مفهوم الفن وفلسفة الإبداع عند الفنان التشكيلي

 

                                             فواد الكنجي


<!--

لما كان (الفن) يرتبط بوجود (الفنان) الذي يكون قادرا على خلق العمل الفني، وهو الأمر الذي لا يأتي دون وجود تكافؤ بين ما ينتج وبين ما يحس او يشعر به، ومن هنا يمكننا ان نقول بان الفن هو حالة من التعبير عن الشعور  بخلاف ما يكون الموقف مع (الإنسان العادي) الذي حين ينظر الى شيء( ما ) إنما ينظر إليه بتجرد كشيء ماثل أمامه، بينما يكون الأمر مختلفا كليا عند( الفنان ) الذي ينظر إلى الأشياء عبر إسقاطات نفسية وشعورية تأتي إليه كرد فعل لانعكاس لحالة ( ما ) ينفعل بها وتقربه من (الشيء ذاته)، وعبر خياله يأخذ من هذا (الشيء) مصدرا لبناء أفكار جديدة ينتجه في العمل، وهذا ما لا يحدث للأخر الذي وقف عند الشيء ذاته كمرحلة زمنية ومكانية تمضي بعد اللحظة التالية .

 ومن هذه الاستنتاجات نصل إلى نتيجة مفادها  بأنه لا يمكن حصر (مفهوم الفن) بأطر محددة طالما ان هنالك تفاوت في تفاعل الشعور وفي مديات الوجدان وتأثيرها في النفس بين فنان وأخر او بين المتلقي والأخر ، وإذ أمعنا الدراسة في الفكر الفلسفي لمفهوم الفن، فإننا لا نجد في المطلق مفهوما او تعريفا متفق عليه للفن، حيث نجد بان هناك تعاريف متنوعة ومختلفة بل ومتناقضة، فكل باحث له وجهة نظرا معينة ، فالفيلسوف (أرسطو) يعرف الفن "بأنه يصنع ما عجزت الطبيعة عن تحقيقه" ، و (عمانوئيل كانط) يعرف الفن " باعتباره متعة خالصة"، أما (هيكل ) فيعرف الفن "باعتباره  مملكة الرائع" ، أما ( شيللر) فيقول "الفن مملكة الوهم الجميل"، أما (فرويد ) فيقول "بان الفن  هو فعل لنتيجة الغريزة لا العقل"، و(كوتشيه) يقول "الفن حدس"، أما (كاسبرز)  فيعرف الفن بكونه "هو الذي يساعدنا على رؤية أشكال الأشياء وهو ليس مجرد نسخ لحقيقة"،   أما (جورج لوكاتش (فيعرف  الفن بأنه "هو خلق للحياة الشاملة وإبداع للذات الجمالية الأوسع نطاقا من الذات الطبيعية أو الذات الأخلاقية"، ويعرف (جون ديوي ) الفن بقوله" الفن خبرة" ، أما (نيتشيه) فيعرف الفن باعتباره"هو النشاط الميتافيزيقي و  الميتافيزيقا، قائمة على مبدأ الذاتية، من يبدع في الفن ليس الفنان، بل هو الحياة نفسها"، والى....الخ، وكل هذا التناقض بين هذا وذاك يأتي لان العمل الفني شكلا ومضمونا  لا يمكن ربطه في زمن ومكان ثابت ومحدد بكونه صيرورة تتفاعل في الوجدان وفي مشاركة الانفعال ويختلف هذا تأثير ليس من شخص وأخر فحسب بل من زمن وأخر، وفق حالة النفسية التي يكون ( المتلقي) بها في الزمان والمكان ما ، والتي ترفع مستوى الحس الجمالي لديه وقد لا يوقع فيه أي تأثير او انفعال وهذا يعود إلى مستوى الوعي عنده و  الذي قد يراه مبهما وغامضا وغير مفهوم ، ويعود ذلك بعدم وجود لغة تتعاطف بينهما أي بين اللوحة والمتلقي، لذلك تختلف مستويات التقبل و معاير التقييم في العمل بين هذا المتلقي والأخر، ومن هنا فان تقبل او النفور من العمل الفني لن يكون معيار لتقيم الفن، لان (الفن) لا يعرف شيء اسمه (جميل) او (قبيح) لان (القبيح) عند شخص( ما) قد لا يكون (قبيحا) عند (الأخر) ويتقبله ، فهنا سيكون في الفن (القبيح، جميلا) و(الجميل، قبيحا ) وهكذا.. لأننا لو عدنا إلى (الفنان) ذاته عندما يحاول التعبير فهو يستخدم قيما تشكيلية معينه لينفذ عمله بمشاعر و انطباعات وأحاسيس وجماليات معينة أيضا و حسب رويته، وليس مطلوب منه ( أي الفنان ) أن يشرح دوافعه لتنفيذ هذا العمل او ذلك، بل على المتلقي أن يبحث في العمل وان يتحرى بما يستطيع استخلاص ما يؤثر فيه ،  بكون الفنان التشكيلي يمتلك كل أدوات الفنية للعمل التي تجعل منها (لوحة) تتضمن على مفاهيم السحر والجمال التي تخلق منها عملا فنيا يقف الإنسان العادي أمامها منبهرا لمستوى الفكر الذي جعلها على هذا النحو الراقي من حيث الجمالية والتي يعود أمرها بما عبر الرسام، وبما ملك من ذوق رفيع جعلها بهذا المستوى من الجمالية والروعة، لان فلسفة الفن عند الفنان تقوم على سمو الفكر وتوظيف الأفكار لصالح روية جمالية  يستمتع المتلقي لها بما يجعله يقول ان هذا العمل لرائع  وجميل ومستواها الفني عالي ، الأمر الذي لا يأتي ما لم يكمن في العمل الفني توافق و تكامل بين الشكل والمضمون ، وهما سر نجاح لأية ( لوحة ) متقنة لإبعادها الفنية .

