لستُ أدري من أنا
أبهرتني تلك المخلوقة. تأثرت بها إلى حد جعلهم يقولون عني نسخة كربون منها. و دون شعور امتزجت هويتي بهويتها، نفذت إلى داخلي بقوة، استطاعت أن تُذيب هويتي؛ بل جعلتها تتلاشى. لم أعد كما كنت منذ عرفتها ؛ تغيرت أشياءً كثيرة بي.
سعيت للتعرف عليها؛ ربما لأنها كانت محط أنظار الجميع، الكل معجب بها، الجميع يسعي للتعرف عليها.
ربما كان مظهرها الآخاذ يجذب الأنظار نحوها، شخصيتها تأسر الجميع، أسلوبها يسحر العقول، جمالها لا يُوصف.
لكني لستُ أدري ما الذي جعلني اتبعها كظلها؟ ويكأني أعد حركاتها وسكناتها.
ومضت الأيام وتعرفت عليها ؛ عرفتُ بالصدفة أنها جارتي، في البداية عرضت عليها أن أكون مجرد رفيقة طريق.
شيئا فشيئا تسربت داخل حياتها. وبالفعل أصبحنا صديقتان، أضحينا لا نفترق أبدا.
اقتحمتُ حياتها؛ عرفت عنها كل صغيرة وكبيرة، فتحت لي قلبها، أصبحت تفاصيل حياتها اليومية كتابا مفتوحا أمامي.
كانت بالنسبة لي مثلا أعلى في كل شئ، تشبهت بها لأقصى درجة ممكنة؛ في نمط الملابس، في تسريحة الشعر، في طريقة الكلام و التصرفات، حتى أصبحت أأكل ما تحب. لا أكف التحدث عنها لأسرتي .
دون شعور أصبحت محور حياتي. أصبحت أسيرة لها، لغيت شخصيتي كليا، و توحدت في شخصيتها.
حقيقة لم تكن تبخل علىّ بشئ؛ بيتها كأنه بيتي، مقتنياتها مقتنياتي. أضحت همومنا واحدة، هي الوحيدة التي تسمعني،هي مخزن أسراري.
ومضى عاما كاملا، كل يوم تتوطد علاقتي بها أكثر. حتى أدعيت أمام الجميع أنها قريبتي؛ ابنة خالتي. أصبحنا كما كانوا يقولون عنا وجهين لعملة واحدة.
إلى أن طرق الحب باب قلبها؛ كنت شاهدة على قصة حبها منذ اللحظة الأولى.
كان حبيبها يقف أمامنا بالساعات صامتا، نظراته كانت موجة إلى واحدة منا؛ كنا أربعة صديقات.
بدأ يجذب أنظارنا ، كل واحدة منا كانت تعتقد أنه ينظر إليها، في البداية لم نُبالِ بذلك. ومر على هذا الوضع بضعة شهور، وبعدها بدأنا نتنافس عليه.
كان ينتابني إحساس إنها تفهم لغة عيونه، بالرغم من إنها هي الوحيدة التي لم تقترب منه.
كانت بالنسبة لنا خارج حلقة المنافسة، إلى أن داهمها المرض ورقدت ثلاثة أيام. غيابها المتواصل أقلقه؛ جعله كالطفل الذي فقد أمه.
بدت علامات الحيرة تظهر على وجهه، أخذ يمضي ويجئ أمامنا عشرات المرات كأن شيئا ينقصه، يقترب منا كلما ذكرنا اسمها، ينظر في ساعته كل خمس دقائق.
ربما شعرت ـ بالرغم من أنني لم اتعرف عليه بعد- بأنه فيه الكثير منها، بالرغم من اختلاف الشبه بينهما.
وفي اليوم الرابع ذهبنا معها إلى الكلية، ووجدناه خارجا من الباب والضجر يكسو وجهه، و عندما رأها ابتسم، ووقف أمامنا،وتلعثم في الكلام.
فنظرت إليه بوجهها الشاحب من الإعياء ، فقال: الحمد لله على سلامتكِ وانطلاق مسرعا.
لاحظت أنها تنجذب نحوه ، وكأن بريقا يشع من عيونهم، قوى عليا تتحكم فيهم. وقتها تأكدت إنه يحبها هي.
