<!--

<!--<!--

 

 

عقوبة السرقة ،، قطعُ الشرور أم شرُ الحدود

 

 

لم أتوانى مطلقاً أن أنضم إلى صفوف الحُذاق الرافضين لعقوبتي الردة والرجم كون الأولى صناعة سلطانية هدفها تصفية الخصوم باسم الله ، والثانية عقوبة تلمودية لا تنسجم مع توازن الشريعة ، غير أن رفضي الشديد لهاتين العقوبتين يقابله رفض أشد لمحاولات التأويل لعقوبة السرقة وحملها على المنع بالسجن أو الجرح دون البتر إعتماداً على تفسير للنص بعيدٍ عن السياق العام والخاص ، أو الدعوى إلى استبدالها بعقوبات أُخرى وفق تطبيق غير علمي لفقه الواقع أو فقه المقاصد ، وموقفي في كلا الحالين رغم تباينهما نابع من خضوعي لصرامة المنهج الذي أتبعه في تفسير النصوص دون الإلتفات إلى رضا معشر المجددين أو سخط عشيرة المقلدين .

 - أعلم أنه في ظل الهجمة المحمومة على الحدود والرفض غير الموضوعي لتطبيق الشريعة فإن جمعاً من دعاة التجديد حريصون أن يُظهروا سماحة ورحمة أحكام الإسلام إنطلاقاً من الوصية النبوية (حتى تعلم يهود أن في ديننا فُسحة) ، ولا أنُكر أني أوافقهم في الغاية غير أني أختلف معهم في الطريقة ، فسماحة الإسلام عندي لا بد أن يلازمها اتزانه وعقلانيته ، ورحمة الإسلام لا تنفك عن عدالته وقطعه لأسباب الفساد ، والحرص على الإقناع بصلاحية الشريعة لا يكون على حساب مصادرة بعض أحكامها المحققة لمصلحة المسلمين .

 - لقد تتبعت مستقصياً حجج القائلين بتأويل عقوبة السرقة وحملهم معنى الآية ( فاقطعوا أيديهما) على الجرح دون البتر أو المنع من السرقة بالسجن ، كما تتبعت حجج القائلين باستبدال عقوبة القطع بعقوبة أُخرى أقرب لروح العصر وأوفق بمقاصد الشرع ، فوجدت حجج الفريقين هشة لا تصمد أمام صلابة المنهج العلمي ، غير أني بقدر ما دحضت رأي دعاة التجديد دحضت تمسك دعاة التقليد بالشروط والحدود التي وضعها الفقهاء السابقين لتطبيق حد السرقة كونها حدود وشروط قائمة على اجتهادات بعضها ظرفية وأخرى أدلتها متناقضة في معناها أو ضعيفة في ثبوتها .

نسف تأويل رواد التجديد .

لم أجد أدنى مشقة في نسف تأويل رواد التجديد وتلمست أسلحتي فوجدت أقواها السياق فصرعت به حُججهم ، وذلك أنهم أولوا القطع في قوله تعالى " وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (المائدة 38) الجرح وطاروا فرحاً بما وجدوه في سورة يوسف من قوله تعالى(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) (يوسف :31(  ، ويستحيل بحال من الأحوال في رأيهم أن يصل الذهول بالنسوة إلى بتر أيديهنّٓ بل إنه في رأيهم الجرح فحسب ، وحملوا القطع في عقوبة السرقة بمعنى القطع في حادثة النسوة أي الجرح وحسب ، غير أنهم لو تمهلوا قليلاً ونظروا في السياق العام والخاص للآية الخاصة بالسرقة الواردة في المائدة لوجدوا أن فرحتهم سراباً وأن الأمر مختلفاً عن حادثة النسوة فالقطع في عقوبة السرقة لا يمكن أن يحمل دلالة غير البتر .

