بإزالة الانقاض واعادة التربة زراعية كما كانت , وتعود ملكيتها للحكومة ويعوض عنها بقطعة ارض في مناطق سكنية غير صالحة للزراعة .
قال الامين: معاليك هذا سيؤثر على سكان غرب العاصمة , قلت : سينتقلون الى شرقها , لا فرق فكله وطن , المهم انقاذ الاراضي الزراعية .
4- المياه كلها ملك للدولة , لا ملكية فردية للآبار وتوزع على المزارع والمنازل بالتساوي , وبسعر التكلفة الحقيقية للمتر المكعب .
5- كل من يملك مسبحا يشتري الماء من الدولة بسعر 20دينارا للمتر الواحد , تخصص هذه الاموال لبناء محطة لتحلية مياه البحر , لسد عجز المياه في بلادنا .
6- يجبر كل بيت على حفر بئر لجمع مياه الامطار من على اسطح منازلهم .
7- تقام السدود في كل مكان يصلح لتخزين مياه الامطار , على ان لا تهدر قطرة ماء واحدة . 
8- من استصلح ارضا مواتا , فأقام عليها مزرعة , فهي له مهما كان حجمها .
9- كل من يملك قطعة ارض زراعية ولا يزرعها , تعاد ملكيتها للدولة وتعطي لمن يستثمرها . ويعوض صاحبها بقطعة ارض سكنية , او تجارية او صناعية غير صالحة للزراعة .
10- تعفى جميع مدخلات الزراعة من الجمارك بما فيها الآلات والتقاوي والاسمدة والمبيدات , ويعفى عمال المزارع من رسوم تصاريح العمل التي الهبت ظهر العمال وانعكس اثرها على الانتاج .
11- يعفى المزارعون من الديون المستحقة عليهم بسبب القروض التي اخذوها لتجهيز مزارعهم . 
12- الغاء سلسلة الوسطاء بين المزارع والمستهلك , ويسمح للمزارع البيع للمستهلك مباشرة دون الوسطاء الذين يربحون على حساب المزارع والمستهلك .
قال الامين بعد ان كتب البنود هل معاليك واثق من قدرة الوزارة على تنفيذها ؟ قلت : بالتأكيد , معي ضوء اخضر من دولته . قال : اخشى ان وقعت الواقعة ان لا تجد دولته . قلت لا عليك نفّذ ودع الباقي عليّ . 
في اليوم التالي قلت سأشرف بنفسي على ازالة اول منزل اقيم على ارض زراعية غرب العاصمة . فاصطحبت الجرافات وانطلقت , ما ان بدأت الجرافات بالعمل حتى ظهر رجل بدين عابس الوجه مقطب الجبين , خلفه ــ يا دام سعدكم ــ اربعة ثيران ما رأيت مثل حجمهن في الاولين , لكل ثور قرنان اسودان مدببان , يخترق القرن منهما اصلب الواح الفولاذ في ضربة واحدة . قال لسائق الجرافة بغضب شديد : ماذا تفعل , ويحك ؟ قال السائق : تنفيذ قرار معالي الوزير . قال الرجل : معالي مين يا روح امك ؟ معالي مين ؟ روح قل له (ط.. ) لم ادعه يكمل فانقضضت عليه وامسكت بتلابيبه , واذكر انني شددتها وقلت : مش عاجبك يا... فما رأيت الا والثيران الاربعة قد احاطت بي إحاطة السوار بالمعصم تغرس قرونها في جسمي , فصرخت صرخة مدوية . واذا بأم العيال تربت على كتفي وتقول : بسم الله الرحمن الرحيم , اسم الله عليك اسم الله عليك ‘ يا ابن الحلال الله يسامحك دائما اقول لك : تغطي كويس قبل ان تسهو عينك , العدس ثقيل والجو بارد. طبتم وطابت اوقاتكم .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 44 مشاهدة
نشرت فى 17 سبتمبر 2018 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

188,058