نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات

هناك من المواقف ، التي قد تبدو صغيرة ، وتافهة ، إلا أنها تحدث فارقاً هائلاً في الحياة . وهناك من الكلمات ما يقيم الدنيا و يقعدها ، ويشعل حروباً ويطفئها . من هذه الكلمات ذلك التصريح الذي ألقي به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء حملته الإنتخابية حول نقل السفارة الأمريكية إلي القدس . وقد أخذ هذا التصريح ـ علي خطورته علي منطقة الشرق الأوسط ـ في سياق لا يتلائم ـ ولا يتناسب ـ مع خطورته ، باعتبار أن مصدره لا يمثل رقماً في السباق الرئاسي ، وأن تصريحاته مجرد فرقعات إعلامية زاعقة ، قد تثير السخرية والضحك ، أكثر من إثارتها للإنتباه والفكر . والواقع أن لا أحد حول العالم أعطي الرجل قيمته وأهميته . ومن هنا لم تتخذ تصريحاته علي محمل الجد . والواقع أنه باستقراء التاريخ ، سنجد أن هناك تصريحاً لبالمرستون ، وزير الخارجية البريطاني ، عقب توقيع اتفاقية لندن سنة 1840 م ، والتي بمقتضاها تم تقليم أظافر الجيش المصري ، الذي وصل إلي حدود الأستانة ، تخوم عاصمة دولة الخلافة ، حيث قال : " ستكون فلسطين اليهودية سداً في وجه أي محاولات شريرة لإنشاء دولة عربية تضم مصر والشام " . إذن ففلسطين اليهودية قد تم التفكير فيها علي نحو مبكر، والهدف منها ليس إقامة دولة تعيش في سلام مع جيرانها ، وإنما بقصد بناء حائط صد يحول دون إلتقاء غرب العالم العربي ـ مصر ـ بشرقه ـ بلاد الشام . وقد وصف أي محاولة للإلتقاء بالشريرة ، وأنها تهدد مصالحهم . وهذا التصريح ـ بالنسبة لنا في العالم العربي ـ كان مجرد كلمات ألقيت علي قارعة الطريق ، قد طوتها صفحات النسيان . وبعد 77 سنة تفاجأنا باللورد آرثر جيمس بلفور يلقي بتصريح مماثل ، علي نفس القارعة ، في 2 نوفمبر سنة 1917م مؤداه : " أن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلي تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين " . وإذا بهذه الكلمات ترسم حدود ، وكيان دولة له وجود فعلي علي الأرض العربية ، كيان يعربد في المنطقة ، ويناوش أهلها . وقد كان قرار التقسيم الأممي ـ في أربعينيات القرن الماضي ـ قد قسم من ضمن ما قسم ، القدس شطرين ، القسم الغربي يتبع الدولة العبرية ، والقسم الشرقي يتبع الدولة الفلسطينية ، بحسب قرار التقسيم . ثم جاءت حرب حزيران / يونيه سنة 1967م ، التي اجتاحت فيها القوات الإسرائيلية الأراضي العربية ، فقضمت سيناء من مصر ، وقضمت الجولان من سوريا ، وأخذت في طريقها الضفة الغربية لنهر الأردن ، ومدينة القدس . وقد جاء قرار مجلس الأمن رقم 242 في أعقاب الحرب ، وقد ورد في المادة الأولي ، الفقرة ( أ ) : " انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلت في النزاع الأخير ". وقد حذفت " أل " التعريفية من النص الإنجليزي ، بقصد لف النص بحجب كثيفة من الغموض تخلق حالة من الجدل عند تفسيره . بالإضافة إلي ذلك ، نص القرار علي إنهاء حالة الحرب ، وقد انطوي اعتراف ضمني بدولة إسرائيل ، وذلك دون ربط هذا الإعتراف بحل القضية الفلسطينية . ويمثل هذا القرار صلب كل المفاوضات التي تسعي إلي إيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي . وهنا يبرز تساؤل محوري مؤداه : فماذا يعني قرار نقل السفارة ؟ . الإجابة ببساطة يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية ـ لو فعلت ـ ستكون قد فتحت باباً موصدا من 1980م . ففي عام 1980م قامت اسرائيل باتخاذ قرار بضم القدس ، الأمر الذي ترتب عليه قيام الدول التي كان لها قنصليات وسفارات في القدس ، بنقل سفاراتها وقنصلياتها إلي تل أبيب ، حتي تلك الدول التي تعترف بتبعية القدس الغربية لدولة اسرائيل . وبذا يصبح وضع القدس الشرقية معلقاً حتي الآن ، ووجودها يمثل مدخلاً مقبولاً لحل الدولتين . أما نقل السفارة الأمريكية إلي القدس فيعني ببساطة إعتراف أمريكا بالقدس الموحدة ، وسيتوالي نقل الدول لسفاراتها وقنصلياتها تبعاً لذلك ، بما يسهم في مخطط تهويد القدس ، ويقضي بذلك علي حلم حل القضية الفلسطينية علي أساس الدولتين . بالرغم من مخالفة هذا القرار الأمريكي لقرارات الأمم المتحدة ، ومجلس الأمن ، والقوانين والأعراف الدولية . وهذا من شأنه القضاء المبرم علي القضية الفلسطينية ، وينزع الشرعية عن أي طرف فلسطيني يسعي للسلام ، وتسود الشرق الأوسط حالة من الإضطراب المسلح التي تقض مضجعه ، وتقضي علي مشاريع تنميته لسنوات أخري قادمة . وقد يقول قائل : ولماذا النزاع المسلح ؟ . وأقول ببساطة لأن الأمر متعلق برمزية دينية تربتط بالعقيدة : فإسرائيل ومعها مسيحيي العالم ـ البروتستانت ـ يعتقدون أن القيامة لن تقوم إلا بقيام دولة إسرائيل ، وأن القدس بها هيكل سليمان في زعمهم . إلي جانب مزاعم وأساطير أخري يعتقدونها . وبالنسبة للفلسطينين فلسطين أرضهم . والقدس في عقيدتهم ـ ومعهم مسلمي العالم ـ منتهي مسري نبيهم ـ النبي محمد صلي الله عليه وسلم ـ ومبتدأ معراجه إلي السماء ، وموضع صلاته بأنبياء الله ، وهي أولي القبلتين ، وثالث الحرمين الشريفين . ومن هنا كان الإستمساك بها استمساكاً برمزيتها الدينية . وبعد مائة سنة يأتي ترامب ليمنح اليهود وعداً جديداً . ونعود ثانية إلي مقولة : " أعطي من لا يملك لمن لا يستحق " لنقف عندها دون تجاوزها إلي مرحلة الفعل والحركة . هل ينطوي الأمر علي مبالغة ؟ . أنا لا أظن ذلك . والله من وراء القصد 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 19 مشاهدة
نشرت فى 24 يناير 2017 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

191,811