 - لقد أذهلتني التعقيبات العنيفة الواردة عقب ذكر عقوبة السرقة (نكالاً من الله) (والله عزيز حكيم) وتساءلت هل غابت عن دعاة التجديد أم تعاموا عنها ؟! ، لقد ذكر الله لفظ النكال بما يحمله من معنى العقوبة الشديدة المانعة من العودة للجرم ، ثم أردفه بذكر صفة العزة بما تحمله من معنى الغلبة الإلهية لمرتكبي هذه الجناية ، ثم زادُ عليه صفة الحكمة ليدفع كل وسواس قد يساور النفوس في غِلظ هذه العقوبة ، فهل كل هذه التعقيبات المتوالية بما تحمله من رٓوح التأكيدات الحاسمة لمجرد عقوبة مخففة كالجرح ؟! ، لا والله بل إن كنا ننزه عنه كلام البشر البلغاء ، فكيف نجرؤ أن ننسبه إلى كلام الله .

-  وتزايد ذهولي حين أعدت قراءة الآية المتعلقة بالعقوبة في سياق الآيات السابقة واللاحقة لها فوجدتها واردة بعد جرائم جسيمة وعقوبات مغلظة ، أما الجرائم فـ ( القتل - والحرابة - والفساد في الأرض) ، وأما العقوبات فـ( الإعدام - وقطع الأطراف - والنفي - والصلب ) ، و ورود عقوبة السرقة في هذا السياق المشحون بأجواء التشديد والتغليظ يستوجب علينا دون أدنى تردد أن نحمل عبارة ( فاقطعوا أيديهما) على البتر وليس غيره .

-  وبلغ ذهولي أقصاه حين تتبعت لفظ القطع في السياق العام للقرآن فوجدتها وردت في المعنويات والمحسوسات ، أما في المعنويات فجاءت بمعنى الانتهاء والمنع ، وأما في المحسوسات فلم ترد بغير معنى البتر باستثناء حادثة يوسف والنسوة لقرائن واضحة وضوح الشمس لم تتوفر لغيرها وبقي ما عداها على الأصل ، وهذا ما زادني يقيناً أن القطع في عقوبة السرقة أمر تُقره كل السياقات في القرآن سواء أكان سياق الآية أم سياق الآيات أم سياق القرآن العام ، والمساواة بين المعنويات والمحسوسات في معنى القطع ، أو عدم التسليم لكل هذه السياقات جرياً وراء احتمالات مرجوحة للفظ (القطع) سقوط علمي يرفضه أولوا الألباب .

إذا عظُم الجرم عظُمت العقوبة .

لقد أخرس الله الألسنة وألجم الأفواه حين قال عن عقوبة السارق والسارقة (جزاء بما كسبا) والجزاء يعني المجازاة ويتضمن في تضاعيفه دلالة التكافؤ بين الجُرم والعقوبة ، كما أن ورود هذا التعقيب بعد ذكر العقوبة يحمل في طياته دفع ما يمكن أن تتحرك به نفوس السامعين من استنكار لعقوبة القطع بمعنى البتر، ولو كان المقصود مجرد الجرح لما احتاج الشارع الحكيم لهذا التأكيد لهذا التأكيد والإيضاح بتكافؤ العقوبة مع الجرم .

 - إن منطق الشرع يتوافق مع منطق العقل في تقرير العقوبة بقدر الجُرم ، وجُرم التعدي على الناس في أموالهم دون وجه حق جُرم عظيم في عُرف الشارع وقانون الحياة ، وأكبر دليل على ذلك فوق ما ذكرناه سالفاً حديث القرآن عن التوبة في جملة من التأكيدات بعد حديثه عن عقوبة السرقة ووصفه لفعل السرقة بالظلم قال تعالى (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) المائدة 39- ، ووصف الفعل بالظلم في لغة القرآن والمطالبة بالتوبة منه لا يكون إلا في كبائر الذنوب ، ولو عدنا خطوات إلى آيات الحرابة السابقة عليها لوجدنا أن الله قد قرنها بالتوبة كما قرن فعل السرقة بالتوبة فقال تعالى في الحرابة (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْل أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم "- المائدة 34- ، واقترانهما بشئ واحد هو التوبة دليل تقاربهما في المفسدة والعقوبة .

