باب: أحكام الصيد والذبائح البشرية .
حياة الإنسان .. بين الدُرونز الأمريكية وسكاكين المجاهدين.
جحيم في الأرض يُشعله حمقى المجاهدين وجحيم من السماء يقذفه الغُزاة المعتدين ، ولا يجد الإنسان في بلادنا إلا أن يختار إحدى الموتتين ، إما ذبحاً بالسكاكين أو صيداً بالطائرات ، والغريب أن كلاهما لا يزال يكرر على مسامعنا حديثاً عن غايته التي فيها خيرٌ للإنسانية جمعاء ، فالمجاهدون غايتهم تحكيم الشريعة وصد العدوان الصليبي ، والأمريكان غايتهم نشر ثقافة حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب ، وفي سبيل هذه الغاية السامية لا بأس في رأي هؤلاء أن يدفع آلاف الأبرياء الثمن من دمائهم وأحبائهم ، ولا بأس أن ينشروا الهلع والرعب في قلوب الأطفال والنساء ، ولا بأس أن ينزح المدنيون من ديارهم ويقاسي التُعساء البؤس وشظف العيش ، وليس أمامنا ونحن نتابع باستمرار مشاهد الأكشن المُرعبة التي يُنتجها أعداء الإنسانية ومصاصوا الدماء إلا أن نتساءل في حيرة عن أحكام الصيد والذبائح البشرية في كلٍ من الشرع الإسلامي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان ؟ .
- لقد قضيت ما يُقارب العقدين من عمري متنقلاً بين مواثيق حقوق الإنسان ونصوص الشرع الإسلامي ، فوجدتها جميعاً تُغالي في قيمة الإنسان وتعمل جاهدة للعناية بكرامته وحرياته وحقوقه ، كما وجدتها تُضيق الخناق وتسد الطريق على كل عصابة أو نظام تدفعه نوازعه الإجرامية وغاياته الحيوانية للانتقاص من هذه الكرامة أو سلب هذه الحريات أومصادرة هذه الحقوق ، ولم تتوانى هذه المواثيق والنصوص أن تضرب في تشريعاتها العقابية بيدٍ من حديد ضد كل اعتداء يطال هذه القيم سواءً أكان الإعتداء بسن القوانين الجائرة أو اقتراف الممارسات غير المشروعة أو التفسيرات اللانسانية للنصوص الدينية والمواثيق الدولية ، وسواء كان المعتدي فرداً ، أو عصابة متمردة ، أو مكون وطني مشروع ، أو نظام منتخب ، أو سلطة استبدادية ، فالعالم بكل أديانهم وأعراقهم وثقافاتهم لم يتفقوا على شئ - على كثرة خلافاتهم - مثل اتفاقهم على أن حماية الإنسان ضرورة ، ورعايته واجب ، وأن التعدي عليه جريمة ، وأن حياته مقدسة أياً كان لونه ودينه وجنسه ولغته وعرقه .
أسراب المجاهدين يغتالون الشريعة .
أحق ما يقال فيهم أنهم فرقوا ما جمعه الله ، وأخروا ما بدأ به الله ، وتتبعوا سَنن اليهود حين آمنوا ببعض الكتاب وأعرضوا عن بعضه ، وذلك أن الله قال في كتابه الكريم (أَلا له الخلق والأَمر تبارك اللَّه رب العالمين) –الأعراف54- والخلق هنا يشمل سائر خلقه وفي صدارتها الإنسان المخلوق في أحسن تقويم ، والأمر هنا يشمل الأمر الكوني والشرعي معاً ، غير أن معشر الجهاديين فرقوا ما جمعه الله حين قضوا أشواطاً طويلة من حياتهم يطالبون بتحكيم الشريعة ولم يحض الإنسان البائس بشئ من جهادهم وجُهودهم ، وأخروا ما قدمه الله حين خاضوا معارك ضارية استباحوا فيها دماء الخلق لأجل تطبيق الشريعة متجاهلين أن الله جعل مكانة الخلق قبل مكانه الأمر ، وأباح النُطق بكلمة الكفر لحفظ النفس ، وآمنوا ببعض الكتاب وأعرضوا عن بعضه حين استحضروا عشرات النصوص التي تُحذرنا من الإحتكام لغير حكم الله ، وأعرضوا في ذات الوقت عن عشرات النصوص المحذرة من خنق الحياة التي بثها الله في عبادة وإزهاق النفس التي أمر الله بإحياها .
- إنهم يغتالون الشريعة التي يطالبون بتحكيمها في كل يوم تستنتشق فيه أفعالهم أنفاس الطيش والرعُونة ، فهم يغتالون الشريعة حين يهتفون بقوله تعالى: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 40 ) – يوسف- ، ثم يقتلون الأسرى الذين حكم الله فيهم بقوله (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ) –محمد- ، ويغتالون الشريعة حين يجاهرون بالتكفير اتكاءً على قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) -المائدة:44- ، ثم لا يرون بأساً أن يفرضوا أنفسهم زعماء على البلاد والعباد دون مشورة من أهلها مخالفين حكم الله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم)- الشورى38-، .، ويغتالون الشريعة حين يتغنون بقوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) – الأحزاب21- ، ثم يسلكون مسلك العنف والغِلظة ويحيون بعيداً عن نهج من جعلته إرادة السماء رحمة لسائر الخلق عامة وللمؤمنين خاصة فقال :(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ( 128 ) – التوبة-
- ثم تستمر وقاحتهم في اغتيال الشريعة حين يُلزمون الخلق بقضاء الله ورسوله : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا(-الأحزاب36- ، ثم يختارون لأنفسهم غير ما قضاه الله ورسوله فيُكَفرون من تنطق ألسنتهم بالتوحيد وتسجد جباههم لله ، ويستبيحون دماء الجنود المسلمين معرضين عن قضاء الله القائل: (ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا) –النساء 94- ، ومتجاهلين موقف النبي (ص) تجاه أسامة كما في البخاري وجاء فيه (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة قال فصبحنا القوم فهزمناهم قال ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم قال فلما غشيناه قال لا إله إلا الله قال فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته قال فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال فقال لي يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قال قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا قال أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) وقال القرطبي : (.. وفيه دليل على ترتب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة) – فتح الباري- .