وفي اليوم التالي قرر أن يتعرف عليها، و منذ الساعات الأولى من الصباح حتى غروب الشمس وقفا معا يتجاذبا أطراف الحديث، وكأنها تعرفه من زمانٍ بعيد.
و كلما اقتربت منهما لم يشعرا بي وكأن على رؤوسهم الطير.
بدأ صراعا ينشب بداخلي؛ تُرى أهي الغيرة، أم حب تملك الأشياء؟
أصبح وقتها كله ملكه؛ إما واقفة معه، وإما تتحدث معي عنه. أيقنت أنه سيأخذها مني، كلما احتجتُ إليها وجدتهما معا، شعرت بفراغ رهيب ؛ وحدة تكاد تقتلني.
صرتُ اتطفل عليهما؛ اقتحم خصوصية مشاعرهما، اُجبرها أن تحكي لي.
لكن كل هذا لم يكن يرضيني.
بدأت أكره هذا الشخص، وسعيت بشتى السبل إلى تدمير اللحظات التي يقضيها معها؛ اتظاهر بالمرض فتعتذر له ، تحمل حقيبتي وكتبي في يدها وتذهب معي إلى منزلي، و لا تتركني حتى تطمئن على صحتي.
لكنها كانت شديدة الذكاء، تأكدت أني افتعل المرض، بدأت تدعوني لأقف معهما. لكنه كان يتضايق من ذلك.
بدأت أُعكر صفو لحظاتهم الجميلة؛ افتعل أي شجار معه، حتى خيرها بيني وبينه. لكنها لم تتخل عني، حاولت أن ترضي كلانا؛ صديقتها و حبيبها.
ربما أعتقدت أنني هي؛ بدأت اتقمص شخصيتها. لكنه لم يرني.
وشاءت الأقدار أن يتودد صديقه "أيمن" إلىّ ؛ فقبلت فقط لأعيش الحب مثل "حنان" و" محمود".
لم انجح في الاحتفاظ" بأيمن"، كدت أفقد عقلي عندما واجهني بحقيقتي؛ ربما لأني اتصرف بطريقتها، اقتبس عباراتها، اُريده أن يكون نسخة طبق الأصل من محمود.
غضب بشدة وقال لي: "إن كنتِ تتقمصين شخصية حنان، فأنا لن أكون شخصا آخر، لكِ أن تتقبلينني كما أنا. ولتنزعي هذا القناع الذي لا يليق عليكِ. مهما حاولتِ التشبه بحنان فالأرواح لا تتناسخ ولا تتشابه كالبصمات.
ربما تظاهرت بحبي لأيمن، الحقيقة لم يكن يحركني تجاهه سوى أن أُشعر الجميع بأنني مرغوبة من شخص.
كنت أعتقد أن الأشخاص مثل الدمى التي كنت ألعب بها فيما مضى؛ كلما رأيت دمية مختلفة عن دميتي طلبت من أبي أن يشتريها لي.
خيل إلىّ إنه ملكي ، استطع أن اشكله مثلما اُريد، لكنه رفض أن يكون مثلما أُريد، وقال لي: " لن أكون مثل أحد، أنا كما أنا، وسأظل كما أنا. من يحبني فليحبني لشخصي. أرفض أن اتحرك في صورة شخص آخر"
تذكرت أيام المدرسة؛ في كل سنة كنت اختار قرينة اتشبه بها؛ اتصرف مثلها. ربما لخواء شخصيتي، أو لأنهم يفضلون أختي علىّ، يحبونها أكثر مني، ينتقضون تصرفاتي. أصبحت لدي رغبة في التفوق عليها، ولا سبيل لتحقيق تلك الرغبة إلا التوحد في شخص آخر .
بعدما واجهني" ايمن" أيقنت أن الصورة ليست كالأصل، لكني قررت أن تنتصر الصورة على الأصل!!
قررت أن أفسد علاقة "حنان" و"محمود" بكل السبل...
استطعت النفاذ إلى عقلها؛ تغلغلت داخلها ونجحت في الإمساك بلجامها، فتحكمت في مصيرها. ونفس الشئ فعلته مع محمود؛ نجحت في الإمساك بلجامه وجهته كيفما أُريد.