- وهنا لا بد أن أنبه أن جُرم السرقة الوارد في الآية لا ينطبق على من ارتكبه عن حاجة أو هفوة ، وإنما يُقصد به من احترف السرقة ليغتني بها وقد انفتحت بين يديه أبواب الحلال ، وهذا ما رٓمت إليه الآية في اختيارها صيغة اسم الفاعل (السارق) بما تدل عليه من معنى ثبوت ولزوم الصفة في حاملها في رأي جمهور النحاة ، ووضع اللفظ في جملة اسمية يحسم دلالتها على الثبوت عند جميع النحاة ويزيده ، ولا شك أن احتراف الإجرام خطر جارف على حقوق الخلق لا يوقفه شئ كصرامة العقوبة ، بخلاف من عثر في زلة يأمل منا أن نهبه فرصة لينهض منها .

-  ولا أنسى أن أنبه هنا إلى تشويش قد يرد على البعض في جمع الأيدي في قوله تعالى (فاقطعوا أيديهما) بالرغم من أن الحديث عن اثنين هما (السارق والسارقة) ، وان القطع بمعنى البتر في رأيهم يستحيل لأنه سيؤدي إلى قطع كلا اليدين لكل من السارق والسارق حتى تتحقق دلالة الجمع ، لأنه لو أراد بتر يدٍ واحدة لكلٍ منهما لقال (فاقطعوا يديهما) بالتثنية ، ومن ثم فالأفضل في رأيهم حمل القطع على الجرح حتى تتحقق دلالة الجمع ، وغفل هؤلاء أن العرب لها أساليب في كلامها نزل على حذوها القرآن ، ومنها أن العرب تستنكف في الغالب من كلامها أن تجمع بين تثنيتين هروباً من الاستثقال كقوله تعالى (إن تتوبا إلى فقد صغت قلوبكما) - التحريم - ، ولا حرج أن نذكر تخريج آخر لصاحب التحرير التنوير مفاده أن لفظ (أيديهما) جمعُ (الأيدي) فيه مراعاة للمعنى (أي كل سارق وسارقة) وضمير (هما) مراعاة للفظ (السارق والسارقة) والأخذ بهذه التوجيهات إضافة إلى وجاهتها يؤيدها السياق.

استبدال العقوبة مضادٌ لحكمة الله .

في البداية لم أتوانى عن المناقشة والتفكير في إمكانية البحث عن عقوبة بديلة لجناية السرقة مراعاة لاختلاف الحال وتغير الزمان ، غير أنه سرعان ما اقشعر جلدي واهتزت أركاني عندما قرأت قوله تعالى بعد أمره بالقطع (والله عزيز حكيم) فأدركت أن الله قد قال كلمته الأخيرة في السارق والسارقة بما لا متسع فيه للمراجعة ، فأدرت تفكيري تجاه القائلين بانتهاء صلاحية العقوبة الواردة في القرآن لأكشف تهافت قولهم وانحراف رأيهم عن مسار الحكمة .

 - لقد قالوا بأن الغاية من الحد كف السارق عن السرقة وهذا قد يتحقق بالسجن أو الغرامة دون القطع ، ومالم يكن متاحاً من في زمن النبوة كالسجون صار متاحاً في زماننا ، غير أنهم لم يحدثونا لماذا فرق الشارع بين عقوبة الجنايات فنص على بعضها وترك بعضها لاجتهاد أولي الأمر فيما سماه الفقهاء بعد ذلك بالعقوبات التعزيرية ؟ ، ولماذا فرق الشارع بين العقوبات المنصوص عليها فحسم الخيار في قسم منها كعقوبة الزنى والقذف والسرقة وفي قسم منها نص على أكثر من خيار كعقوبة القتل حيث جعل الأمر لأولياء الأمر الخيار بين العفو والدية والقصاص ، وفي عقوبة الحرابة وضع لولي الأمر اختيار الأنسب بين القتل والصلب والنفي وقطع الأطراف ؟ .