فالفنان لا ينفذ عمله الفني دون أن يتأثر ويتفاعل مع حدث او موضوع (ما) تأثيرا  فكريا ونفسيا. فـ(رؤية الفنان) تأتي عبر الفكر والشعور. تحب .. وتختار.. و تكره .. وتفاضل . هذه الرؤية التي تثري  بـ(الخيال) الذي يمكن لها  إمكانات الحذف.. و الهدم .. و البناء .. و الإضافة.. وإعادة التشكيل ، وهذا لا يأتي للفنان  دون التركيز على (الذاكرة) و (الخبرة ) المكتسبة من خلال التفاعل و التجربة، بكون الفنان لا يصوِر العالم الموضوعي كما (هو) وإنما كما( يراه هو) ، ويشعر به، ويتأثر بها بمعنى أوسع للعالم، ومن هنا يمكن ان نصف (الخيال) باعتباره رؤية في العالم الظاهري وليس خارج العالم الظاهري .

لإن النشاط الفني هو نشاط فكري عن الإدراك المباشر لحقيقة (ما ) موجودة حولنا إما بالمخيلة وإما بالذهن وبحالة مجزئة او كلية، أي أن المعرفة فنية تعبر عن حالة خاصة في الذات الفنان، لأن (الفن) هو تعبير عن شعور، او التكافؤ الكامل بين العاطفة التي يحسها الفنان وبين الصورة التي يعبر بها عن هذه العاطفة ، كما قلنا ، أي التكافؤ في التعبير بين الشكل والموضوع ، ومن هنا يكون( مفهوم الفن ) مفهوما متجددا على الدوام ، ولا نهاية لمفهومه ، وفي كل زمان ومكان سيكون للفن مفهومه الخاص، لان الفن هو  الرؤيا.. والتأمل.. والتخيل.. والخيال ..والتمثل .. والتصور، وما إلى ذلك، فتلك جميعها، مرادفات، تتردد باستمرار حين نتحدث عن الفن، وتنهض بالفكر الى مفهوم يختلف باختلاف زاوية الرؤية ومشاعرنا ، بكون العملية الفنية تخضع لعامل الزمن و المكان والتغير والانفعال وخاصة عندما يحاول الفنان نقل تلك (اللحظة) إلى القماش عبر موشور الفكر.. والخبرة .. و المهارة.. و الأسلوب والتعبير.