تخاصما، وطال الخصام بينهما. كل يوم كنت أوسع الفجوة بينهما. ضربت على وتر الكرامة. وأشعلت النيران بينهما.
كنت أقول له: "إن كان عندكَ كرامة فلا تُصالحها؛ فهى التي أساءت إليكَ"
حتى تحول الخلاف لصراع وتنافر، كلاهما يأمل أن يأت الآخر ويركع تحت قدميه ليكفر عن العذاب الذي سببه له،وكلما اقتربا كنت افرقهما.
كان آخر سهم في يدي؛ السهم المميت الذي قضى على العلاقة نهائيا. عندما قلت لها أنه ارتبط بأخرى. وطلبت منه أن يأت ليُصالحها.
وعندما جاء، قلت لها أنه أتى ليغيظكِ، قولي له: إنكِ مرتبطة بغيره.
لكنها فرت من أمامه مسرعة، تركتها ودموعها تنهمرو قلبها ينزف دما، وقلتُ له: إنها لا تستحق حبكَ؛ إنها مرتبطة بآخر.
قلتُ في نفسي لتذق ما ذقته، ليتحطم أنف تلك الشامخة، لتهتز ثقتها بنفسها، لتنزوي عن البشر، لينطفئ بريقها الذي يحجبهم عني.
كنت أمشي في أذيالها، أعيش في عباءتها ولا أحد يراني. لكني
اليوم أُعلن عن مولدي، اسدل الستار على هذه المخلوقة، أطوي صفحتها إلى الأبد.
أعلم أنه أصبح كل شئ بالنسبة لها، وحياتها بدونه لا تساوي شيئا . لكني أحبه ، ويجب أن يحبني أنا.
للأسف مضت الأيام، واستطاعت أن تُلملم أشلاء كرامتها المجروحة، وتُضمد جراح قلبها. محاولة أن تستعيد مجدها.
لكني وقفت لها بالمرصاد؛ عثرة في طريقها . سأدمرها بالكامل، إما أن تسكن القبور أو تسكن حجرة في مصحة نفسية. المهم أن تختفي لأظهر أنا. فالحياة لا تتسع لنا معا.
استطعتُ أن أخدعها ، ظلت تعتقد أنني صديقتها المخلصة. أما هو فقد حاول الإفلات مني وخطب غيري، لكنه لم يتسطع أن يتفاعل معها.
حاول الانتحار بعدما اختلقت له قصة زواج "حنان" الواهية، وقلتُ له : إنها تزوجت من محامي مشهور ولبست النقاب؛ لأنها لا تريد أن تراها حتى ولو صدفة، واعطيته عنوان ابنة خالتي التي تشبهها في الهيئة. وظل يذهب كل يوم ويقف تحت بيتها بالساعات معتقدا أنها حنان، حتى فقد الأمل.
لم يكن أمامه غيري، يأتى إلىّ ليسترجع معي ذكرياته ويحكي لي عنها، جعلته يؤمن بفكرة تناسخ الأرواح، وإنني مثلها تماما في كل شئ.
وبالفعل بدأ يتعامل معي على أنني هي، ظننتُ أني نجحت، لكني لم أكن بالنسبة له أكثر من مُسكن يخدر آلام جراحه.
استغليت حالته، قُدته من لجامه حتى أصبح مسلوب الإرادة، جعلته يخطبني. فرحت بانتصاري.
فكرت أن أذهب لأغيظها وأقول لها أنه فضلني عليكِ، لكن عواقب الأمور جعلتني اتراجع. فربما استطاعت أن تذهب إليه، وقتها سوف يكتشف أنني كاذبة.
لكن للأسف اقترابه مني جعله يكتشف حقيقتي؛ يكتشف أنني لستُ هى.
أحسستُ أنني في حاجة لها. و بدأت أتسلل إلى حياتها من جديد. فقد بدأ تأثيرها علىّ يتلاشى، رجعت اقتحم عزلتها وتعبدها ، لاقتبس قسطا من بريقها الذي كان يأسره .
وجدتها إنسانة أخرى. الصدمة جعلتها تتوحد. لم تجد ملاذا سوى التعبد. أصبحت أكثر حكمة وشفافية، وجهها يشع منه النور، قلبها يشعر بكل شئ. عندما جلست أمامها قالت لي بثبات: أشم رائحته؛ تتحدثين بطريقته.