 - واستمراراً لمسلسل التساؤلات المحرجة لهم نقول ولماذا فرق الشارع في نوع العقوبة المنصوص عليها فجعل في بعضها الجلد وفي بعضها القطع وفي بعضها القصاص وفي بعضها الغرامة ؟ ولماذا فرق الشارع في قدر العقوبات المنصوص عليها فجعل في الزنى مائة جلدة وفي القذف ثمانين ؟ ، ولماذا اشترط الشارع في بعض العقوبات أن تكون على مشهد من المؤمنين ولم يشترط ذلك في البعض الآخر ؟ ولماذا لم يكن النبي (ص) يحتجز السُراق في الأماكن التي كانت مخصصة لاحتجاز الأسرى بدل قطع أيديهم ؟ ، ولماذا لم يجتهد النبي (ص) في المبادلة بين العقوبات في بعض الأحوال فينفي السارق ويقطع يد الزاني ويُغرم المحارب ويصلب القاتل ؟! أم أنه حرام عليه بالأمس مع توفر الدواعي حلالٌ لنا اليوم ؟! .

 - بمعنى آخر لو كان الأمر في العقوبات المقدرة كماً ونوعاً خاضعاً للاجتهاد وتقلبات الزمان وتطورات الحياة لما نص الشارع عليها وجعلها مع العقوبات التعزيرية في سلة واحدة ولما فرق بينها النوع والقدر وشكل التنفيذ ، بل كان يكفي الشارع أن ينص على سلة من العقوبات بعيداً عن ربطها بالجنايات ويترك لأهل كل زمان أن يربطوا بين نوع الجناية وبين نوع العقوبة وقدرها بما يتناسب مع متغيرات زمانهم ، كما أن هناك سؤالاً بريئا لدعاة استبدال العقوبة مفاده (هل يا تُرى ينسحب باب الاجتهاد في تغيير العقوبات المقدرة على تغيير الكفارات المقدرة ؟! أم أن هناك سرٌ خاص بالعقوبات مفقودٌ في الكفارات ؟! و ياتُرى ما هو السر ؟) !.

أيادي مقطوعة خيرٌ من أيادي آثمة .

عجبت من إشفاقهم على أيدي الجناة وادعائهم أن البتر سيخلف لنا مجتمعاً بأيادي مبتورة ونفوس موتورة ، كما أنه سيحرم السُراق من القدرة على إعالة أسرهم ويجعلهم ومن يعولون عالة على المجتمع ، وكل هذا في رأيهم ينافي رحمة الإسلام بالناس أفراداً وجماعات ، وتناسى هؤلاء أن قانون الحياة لا يتم بالرحمة دون العقاب ، وسلوك الإنسان لا يستقيم باللين دون الشدة ، وميزان الشرع لا يعتدل بالترغيب دون الترهيب ، والرفق بالأشقياء لا يقل خطراً عن القسوة بالأتقياء .

 - إن إشباع البطون الجائعة وظيفة سامية لا تُحسنها الأيادي الآثمة ، والسعي في الأرض لجمع القوت الحلال لا يهواه من ملأ بطنه من كد الناس وتعبهم ، والشفقة بالمعتدين إجحافٌ صارخ بالمعتدى عليهم ، والحرص على يد السارق من البتر تضييع لحقوق الخلق وتوسيع لدائرة الجريمة ، وقطع يدٍ واحدة فيه كف آلاف الآيادي عن العدوان ، وحفظ نفوس السُراق أن يكونوا ناقمين لا يكون بإتاحة الفرصة لهم ليكونوا معتدين ، والدعوى لحماية أيدي السُراق يفتح الباب لحماية رؤوس القتلة ، فوجود مجتمع برؤوس مقطوعة أعظم بكثير من وجود مجتمع بأيدي مبتورة فهل نُلغي القصاص ؟! ، لا والله ، بل تحول السُراق بعد بتر أيديهم إلى عالة خيرٌ من استمرارهم مجرمين ، ووجود أيدٍ مقطوعة خيرٌ من بقاءها أيدٍ آثمة .

