ربما نتساءل لماذا تؤدى ميزة الضربة الأولى إلى الحروب؟. . والإجابة هى ان ميزة الضربة الأولى تجعل الدول تخفى اعتراضاتها وشعورها بالظلم. ففى عالم ينتصر فيه من يمتشق الحسام قبل خصمه، لا معنى لأن تنذر الدولة خصومها بأنهم اذا فعلوا كذا او كيت فسوف تقوم الدولة بالهجوم عليهم الساعة الثانية عشرة لأنه عندما تقول الدولة ذلك سوف ينتهز خصومها الفرصة ويهجمون هم أولا فى الساعة الحادية عشرة !
هناك مثال يعبر عن هذا المعنى : فى الحرب الكورية، تدخلت الولايات المتحدة عام 1950 لرد عدوان كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية، وقد قام قائد القوات الأمريكية الجنرال ماك آرثر بهزيمة قوات كوريا الشمالية بسرعة وجعلها تتراجع الى داخل أراضيها، ثم بدأ بعد ذلك فى مطاردتها شمالا حتى الحدود مع الصين. وكانت المشكلة انه فرق جيشه لكى يتمكن من مطاردة فلول القوات الكورية، وهذا الوضع خلق ميزة ضربة أولى بالنسبة للصين لم تفطن الولايات المتحدة لها!
المشكلة بالنسبة للصين أنها كانت تعتبر تقدم القوات الأمريكية شمالا خطرا على أمنها، وعندما وصلت القوات الأمريكية الى نهر يال أضاءت لمبة الخطر الحمراء فى بكين. ماذا فعل ماو تسى تونج ؟. لم يعلن مخاوفه وشعوره بالخطر بوضوح لأمريكا، لأنه رأى أن بإمكانه استغلال ميزة الضربة الأولى ضدها، وبالتالى فقد اظهر اهتمامه بمحادثات السلام مع واشنطن، وتعمد ان يظهر ضعف الصين العسكرى أمام الولايات المتحدة حتى يستدرجها الى الفخ الذى أعده لها فى الشمال. وكانت هذه الحرب من اهم الهزائم التى نزلت بالولايات المتحدة على الأرض فى تاريخها كله.
لميزة الضربة الأولى أيضا مخاطر أخرى كثيرة تتسبب فى إشعال الحروب فهى تعطى للدبلوماسية فرصة ضئيلة، فالدبلوماسيون يفاوضون بينما العسكريون يضعون أيديهم على الزناد لأنهم يعرفون أن الذى سيضرب أولا سوف يفوز. وكذلك فإن ميزة الضربة الأولى تعطى الدول القليل من الوقت للتفكير، وتجعل الجهود الدبلوماسية مبتورة وعديمة الفائدة.

