جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
إن للشباب سطوته ، وقوته ، ورونقه . وهو العمود الذي يشد عصب الدولة ، ويجعل منها دولة شابة فتية . وهو الخلطة السحرية لتحقيق مجتمع الكفاية والرفاه ، وهو الوقود الذي يقوم عليه الإقتصاد والتقدم ، وهو العنصر البشري الحي الفاعل في المجتمع ، والقاطرة التي تشده إلي الأمام . وسقوط الشباب من المعادلة المجتمعية هو سقوط للمجتمع ؛ لأنه الكائن الحي المفكر المدبر الفاعل ، في كافة عناصر الإنتاج المتاحة ، لأي مجتمع حي ، مخزون هائل من الطاقة المتفجرة . وإذا أردت أن تضرب مجتمعاً ، في مقتله ، فعليك بشبابه . والأمر في مصر ليس في حاجة إلي تأمل ، أو طول نظر ، لاكتشاف الأزمة الناشبة بين الشباب والسلطة . ويبقي السؤال حول ما إذا كانت هذه الأزمة مرتبطة بطبيعة المرحلة الشبابية بما يكتنفها من تمرد علي السلطة ـ سواء الأبوية ، مروراً بأي سلطة أخري ، وصولاً إلي هرم السلطة في الدولة ـ أو ما إذا كانت مرتبطة بروافد تغذية أخري ، تدعم هذا التمرد وتقويه ، وتعمل علي تنميته واستمراره ، وربطه باتجاهات عكسية ، تشيع قدر هائل من الطاقة السلبية المعطلة والمعوقة في المجتمع . والراصد لأحوال الشباب المصري يجد أن هناك ثلاث حالات ، الحالة الأولي : وهي حالة التمرد علي السلطة في سن المراهقة من مرحلة الشباب . وهذه الحالة عادة ما تكون محدودة المساحة ، من حيث المكان والزمن ، محدودة الأثر ، سهلة المعالجة ، ممكنة الإحتواء . الحالة الثانية : وهي حالة التمرد الناجمة عن الأوضاع العامة في البلاد ، من حيث التعليم ، والصحة ، وتوافر الوظائف ، وكفاية الدخل ، وفرص الترقي ، ووجود المسكن ، وفرص الزواج ، وانفتاح الأفق السياسي . وهناك علاقة عكسية بين حالة الأوضاع العامة ، ودرجة التمرد لدي الشباب . فكلما تحسنت الأوضاع العامة ، كلما قلت درجة التمرد ، وكلما تدهورت الأوضاع العامة ، كلما زادت درجة التمرد . وتحسن الأوضاع العامة أو ترديها ، لا يرتبط علي نحو مباشر، بالسلطة القائمة وحدها ، حتي ينصب عليها السخط والغضب وحدها ، وإنما يرتبط بشكل أو بآخر بحالة المجتمع ككل ، وما السلطة القائمة إلا أحد إفرازات هذا المجتمع ، وهي نتيجة لما عليه حال المجتمع . ودور السلطة ـ التي هي نتاج المجتمع ـ هو إدارة هذا المجتمع بأفضل طرق الإدارة المتاحة ، والممكنة ، للإرتقاء به في سلم الأفضليات ، درجة درجة ، حتي يصل إلي درجة الرضا العام المتعارف عليه . وهي حالة تمرد مرتهنة بتحسن الأوضاع العامة في البلاد فعلاً وقولاً . إذ يتعين ـ فعلاً ـ علي السلطة العامة في البلاد أن تحسن من أداءها وكفاءتها علي نحو ملموس يشعر به المواطنون ـ بما في ذلك الشباب ـ في تحسن مستوي الدخل الفردي الذي يتقاضاه المواطن ، وتحسن في آداء الخدمة التي يتلقاها . وقولاً بأن يجري الإعلام بكل ما تقوم به السلطة العامة في سبيل هذا التحسين من أعمال وإنجازات عن طريق وسائل الإعلام . حينئذ تتولد الثقة بين المواطن والسلطة ، بتطابق الأفعال والأقوال ، الذي يصنع بالضرورة المصداقية المطلوبة . والواقع أننا لدينا في مصر قصور شديد في هذه النواحي ، بما يشكل أبلغ الأثر في حالة عدم الرضا العام ، وحالة السخط ـ وأحياناً التمرد ـ لدي قطاعات عريضة من الشباب . ولعل فيما تسلكه الدولة ، من عدم الإعلان عن المنجزات المتحققة ، إلا عندما يكون لها ظل علي الأرض ، هو أمر محمود ، في سبيل تحقيق المصداقية ، التي تخلق درجة من درجات