أطراف الأشراف أحق بالبتر .

لقد كانت بوارق للحق لمعت بين ثناياه عليه الصلاة والسلام حين قال " إنما هلك الذين من قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد " ، فأشراف القوم والقادرين منهم أولى بالعقوبة من أهل الحاجة والمسكنة الذين قد تدفعهم ضرورات الحياة وقلة ذات اليد إلى ارتياد أبواب الحرام لسد حاجة من يعولون رغبة في البقاء وبحثا ًعن أسباب الحياة ، على عكس الأشراف وسادة القوم الذين تمتد أيديهم إلى أموال العباد رغبة في الاغتناء وبحثاً عن الرفاه .

 - لقد وقع الفقهاء في خطئٍ فاحشٍ حين أعفوا المعتدي على المال العام من عقوبة السرقة و أوجبوها على من وقعت يده على أموال الأفراد ، وكان الأولى أن تعظُم العقوبة إذا عظُمت المفسدة ، وما تتضرر به عامة الأمة أولى بالحرمة والحماية مما يتضرر به فردٌ أو بضعٓةُ أفراد ، وشبهة وجود حق للسارق في المال العام تمنع من القطع يردها تفاهة ما يملكه الفرد في هذا المال وعدم تٓعينه في مقابل ما تملكه عامة الأمة .

-  كما وقع الفقهاء في خطئٍ أسوأ حين اعتبروا السارق المستحق للعقوبة من وقع في السرقة ولو لمرة واحدة على الرغم من أن لفظ (السارق والسارقة) جاء بصيغة (اسم الفاعل) يقال سارق على وزن فاعل ، كما أن هذه الصيغة وردت في جملة إسمية (والسارق والسارقة فاقطعوا) ، وورود صيغة اسم الفاعل في جملة اسمية تدل على صفة الثبوت والرسوخ ، أي أن لفظ السارق والسارقة تقتصر على من صارت السرقة سلوكا ملازماً لهم وصفة راسخة في نفوسهم يشق علاجها .

ما أحوجنا إلى حكمة الفاروق .

ما كان أحكم عمر حين أوقف تطبيق الحد في عام الرمادة لما أصاب المسلمين من مجاعة ، وصارت جناية السرقة مقرونة بشبهة الحاجة ، ولا أدري كيف انصرف الفقهاء عن هذا المقياس الدقيق واعتبروا من سرق ثلاثة دراهم أو ربع دينار مستوجباً لعقوبة القطع ، ولم يروا في تفاهة المبلغ شبهة واضحة في كون صاحبها تعيساً بائساً ، كما أن براهينهم في ذلك لم تسلم من التعارض الصارخ ، وأشد من تعارض أدلتهم اختلاف تقديرهم المهول للحد الأدنى ما بين دراهم وخمسين درهم ، ومن هنا كان لزاماً علينا وضع معيار دقيق للحد الأدنى للمال المسروق المستوجب لعقوبة القطع ، وليكن معيار هذا التقدير التفريق بين من يسرق قصد الاغتناء ومن يسرق بدافع الحاجة .

-  غير أن حكمة عُمر ينبغي ألا تتوقف عند أوضاع المجاعة ، بل ينبغي أن تمتد لتراعي الأوضاع العامة للناس ، فتدهور الحياة الاقتصادية للناس وانتشار الفقر والبطالة أسباب تمنع من تطبيق عقوبة القطع ، وتردي القيم والأخلاق في المجتمع في ظل فساد التعليم ، وغياب التربية الدينية للأجيال ، وتوفر وسائل الانحراف ، والتمزق الأسري ، كلها أسباب تمنع من تطبيق العقوبة ، وفساد القضاء وانحراف منظومة الحكم وغياب العدالة وعدم المساواة بين كبار القوم وعامتهم أسباب أخرى تمنع من تطبيق العقوبة .