- إن تحكيم الشريعة ليس بالاحتكام إلى السلاح ، وتطبيق حدود الشرع لا يكون بالتعدي على حدود الله ، وفتح باب الجهاد لا بد أن يسبقه فتح باب الاجتهاد ، ولا خير في سواعد المجاهدين ما افتقرت إلى حكمة المجتهدين ، ولسان الداعين بالحكمة والموعظة الحسنة أقوم سبيلاً وأحقُ بالتقديم من سِنان المجاهدين ، ودرهمٌ حكمة خيرٌ من قنطار قوة ، والشجاعة من غير عقل رعونة ، والقتال من غير تمكُنٍ واستعداد طيش وتهور ، والقضاء على الفساد بإحداث الفوضى فسادٌ أعظم ، وإقامة الخلافة لا يحققه إضعاف الجيش ونشر الخلاف ، ومن رام إضعاف شوكة المعتدين فمن الحماقة أن يكسر شوكة المؤمنين ولو كانوا في نظره ضالين ومنحرفين ، وتوحيد الصفوف على مصلحة الإنسان خيرٌ من تفريقهم على حُكم القرآن وأصاب هارون حين رد على أخيه موسى في حادثة عبادة العجل : ( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ( 92 ) ألا تتبعن أفعصيت أمري ( 93 ) قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ( 94 )) –طه- .
الدرونز الأمريكية تستهدف حقوق الإنسان .
إن الذئاب الجائعة لا تنظر إلى عيني الضحية بل إلى لحمها ، وملك الغابة لا يرى في حيوانات الغابة الوديعة رعايا يحفظها بل فرائس دسمة يتعيش عليها ويصطادها لعائلته ، وهذا تماماً ما ينطبق على تاريخ الدول الإستعمارية التي تقاسمت لعقود طويلة بلاد المسلمين فأكلت خيراتها ، وفرضت الوصاية عليها ، وارتكبت في سبيل ذلك أبشع الجرائم ، وأفظع الإنتهاكات ، ثم لم تستح بعد ذلك وأثناءه أن ترفع شعار الحقوق والحريات ، وأيدته بإعلانات ومواثيق تنص على هذه الحقوق وتفصلها وتحوطها بالضمانات ، وزادت على ذلك فأسست منظمات ومحاكم دولية ترصد الانتهاكات ، وتُحاسب عليها ، وتُقدم المساعدات ، وتُنصف الشعوب المضطهدة ، غير أن هذه المواثيق والإتفاقات والمنظمات والمحاكم على أهميتها ودعوتنا لتأييدها إلا أنها ما زالت ضحية لرعونات الدول المتألهة في الأرض التي تحتكم إلى لغة القوة وتعبث بلغة الحقوق ، فُلغة الحقوق صوتها مسموع ، ونداءها مجاب إن كان الجناة من جُملة خصوم هذه الدول ، ولكنها سرعان ما تكون لُغة مجهولة ، وشفراتٌ مُلغزة إن صار الجُناة من الخاضعين لها أو المتحالفين معها .
- يكفي أن نعلم أن عشرات الحقوق الإنسانية المنصوص عليها في عشرات المواد والمواثيق الدولية وقعت ضحايا لطائرات الدرونز الأمريكية وعلى رأس هذه الضحايا دستور الحقوق (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) والذي أقرته سائر دول العالم ، فالدرونز تختطف حياة المدنيين الأبرياء دون حساب أو عقاب ، والدرونز تقصف المشتبه بهم دون محاكمات عادلة ، والدرونز تتجسس على المواطنين دون مراعاة لحق الخصوصية ، والدرونز تخترق أجواء الدول دون أي احترام لسيادتها ، والدرونز تنشر الرعب في قلوب الأطفال والنساء دون شعور بالذنب ، والدرونز تخوض الحروب دون عودة إلى مجلس الأمن أو الأمم المتحدة ، ومكافحة الإرهاب ذريعة كافية لارتكاب كل هذه الحماقات ، فمن أجل حماية المواطن الأمريكي وصون حقوقه لا بأس أن تُنتهك كل الحقوق الإنسانية ، ولا بأس أن تُداس كل المواثيق الدولية ، فكل ما تصيده طائرات الدرونز من حقوق مكفولة مباحٌ أمريكياً وإن كان محرمٌ دولياً ، وإذا كان الجهاديون يتأولون لمشروعية ذبائحهم من البشر ، فإن الأمريكان يتبجحون في صيدهم ولا يتأولون أو حتى يعتذرون ، وإذا كان الجهاديون يمارسون الإرهاب ، فإن الأمريكان يجيدون صناعة الإرهابيين ، وإذا كان الجهاديون رفعوا شعار تحكيم الشريعة ثم اغتالوه بانتهاك أحكامها ، فإن الأمريكان رفعوا شعار الحقوق ثم أحرقوه بصواريخ الدرونز ،، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ساحة النقاش