بعدها لم تسمح لي باختراق حياتها. وكأنها علمت أني جئت لاستمد قبسا من روحها، أسلبها شيئا تمتلكه.
كلما ذهبت إليها صدتني، وكلما تحدثت عنه غيرت الموضوع. ذات يوم كدت اتوسل إليها أن تحدثني عنه؛ عن كيفية الولوج إلى قلبه،عما يحب. لكنها واجهتني جعلتني أهرب.استطاعت كلماتها أن تُحرك ضميري. في هذا اليوم لم اُسامح نفسي. علمت أنني مخطئة.
قررتُ أن أبحث عن شخصيتي الحقيقية لعله يحبني أنا ، لكني لم أجدها، تاهت هويتي.
الهوة تتسع بيننا، لكني لم أرفع الراية البيضاء، لم استسلم للفشل. وظللت أقاوم.
حتى حددنا موعد عقد القران، لكنه لم يأت!!!
اتصلت به؛ فقال: ينبغي ألاّ نخدع أنفسنا؛ فما ذلتُ أحب حنان، وأنتِ لستِ هي. سأيعيش على ذكرياتي معها ما بقى من حياتي.
قررت أن أبدأ حياتي من جديد، لكني لم استطع أن اتجرد من شخصيتها كلية، وتعرفت على زميلا لي وارتبطت به...
مرة أخرى بدأت أدخل إلى حياتها، توسلت إليها أن تصفح عني، ضميري يؤنبني، احتاج إليها وأنا على مشارف تجربة جديدة.
لكن للأسف وجدت نفسي متأثرة بشخصيتها الجديدة. خفتُ على خطيبي منها. ربما انجرف هو الآخر وراء الأصل وترك الصورة. قررتُ أن أبتعد عنها.
ومرت الأيام وتزوجتُ وأنجبتُ طفلا . لكن رغم كل هذا أرغب في مصالحة نفسي فلا أجدها. أرغب في مصالحتها فلا تصفح عني.
بدأ الجميع يشعرون باضطراب وارتباك وتناقض في تصرفاتي، بدأت انسج حكايات من وحي خيالي وأصدقها، أنشر أكاذيب بين البشر وأنكرها.
تلاحق الأحداث جعلني أنسى ما أقول، فقدت السيطرة على كل شئ،أصبحت كسفينة بلا ربان في مهب الريح، تتمايل، تُشرف على الغرق.
أخذني زوجي إلى طبيب نفسي، وبدأت جلسات العلاج ، وبدأ يسجل كلامي على أشرطة. استطاع أن يكشف مكنونات قلبي، تحرك ضميري، كرهت نفسي، حاولت الانتحار. هي الوحيدة القادرة على انتشالي من هذه الأزمة.
نعم، طلب مني زوج "شرين" أن أذهب إلى الطبيب الذي يعالجها؛ لاستكمال علاجها، فذهبت لمساعدتها. وعندما أطلعني الطبيب على الأشرطة التي سجلها لها، و سمعتها وهي تتحدث عني وعما فعلته بي بدأت اتذكر ما حدث، وبدأت الحقائق تكشفت أمامي.
تذكرت عذابي خلال الأعوام الخمسة الماضية، كان في مقدورها أن تُخفف عذابي، تُضمد جراحي، لكنها لم تُشفق علىّ. لذا لم استطع أن أمد لها يد المساعدة.
كم استمتعت بانكسارها أمامي؛ ظلت مكسورة الفؤاد، محطمة النفس. حتى مرضت، شرفت من حافة القبر . لكن قلبي لم يرق لها، لم اشفق عليها.و أقول لها: "إن كان عندكِ كرامة لا تصالحيه؛ فهو الذي أساء إليكِ"وقتها حولتُ الدفة نحوي؛ بدأتُ اتقرب إليه، لم أجد طريقا سوى أن أحدثه عنها حتى اقتنع إنها مثل أختها تماما؛ في خصامهما كنت أنا حمامة السلام بينهما،
في غيابها كان يحدثني عنها وعن حبه لها وعن أمانيه المتعلقة بها.
آيات شعبان
ساحة النقاش