 - إن مكافحة الجريمة تنتهي بالعقوبات ولا تبتدئ بها ، بل لا بد من منظومة متكاملة تشمل التربية على الأخلاق والقيم الدينية ، وتحسين الأوضاع الاقتصادية ، وإصلاح القضاء وأجهزة الحكم ، وتقوية الروابط الاجتماعية ، وتحصين الأسرة من التفكك ، وقطع كل دوافع وأسباب الجريمة ، وكلامي هذا ليس بدعا من القول بل يتوافق مع النهج الإلهي الذي جعل منظومة العقوبات من آواخر ما نزل من القرآن وفي آواخر العهد المدني ، وهذا ما يدفعنا للمطالبة الجادة بتعزيز هيئة الحُكم في محاكم الجنايات بالأخصائيين النفسيين والاجتماعيين لدراسة دوافع الجريمة وعدم الاقتصار على رجال القضاء وحدهم .

إلغاء عقوبة القطع بدعة فقهية .

لو أننا حققنا في الأمر لوجدنا أن الأسبق إلى إلغاء عقوبة القطع ليس دعاة التجديد وإنما الفقهاء الأقدمين ، وبرهان ذلك الشروط التعجيزية التي وضعوها لتطبيق عقوبة السرقة والمعاذيير التي ألبسوها ثوب الشبهات الدارئة للقطع ، ولو صدقوا لاعترفوا بأنهم أرادوا الهروب من تطبيق العقوبة باختراع هذه الشبهات أو تشديد الشروط وأنهم لا يختلفون عن دعاة التجديد في تعطيل العقوبة واستبدالها سوى أن دعاة التجديد كانوا أكثر جراءة من الفقهاء السابقين ومقلديهم .

 - إن اشتراط جمهور الفقهاء وجود الحرز بمعنى الحفظ والصيانة لإنفاذ عقوبة السرقة جمع بين رزيتين ، أولها ضعف الاستدلال بحديث (الجرين) المشكوك في صحته ودلالته والذي دفع ابن المنذر للقول (ليس في هذا الباب خبر ثابت ولا مقال لأهل العلم) -تفسير القرطبي- ، وثانيهما تدعيم موقف السارق في عدوانه على أموال الناس ، بل وصلت الجراءة ببعض الفقهاء أن يُعفي السارق من العقوبة إذا انتزع الذهب من يد صبية لأنها لا تقوى على حفظه وهنا يكون قد انتفى شرط الحرز الواجب لإقامة الحد ، ومثله السرقة من دار مفتوحة أو سرقة الماشية في الوديان والجبال ، بل إن سرقة خازن بيت المال من أموال المسلمين ليست سرقة لأنها ليست محرزة منه ، وكأن السارق معذور في حال غفلة الناس ، أو كأن على المجتمع أن يضل في حالة استنفار دائم لأن القانون في صف المجرمين إن غفل الناس  .

- بل حتى الأموات لم يأمنوا على أكفانهم لأن النباش في رأي أغلب الفقهاء لا قطع عليه فالقبر ليس حرزاً ، وصدق أو لا تصدق إن حدثتك أن المساجد لا قطع في سرقة قناديلها وبلاطها وفرشها إن كانت مفتوحة نهاراً لأنها ليست محرزة ، بل إن الفقهاء فرقوا بين الدابة المربوطة وغير المربوطة إن سُرقتا من مكان واحد ففي الأولى القطع ولا قطع في الثانية لأنها غير محرزة ، وتمادى الفقهاء في وضع الشبهات المانعة من القطع حفاظاً على سلامة يد السارق ، فلا قطع في السرقة بين الزوجين ، ولا إن سرق الولد أبيه وجده ، ولا فيمن كانت بينهم رحم محرمة ، ولا قطع في السرقة من بيت المال (المال العام) لأن له نصيب فيها ، ولا قطع في سرقة مال المستأمن لأن ماله غير معصوم في رأيهم ، ولو تتبعنا الشبهات المانعة من تطبيق عقوبة القطع أو الشروط الواجبة في تطبيقها لوصلنا إلى نتيجة واحدة مفادها تأمين يد السارق ، وإباحة أموال الناس وخصوصاً الأقربين منهم ، وإلغاء عقوبة السرقة تطبيقاً مع النص عليها قانوناً.