الثقة المطلوبة . الحالة الثالثة : وهي حالة أدلجة التمرد ، وعدم الثقة ، والتشكيك ، وإشاعة السخط العام . وهذه الحالة هي أخطر الحالات الثلاث ، وأشدها فتكاً بتآلف المجتمع ، وتجانسه ، وتماسكه . حيث تقوم هذه الحالة علي بناء أيديولوجي حال في الشخصية الإنسانية ، وجدانياً ، وإدراكياً ، وسلوكياً . وتتبني ذلك جماعات متطرفة هدامة ، تستهدف تقويض المجتمع ، وإشاعة الفوضي في ربوعه ، حتي تتمكن من استلاب السلطة بعد الإنقضاض عليها ، وتوظيف المجتمع لخدمة أغراضها . وغالباً ما تكون هذه الجماعات جماعات منغلقة ، ذات نظام حاد وصارم ، بحيث لا ينسرب إليها ، ولا يتجند في صفوفها ، سوي من يؤمن بأفكارها ، دون غيرها من الفِكَرِ ، الموجودة في المجتمع . وتعتمد هذه الجماعات مع عناصر المجتمع الأخري ـ ممن لا يرجي تجنيدهم ـ المنهج السوفسطائي في المناقشة ، وتدوال الأفكار . والسوفسطائية مدرسة فلسفية يونانية قديمة ، كانت تعتمد الجدل غير المنهجي في المناقشة ، بحيث تقنعك بالشيء ونقيضه في آن معاً ، فلا تبقي قيمة ثابتة ، أو مبدأ دائم ، يصح الإحتكام له أو القياس عليه ، في تحديد الصواب والخطأ ، أوالصحيح والعليل ، من الأفكار والمواقف . وقد صح ذلك لدينا في جماعة الإخوان المسلمون . فهي جماعة تزعم أنها جماعة دعوية في مجتمع مسلم . وأنا لا أستطيع فهم قيام جماعة تدعو إلي الإسلام في مجتمع مسلم ، إلا إذا كانت قد أخفت من باب التقية ، رأيها الباطن في المجتمع ، والذي أعلن عنه علي استحياء في كتاب الدعوة والداعية لحسن البنا ، ويُفهم بمفهوم المخالفة . ثم صرح به سيد قطب في كتاباته ، وجعله محمد قطب ـ شقيق سيد قطب ـ عنواناً لأحد مؤلفاته وهو " جاهلية القرن العشرين " . هذه الجماعة تبنت منهج الطعن والتشكيك في كل أحد ، وفي كل فكرة ، وفي كل قيمة ، بخلاف ما تنطق به الجماعة وتتبناه . فطعنت في السلطة القائمة في كل وقت ، وطعنت في علماء الأزهر، غير المنتمين للجماعة ، باعتبارهم علماء للسلطة ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، خدمة لها ، فالكل لدي أعضائها باطل وقبض الريح ، إلا من ينتمي إليها . مع أن هذه الجماعة لم تقدم فكراً معتبراً من الناحية الشرعية ، ولم تضم من بين أعضائها عالم في الدين من خريجي المعاهد والكليات الأزهرية ، إلا من استطاعوا تجنيده صغيراً ، وشب أزهرياً ، ولكن في إطار قالبهم الفكري المنغلق ، باستثناء الشيخ الغزالي الذي فصلوه ، ويوسف القرضاوي ، الذي انحرف بفتاويه في نهاية عمره . وللاسف أنهم قد استغلوا حالة الإضطراب والفوضي في التعليم العام ، وكذا التعليم الأزهري ، للصيد في الماء العكر . تلك الجماعة قد اعتمدت المنهج السوفسطائي منهجاً للتعامل مع الأغيار. وقد أثرت ـ نتيجة غياب الأزهر عن النهوض بدوره في تخريج العلماء ـ في قطاعات عريضة من الشباب ، الذين يسعون إلي اختلاق أزمات مع السلطة . هذا الشباب المؤدلج في الغالب يصعب معالجته ، لأنه لا يؤمن بشيء أو بأمر أو بقيمة إلا إذا كانت آتية من الجماعة . والعلاج الناجع لمحاصرتهم ، وانحسارهم ، يتمثل في تصحيح الأوضاع العامة في مجملها ، وتصحيح التعليم العام والأزهري بحيث يكفل محو الأمية الدينية المتفشية لدي آحاد الناس ، وأفراد المجتمع ، ويقلص المساحة التي تلعب فيها الأفكار المتطرفة ذاتياً ، بعيداً عن انغماس مؤسسات الدولة في محاربتها ، بما في ذلك مؤسسة الأزهر، التي يجب النأي بها عن سفاسف الأمور ، والتفرغ للقضايا الكبري للمسلمين