فالإبداع في الفن يكمن حينما يتمكن الفنان من (التعبير) عن رؤيته الخاصة لموضوعه، فيعكس فيها تجربته الخاصة وخياله و أسلوبه لينصهر ذلك كله في عمل الإبداعي، باعتبار أن المادة .. والشكل.. والتعبير، يعتمد كل منهم على الآخر، فليس لواحد منها وجود بمعزل عن الآخر، والمضمون التعبيري لأي عمل لا يكـون على ما هو عليه إلا عبر عناصر الشكل.. والموضوع، وهى العناصر التي يؤدى تجمعها إلى تكوين العمل الفني فجميع عناصر العمل الفني تتضافر معا لتعبر عن مغزى أو معنى معين، فاختيار الشكل للموضوع لا يأتي إلا من خلال  التعبير، ولا يمكن أن يأتي التعبير بعيد عن الشكل والموضوع او الفكرة المنطوية تحته،  و هنا تكمن سر الإبداع الذي لا يمكن تفسيره كما لا يمكن تحديد ( مفهوم للفن ) كما أن  الإبداعي غير قابل للتكرار، فلو تتبعنا التفاصيل والدقائق واللحظات المرافقة لبناء العمل الفني وتشكيله وما عايشه ويعيشه الفنان في تلك الأثناء، سيكمن لنا مدى صعوبة حصر العوامل والمؤثرات الفاعلة في العمل الذي يتغير في كل لحظة من لحظات تنفيذ العمل، لأن الفنان عندما يشرع في الرسم وتنفيذ العمل إنما يكون في واقع الأمر مسلحا بخبراته السابقة في الملاحظة والروية ومشحونا بالانفعال، وفى نفس الوقت مستحضرا جميع خبراته السابقة من المواد والأشكال، إنها لحظة التي تكون كل العملية الفنية ماثلة في ذهنه، وعندما يبدأ التنفيذ لا يكون على وعى تام بالتفاصـيل الخاصة بالمادة والصورة، وطريق التعبير ، وإنما يتشكل داخله موقف يجمع كل ما يتصل بالفكرة التي أحفزته ليباشر بعملية تنفيذها الإبداعي جملة وتفصيل، فنراه على الدوام يغير في الإشكال والألوان وفق منظور التعبير و الإحساس والانفعالات وعبر خبرته التي تنظم عملية بناء العمل، فيقوم الانفعال بالتعبير عبر عملية خلاقة في الانتقاء والاختيار، والتفضيل. فـ(الانفعال) ترافق (الخبرة الفنية )التي توجهها في عملية اختيار المواد والأشكال و تجميعها لحين ان يشعر الفنان بان العمل يوازي بما في دواخله، او بمعنى أخر، بان ما قام به قد أفرخ كل شحناته الداخلية، بمعنى ان الشكل يوازي مضمون الذي أراد أفراخ شحناته من دواخله وهكذا تخرج اللوحة او العمل الفني  الى الوجود وفق معيار الفنان ذاته حيث يكتمل العمل .

 

المراجع و المصادر 

1- ريد ، هربرت ، معنى الفن، ترجمة سامي خشبة ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، 1986 . 

2- فيشر ، ارنست ، ضرورة الفن ، ترجمة   د.. ميشار سليمان، دار الحقيقة، بيروت.

3- إبراهيم ، زكريا ، مشكلة الفن ، دار مصر للطباعة ، القاهرة  1977 .  

4 -  سانتاينا ، جورج ، الإحساس بالجمال، تخطيط لنظرية في علم الجمال، ترجمة، محمد مصطفى بدوي، مراجعة د.. زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

5- مطر ، أميرة حلمي ، في فلسفة الجمال من أفلاطون إلى سارتر ، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة  1974 .

6- رتليمي ، جان ، بحث في علم الجمال ، ترجمة د/ أنور عبد العزيز،  مطبعة دار نهضة مصر ، ط1 القاهرة  1970. 

7- مجاهد ، مجاهد عبد المنعم ، فلسفة الفن الجميل ، دار الثقافة للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1997 . 

8- اسماعيل ، عز الدين ، الأسس الجمالية في النقد العربي عرض وتفسير ومقارنة ، دار الفكر العربي ،الطبعة الثالثة  1974 .

 

9- توفيق ، سعيد ، الخبرة الجمالية ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،ط1، بيروت، 1992 . 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 218 مشاهدة
نشرت فى 14 فبراير 2015 بواسطة nargal

فواد الكنجي

nargal
موقع ثقافي يهتم بنشر الفلسفة وفنون الاداب من النقد والشعر والفن التشكيلي »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,016