هدى الحاجي وأبنوس الغياب

بقلم: نزار سرطاوي

 

طار أبنوس الغياب. طار أبنوس هدى الحاجي من تونس الخضراء. ارتفع في الفضاء، امتطى صهوة الغيوم، وانطلق من المغرب إلى المشرق ليحط أخيراً بين يديّ. أكاد لا أصدق! أهو هو، سِفر العشق ذاك الذي طال انتظاري له ولهفي عليه؟ أهو هو، ذاك الذي رقص قلبي على وقع بعضٍ من نغماته وترانيمه؟

 

نعم هو! أبنوس الغياب... بلحمه ودمه! لم تتغير موسيقاه ولا صورته ولا لونه. لم تتبدل نكهته ولا عبقه ولا ملمسه. الأبنوس الذي حاورتني زُمَرٌ من حروفه ونادمتني وخاتلتني وارتسمت في عيوني وسكنت قلبي قبل أن تندس بين دفتيّ كتاب.

 

هي ذي الموسيقى ما زال صداها يتردد في سمعي:

 

أنا العاشقة التي تسوّرت
أسوار عينيك المضاءة بالنجوم

خبّأت صبوتي في حمأة الرمل

وقلت للصحراء ارحلي

في دمي أغنيات

أنا العاشقة

علمت همسي لغة القمر

وتسللت في خيوط الضوء

إيقاعا يراقص كعب المفردات

وأعرت نجمة صبح وصيتي

كي تينع الوردات في حمرة

كرز شفاه العاشقات

 

وأصخي السمع فها هي النغمات في "نيازك المحال" تتحول إلى "وشوشات.../ تهمس كهمس الكمنجات." 

 

هي ذي صورته أيضاً كما علقت في ذهني في صورة ولّادة العربية الأندلسية بنت الخليفة المستكفي يوم قرأْتُ "حين غمست ولادة قدميها في لازورد نافورة الحمراء" ثم راحت عيناي الذاهلتان تتجولان هناك:
<!--

في باحة بقصر الحمراء
يقف حمام متيم على راحتي
ينقر الحب وذاكرتي
يقرئني من ولادة السلام
يلفني ابن زيدون في ملاءة أضحى التنائي
بديلا من تدانينا
يراقصني الفلامنكو
في ضوء قناديل تهمس العتمة
تنثر إشراقاتها العربية
أحتسى أقداحا
من لوعة نونيته المرجانية
تطلع ولادة من إيقاع كعبي
تشعل الأرض
بهدير الميجانا
<!--

وألتهم الكلمات التهاماً، وطيف تلك الشاعرة العابثة بنت المستكفي ماثلٌ أمامي كما لو كنت النابغة الذبياني وكانت هي المتجردة زوج النعمان بن المنذر.

 

ثم على حين غرة تتسارع نبضات قلبي، بينما تتسمّر عيناي وأنا أراني وكأنما أنظر إلى نفسي في مرآة. فما أنا بالنعمان ولا بن زيدون: 

 

أرى في جمان قرصه 
فلاحا كنعانيا
يغرس في الطين
أقدامه و الشجر
ترعى حملانه الذهبية
في مروج لا تؤاخيها الذئاب
أه..يا وردة الدم المتفتح
جرحا نازفا في الغياب
إلى متى أعبر بيد وجع
يترامى في الخيام
إلى متى أقيم في غمد حزن
نصله سيف لا ينام
<!--

اغرورقت عيناي بالدمع كما اغرورقتا من قبل، يوم قرأت هذه القصيدة لأول مرة قبل أن يحتضنها الأبنوس. نعم هذا أنا. فلاح كنعاني مشرد يقيم في غمد الحزن. لك الله يا هدى! أما علمتِ أنك كنت ترشقين بأوجاعي على أوراقك. يومها ذهبت أنا أيضاً إلى أوراقي لأكتب "قمرية الخضراء." وكانت هدى الحاجي هي تلك القمرية:

 

أيتها الساحرة

يا سيدة مروج السنابل الذهبية

وحقول الزيتون الداكن

على سـفوح اطلـس

كيف تدهشين بِطانة الـسـماء اللازوردية

بألق الأرض

حين يتحول عشبها المترهل

تحت لهب الشمس

بين أناملك الصغيرة

الى جدائلَ

من أقواسِ قزح

وقلائدَ من زمرد وياقوت وجمان.

 

 

وهي القمرية ذاتها التي أشعل "العابرون في أكفان وردة الحرية" قلبها، فراحت تغني لغزة: "غزة اسكنيني/ في مآقى العزة/ دمعة/ لشراع يحترق/ وابعثيتي/ رصاصة/ أو شظية/ لعين القتلة،" ثم تصرخ: "ليس دمي من ينكر شريان سلالته."  

 

وأعود إلى الأبنوس. اللون الوضّاء يداعب ناظريّ في "دنتيلا حوريات الأحلام": "من شاهد بريق بلورات دهشتي/ تختنق باللون الملتمع بجنون الكستناء." ومرة أخرى: "توسّد همساتي الصاخبة/ وشاح الظلمة الفضّي/ لأحداق تشرق بانهمارات الرؤى."

 

والنكهة تدغدغ لعابي في شجن التوت بينما أراقب "عربدات كيوبيد في تخوم اللوتس":
<!--

سألقن الروح التي تهواك
أن تخض لجة الأشواق الكيوبيدية
كي أحتسي من ركوة إحتدامها
شجن التوت المعلق في تخوم الارتشاف
لعله يشد زنابق لغتي النشوى 
لتيجان فتنتك المرصعة بهذياني

 

ثم تعاودني في "موسم التوت": "عاد موسم التوت/ وتذكرت شفتيك/ فاشتعلت شفتاي" وفي "كما الكمنجات": "أعمد روحي بأرجوان تفاحة /تتدلى من جداول سلالتها المشتهاة."