نحو تطبيق أمثل لعقوبة القطع .

حاولت أن أتفهم وجهة نظر الفقهاء والاعتذار لهم برغبتهم في الاحتياط لحرمة أطراف الإنسان أن تبتر دون مبررات يقينية لا شبهة فيها ، إلا أن الاحتياط لا يعني بحال من الأحوال الاحتيال لتعطيل العقوبة ، كما أن الاعتذار بالاحتياط ينقضه جراءة بعض الفقهاء على الدعوى إلى قطع أرجل السارق في حالت تكررت منه السرقة ، والقول بتعليق يده المقطوعة في رقبته ، وإصرارهم على تحديد اليد الواجبة القطع باليمنى ، وكل ذلك اعتماداً على اجتهادات ظنية دون مستند قطعي من الوحي في قضية خطيرة كعقوبة القطع ، والأنكى من ذلك قول بعضهم بأن القطع من المرفق وتطرف آخرون ليجعلوه من المنكب ، مع أن لفظ اليد مجرداً عن أي قرائن مصاحبة لا يكون إلا إلى الرسغ كما تدل عليه آية الوضوء والتيمم ، ولو لم يكن ذلك لكان الأولى الاكتفاء بمحل الاتفاق فيما تُطلق عليه اليد وهو الكف فقط .

 - قد كان يكفي الفقهاء حتى لا يغرقوا في بحر التناقضات بين تعطيل الحد والتطرف في تطبيقه أن يلتزموا الشروط التي أشرنا إليها وأوردنا عليها دلائل قوية من ميزان الشرع ومنطق العقل وقانون الحياة معاً ، والتي بها نحفظ حرمة الإنسان في سلامة بدنه وحرمة المجتمع في حفظ أموالهم ، وملخص هذه الشروط أن لا تقام عقوبة القطع إلا على المحترف الذي صارت السرقة صفة راسخة في سلوكه وليست هفوة ، وعلى قدر معين من المال المسروق يتبين به أن الغرض كان الاغتناء وليس سد الحاجة ، وفي ظل مجتمع انقطعت فيه إجمالاً أسباب ودوافع الجريمة المبررة لدى الجاني ، والبدء بعتاولة المجرمين والمعتدين على المال العام حتى ينزجر صغارهم والمعتدين على أموال الأفراد ، وشرط آخر لا بد أن أشير إليه وهو ألا يكون السارق قد تاب إلى الله قبل القدرة عليه ، وليس ذلك قياساً على الحرابة فحسب ، بل لأن صفة السارق الموجبة للعقوبة بما فيها من معنى الثبوت قد زالت عنه ،، والله أعلم .

المعركة بين خطاب القرآن واصطلاحات الفقهاء .

لقد امتثلت لخطاب القرآن في قوله (إنا جعلناه قرآناً عربياً) فعدت إلى لسان العرب لاكتشاف معنى السرقة فحدثني صاحب المقاييس أن السرقة تعني أخذ الشئ في خُفية واستتار ، غير أني سُرعان ما غرقت في اصطلاحات الفقهاء التي تدفقت لتتجاوز كُتب الفقه إلى كُتب المعاجم العربية ، وأصبحت المعاجم كلما تأخرت في التدوين تبتعد من لسان العرب لتقترب من لسان العرب ، والمقارنة الأولية بين معنى السرقة في لسان العرب ومعناها في اصطلاحات الفقهاء يُشعرك حجم المعركة الدائرة في أرض المعاني بين خطاب القرآن واصطلاحات الفقهاء ، و الطامة التي يندى لها الجبين أن تكتسب اصطلاحات الفقهاء كل يوماً أرضاً جديدة على حساب الخطاب القرآني .