السبب الثالث: تحولات القوى:
السبب الثالث للحرب هو التغير فى موازين القوي. الدول تعيش حالة دائمة من الصعود والهبوط، ولحظات الصعود والهبوط هذه هى الأكثر خطورة. لماذا؟ الدول الصاعدة التى تزداد قوتها تريد أن تكمل صعودها بأمان .. وبالتالى فهناك احتمال كبير لأن تقوم بضربة وقائية. فى حين تعرف الدول الهابطة أنها سوف تهبط، وتشك فى نية الدول الصاعدة : ماذا سوف يفعلون بنا عندما يزدادون قوة، ونحن نزداد ضعفا ؟ ... الدول الهابطة أيضا يكون عندها شك كبير فى احترام الدول الصاعدة للمعاهدات: هل سيحترمون الاتفاق بعد ان يكتمل صعودهم ؟ . . وقد أشار المستشار الألمانى الشهير بسمارك إلى هذا المعنى عندما قال ان كل المعاهدات تحمل شرطا ضمنيا هو : مع ضمان بقاء الأحوال على ما هى عليه!
التحول فى ميزان القوى ـ أى صعود الدول وهبوطها ـ يخلق فرصا لدول ومخاوف عند دول أخري. وقد أشار المؤرخ اليونانى ثيوسيدس أن أحد الأسباب الأساسية للحرب بين أثينا وإسبرطة هو النمو الهائل لقوة أثينا والخوف الذى سببه هذا النمو عند إسبرطة .
الدول تحب ان تحارب فى وقت يلائمها : الوقت الذى تكون فيه فى قمة قوتها. خصوصا إذا كانت متوقعة بأن الحرب آتية لا محالة. فالدول تختار أن تحارب الآن بدلا من فيما بعد على أساس أنها لا تضمن استمرار قوتها.
الألمان فكروا فى الحرب العالمية الأولى على النحو التالى: الروس يعدون مشروعا لبناء السكك الحديدية وتحديث الجيش، وسينتهى هذا المشروع فى عام 1917. إذا تركناهم حتى ذلك الحين ابتلعونا، فمواردهم اكبر وخصوصا فيما يتعلق بعدد السكان، وهذا المشروع يتيح لهم وقتا لتعبئة كل هذه الموارد ضدنا. لنختبرهم فى أزمة ما نوصلها إلى حافة الهاوية: إذا اختاروا الحرب فمعنى ذلك انهم كانوا يبيتون النية منذ البداية . . وكانت هذه الأزمة هى أزمة يوليو 1914 التى كانت المقدمة للحرب العالمية الأولى!
من ناحية أخري، نرى أن الدول الصاعدة تقوم بإخفاء مشاعرها بالظلم واعتراضاتها حتى يكتمل التحول فى ميزان القوي، خوفا من أن يؤدى إعلانها لهذه الاعتراضات إلى تعرضها لضربة وقائية. إخفاء الاعتراضات يقود بدوره إلى إعاقة الدبلوماسية فكيف يمكن للدبلوماسية مواجهة مشاكل غير معروفة ؟!.
وقد كان هذا بالضبط ما فعله هتلر فى الثلاثينات : أخفى نواياه العدوانية حتى يكتمل التحول فى ميزان القوى لصالح ألمانيا، وتصريحاته فى منتصف الثلاثينات تدل على هذا التوجه فقد كان يقول أن ألمانيا ليس لديها أى نوايا عدوانية تجاه العالم، وكل ما تتمناه من صميم قلبها هو أن تعيش فى عالم يعمه السلام والأمن!.
هذه السياسة التى اتبعها هتلر أدت إلى تأخير قيام حلف مناوئ له لردعه، فالولايات المتحدة أفاقت فقط عندما كان هتلر قد بدأ بالفعل فى تنفيذ مشروعه. وهتلر كان عنده اقتناع بأن الولايات المتحدة لن تدخل الحرب ضده، ولو كان يعرف بأن الولايات المتحدة سوف تدخل الحرب ربما لأعاد التفكير فى مشروعه برمته.
التحول فى موازين القوى يؤدى إذاً إلى تزايد احتمالات وقوع الحرب، فالتحول يخلق الموقف التالى : الدول الصاعدة تريد مزايا اكثر (مثل ألمانيا التى كانت تريد إمبراطورية استعمارية أوسع فى بداية القرن) أما الدول الهابطة فتخشى ان يكون التسليم بمطالب الدول الصاعدة بداية لابتزاز لا ينتهى .
هجوم اليابان على بيرل هاربر لا يمكن تفسيره إلا من خلال فكرة التحول فى ميزان القوى وما تخلقه من فرص ومخاطر : اليابان كانت قد بدأت برنامجا لتحديث أسطولها البحرى فى أواخر الثلاثينات. فى الوقت نفسه كانت الولايات المتحدة تستعد لبرنامج بناء عسكرى شامل يبدأ فى أوائل الأربعينات. ولو انتظرت اليابان فترة أطول لأصبحت فى وضع ضعيف فى مواجهة خصم يفوقها عشر مرات فى مصادر القوة الشاملة خصوصا وأن الولايات المتحدة فرضت عليها حصارا بتروليا، وفى عام 1940 كان تقدير اليابانيين أن مخزونهم البترولى يكفيهم لمدة سنتين فقط ينهار بعدهما كل شيء! . . ولكن ـ وهكذا فكر صقور العسكرية اليابانية ـ إذا استغلت اليابان الفرصة اللحظية التى تتمثل فى تفوقها النسبى فى الباسفيكي، ووجهت ضربة قاضية إلى الأسطول الأمريكى المكشوف فى هاواى لكان لديها فرصة فى الاحتفاظ بمكانتها. وفى غمرة التسرع لاتخاذ قرار توجيه الضربة الأولى لأمريكا لم يناقش العسكريون سؤالا محوريا : هل فى إمكان اليابان مواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا فى حرب طويلة ؟. وقد عرض أحد الضباط اليابانيين الموقف للإمبراطور هيروهيتو على النحو التالى : إن الموقف يشبه حالة المريض الذى اشتد عليه المرض وعليه إجراء عملية جراحية قد تكون خطيرة ولكنها تعطى بعض الأمل فى إنقاذ حياته .
وكل هذا يوافق نظرية التحول فى ميزان القوى : اليابان رأت أمامها نافذة فرصة مفتوحة فبدأت تتحرك هجوميا لأنها كانت تعرف ان التأخير ليس فى صالحها .

المصدر: جمال رشدي - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN14.HTM
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 480 مشاهدة
نشرت فى 13 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

286,903