 

أهو طعم اللغة؟ (وهل للّغة طعم أيضاً؟) أتراه هو ذاته الذي أجرى رضاب العشق فتسلل خلسةَ إلى "قمرية الخضراء"؟  

 

آه يا قُمْرية الخضراء

أرى الحروف تترقرق عبر أوردتِكِ

جدوالَ هامسةً

من رضابِ العشق

تنسكب في بحرك الكبير 

ذلك الجبار الذي أمواجه

تفور في أعماقك

ورذاذه المضمخ بالمسك

يصعد مع أنفاسـك

ليطفئ ظمأ الورود. 

 

ويهب العبق في "نشيد الحجر الماسي" من "... ضفائر حورية تستحم في عبير الفناء، وفي "أفنان أشواق مجوسية" حيث "... التمعت في عتمة المساء/ ماسة تكتنز بهتافات الحنين/ إلى عطر طينها المبلل/ بأمطار أشواقك المدهشة، وفي "قبّرات الدهشة ينقرن توت قلبي" حيث تتنسّم الشاعرة نفحةً من نفحات أوفيد تحيلها في لحظة السحر  إلى "وردة تستنشق جذور طينتها." 

 

 وألمس الأبنوس فتئنّ الحروف لكأنما هي قلوب صغيرة تتدافع نبضاتها من حولي. أراقب تلك السنونة المقرورة في "توقيع بسلافة الياقوت الأحمر"

 

تشتهي عش كفّ

تختبئ في جحيمه

يدها الثلجية العويل

كي يغدق على يتمها النازف يالنحيب

فرو أمومة تعبق بمذاق حليب الأوطان.

 

وأردد تنهيدة الأمنيات مع هدى في "أجمل الأحزان": "لو أمكن لنجمة المستحيل/ أن تودع كفي بكفك الأسيل."

 

هي إذن قمرية الخضراء القادمة من عمق التاريخ العربي بأمجاده وخيباته بانتصاراته وكبواته، بعزته وبانكساره، بأكاليل غاره وبأشواك اندحاره، تحمل في صدرها الأحزان. لكن حنينها يحمل بشائر الحرية والحب والحياة. هي القمرية التي حركت في قلبي جذوة من الشعر:   

 

أيتها الجنية القادمة من ألف ليلة

من يصف براعم أشواقك

حين تطير كالأشباح

ترقص في قلب الغيم

تشـاكـس المذنبات العابرة

تلوّح للمجرات

وتشعل قلب القمر الغيور.

 

وهذا الأبنوس بين يديّ، وأنا به فرِحٌ فَرَحَ الأطفال، تلامسه أناملي وتقلب صفحاته، وتغرق في قصائده، القصائد التي "ليست إلا صدى لحياةٍ ما تزال ممكنة، لحالة عشق لم تمت، لألق لم ينطفئ." والتي "هي في الوقت نفسه جنائزبة دافئة لفقدان دائم في صيرورة حياة تتجدد باستمرار،" كما يقول واسيني الأعرج – ذلك القاص الجزائري الذي لا يكف عن إدهاش قرائه في مشارق الأرض ومغاربها – في افتتاحيته لأبنوس الغياب.

 

وهدى لا تنسى أبداً. لقد عثرتُ على بعض من نفسي في ختام الأبنوس. هناك تركت لي هدى ثلاث قصائد من شعرها كنت قد ترجمتها إلى الإنجليزية، إلى جانب قصيدة ترجمتها صديقتنا الشاعرة الرقيقة سيلين نور إلى الإسبانية، وقصيدة أخرى ترجمها صديقنا الشاعر الإيطالي ماريو ريلي إلى الإيطالية. وكأنما تأبى هدى أن تنفرد لنفسها بشيء فتمسك بإيدينا وتصر علينا أن نقف إلى جانبها حتى في أكثر أعمالها فرديةً – قصائدها.

 

انطلقت في صدري قفلة الختام في "القمرية" كأنها أغنية:

 

آه يا راعية الأيائل

على ضفاف مِجَرْدَة

يا من عشتار منك تغار

وأفرودايتي

ترمق بعين الحسد

وجنتيك الورديتين

يا صديقة الحوريات

يا طفلة الملائكة المدللة

يا معشوقة الآلهة

حين تضمين العود إلى صدرك

وتداعب أناملك أوتاره المجنحة

قلبي العجوز البائس

الذي استوطنت في حجراته

كل أحزان الدنيا

يقوم

ليرقص رقصته الخرقاء

مثل دب السيرك.

 

وجاء صدى نغماتها يرد عليّ من بين أوجاعة ضاحكاً مستبشراً واثقاُ:

 

أنا الشاعرة
ظبية من ندى الكلمات
أعدو مع مهرة الغيم 
ووعول الذاكرة 
أرعى قطعان 
حملانها الذاهلة
أرويها من شفاه الينابيع 
مياه قلبي الماسية 
و أزهاره الذهبية

 

نعم أنت الشاعرة، أنت قمرية الخضراء. لك كل هذه السماء وهذا الغناء وهذا البهاء. ولنا نحن أيضا منه نصيب، هو هذا الأبنوس الذي ما عاد غائباً، فقد أصبح بالنسة لنا أبنوس الحضور.

25 أيار 2011

 

 

  • Currently 16/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 323 مشاهدة
نشرت فى 26 مايو 2011 بواسطة nizarsartawi

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

46,975