 - لو كان الفقهاء اقتصروا على وضع شروط ظرفية لتطبيق عقوبة القطع مراعاة لطبيعة الواقع المحيط بهم لكُنا عذرناهم ، لكن الكارثة أن يجعلها الفقهاء شروطهم جُزءً لا بُد منه في تعريف السرقة وبدونه لا تُسمى سرقة ، فهذا جمعٌ من الفقهاء يُضيف لمعنى السرقة أن يكون مالاً منقولاً ليًُخرجوا العقارات كالبيوت ولم يتوقعوا أن توجد في عصرنا اليوم بيوت يمكن نقلها من مكان إلى آخر ، وجمعً آخر من الفقهاء يُضيف أن يكون معصوماً ليُعفي سارق مال المستأمن ومال الحربي من القطع ولم يتوقعوا أن الشعوب ستتحول من زمن دار الإسلام ودار الكُفر إلى زمن الدولة القائمة على المواطنة المتساوية وسيادة القانون وإلى زمن التعايش والاتفاقيات الدولية وحقوق الأسرى .

 - ولا يتوقف الأمر حتى يأتي جمعٌ آخر من الفقهاء يُضيف للتعريف أن يكون المسروق محرزاً في زمن تحولت فيه سرقة الأثار من البلاد النامية إلى سرقة دولية منظمة وفي زمن الأسواق المفتوحة والتجارة عبر النت والشركات الوهمية ، وجمعٌ آخر من الفقهاء يُضيف أن يكون المال متقوماً ليُعفي من سرق متجر خمر كونه محرماً عند المسلمين في زمن الأيديولوجيات المتصارعة والأقليات غير المسلمة التي تصل إلى الملايين ، وكما أشرت سالفاً قد نقبل أن تكون اشتراطات الفقهاء ظرفية كالقوانين الصادرة عن المجالس النيابية ، لكننا لا نقبل بحال أن تكون جزءً أصيلاً من تعريف السرقة ، لأننا نرى في هذا افتئاتاً على القرآن .

اصطلاحات الفقهاء تبرئ سًراق المال العام  .

إن كثيراً من حوادث الإعتداء على أموال الشعوب العامة والخاصة التي ينطبق عليها المعنى القرآني الذي أشرنا إليه ، تُعفيها اصطلاحات الفقهاء من عقوبة السرقة ، وذلك أن اصطلاحاتهم الحادثة بعد عصر التنزيل أدخلت هذه الحوادث في أبواب أخرى غير باب السرقة كباب ( الاختلاس - أو خيانة الأمانة - أو النهب) ، وأكبر مثال على ذلك الموظف العام المعتدي على المال العام ، والذي وصفه الفقهاء بأنه اختلاس ، وعليه لا قطع عليه ، في زمن دخلت فيه الدولة إلى كل مجالات الحياة وصارت تتحكم في الثروات السيادية ، وعلى الرغم من أن سرقة المال العام غالباً ما يكون في خُفية ، ويزيد عليه المخادعة ، فهو يجمع معنى السرقة وزيادة ، كما أن الاعتداء عليه يفوق بأضعاف مضاعفة في ضرره وكمه الاعتداء على مال فرد .

 - ومثله أموال الجمعيات والمؤسسات الخيرية التي يصنف الفقهاء الاعتداء عليها بخيانة الأمانة لعدم تعيين المالكين وكون الملكية فيها ناقصة على الرغم من كون ذلك أخذ لمال الغير في خُفية وفوقها الخيانة ، وكان الأوجب في هذا أموال الجمعيات وأموال الدولة أن تُبتر يد السارق على فعل السرقة وتضاف عليه عقوبة الخيانة والمخادعة ، أم أنه إذا زادُ الجُرم خفت العقوبة ، أم يكفي أن نقول عظم الله أجر الفقراء والأيتام في ذهاب صدقات المحسنين ، وألف سلامة لأيدي المعتدين والسُراق ، فما يوافق خطاب القرآن ترفضه اصطلاحات الفقهاء ،، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

 

  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 412 مشاهدة
نشرت فى 3 مارس 2014 بواسطة nadder

ساحة النقاش

نادرمحمدالعريقي

nadder
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

21,783