السبب الرابع : الحصول على الموارد :
وهذا سبب يعتبره الكثيرون من أهم الأسباب التى تقود الى اندلاع الحروب وهو سبب له علاقة برغبة الدولة فى الحصول على الموارد الاقتصادية، وقد ناقشنا فى الفصل السابق رأى لينين الذى كان يرى أن ظاهرة الحرب مرتبطة بالإمبريالية، وبالصراع بين الدول الرأسمالية على حيازة المستعمرات. وقلنا أن هناك الكثير من الاعتراضات على هذا الرأى، ولكن هذا لا يمنع ان السبب الاقتصادى الذى يتلخص فى سعى الدول للحصول على موارد وإمكانيات اكثر لا تتوافر لديها كان وراء اندلاع الكثير من الحروب.
الحصول على الموارد التراكمية هو التعبير العلمى الدقيق الذى يستخدمه علماء الاستراتيجية فى التعبير عن السبب الاقتصادى فى نشوب الحروب. والموارد التراكمية هى تلك الموارد التى عندما تمتلكها الدولة تسهل لها الحصول على موارد جديدة . . كيف يكون هذا ؟ .
فى فترة من الفترات كان الفحم موردا تراكميا، فالحصول على الفحم يمكن الدولة من بناء أساطيل قوية تمكن الدولة من احتلال مناطق أخرى. فى فترة أخرى كانت الأرض الزراعية موردا تراكميا لأن الحصول على مزيد من الأرض الزراعية يعطى الدولة ميزة هامة : ألا تفرض الدول الأخرى عليها حصارا غذائيا. وبعد ذلك صار الحصول على الموارد الصناعية هو الغاية الكبرى للدولة، لأن الموارد الصناعية هى العماد الأول للجيش الحديث. الأرض نفسها كانت ـ ومازالت فى حالات قليلة ـ موردا تراكمياً فالحصول على أراض تعطى الدولة عمقا استراتيجيا يمكنها من الدفاع عن نفسها ضد الغزو. والكثير من العسكريين الإسرائيليين يستخدمون هذا المنطق فى التفكير لتبرير سعى إسرائيل بالتوسع بأنه سعى لما يسمونه بالرغبة بالحصول على حدود آمنة.
والتفكير فى الموارد المتراكمة قاد الدول فى الماضى للغزو : اليابان وألمانيا فى الثلاثينات كانتا تعتقدان انهما تحتاجان إلى إمبراطورية أوسع لأن اقتصادهما يمكن ان يختنق إذا طبق عليهما الأعداء حصارا اقتصاديا، وهتلر قال ذات مرة : أريد الحصول على أوكرانيا ( التى تتمتع بموارد زراعية كبيرة) حتى لا يتمكنوا من تجويعنا كما فعلوا فى الحرب الماضية . أما الولايات المتحدة فكانت ترى إن سيطرة المحور على الموارد الأوروبية هو تهديد مباشر لأمنها، ونفس المنطق كان وراء وقوفها أيام الحرب الباردة فى مواجهة روسيا، فمعنى أن يسيطر الاتحاد السوفيتى على كتلة أوراسية كبرى أن يكون فى موقف يهدد أمريكا تهديدا مباشراً. أى أن الدول قد لا تكون مهتمة بالحصول على الموارد المتراكمة ولكن يهمها ألا يحصل الآخرون عليها، وهذا المنطق قد يتسبب بدوره فى وقوع الحروب على طريقة الأرض المحروقة ، أى تدمير موارد معينة كى لا يستفيد منها الخصم.
ولكن هل مازال للموارد هذه الأهمية التى كانت لها فى الماضى؟ الحقيقة أن الكثير من علماء السياسة يرون أن الموارد لم يعد لها هذه الأهمية التى كانت تحتلها فى الماضي، وأن الحصول على الموارد التراكمية لم يعد من أسباب الحرب. لماذا؟ لأن السلاح النووى غّير قواعد اللعبة كلها. مثلا لم يعد العمق الاستراتيجى شيئا هاما للدولة فى وجود الصواريخ الاستراتيجية ووسائل الإطلاق عبر القارية، وهذه الفكرة تضع علامة استفهام كبيرة على سعى إسرائيل إلى حيازة حدود يمكن الدفاع عنها.
كما أن الاقتصاد الصناعى المتقدم تحول إلى اقتصاد معرفة يعتمد على التكنولوجيا العالية. وهذا النوع من الاقتصاد لا يمكن للغازى أو المستعمر ان يسيطر عليه. فلكى تسيطر على دولة لابد ان تفرض قيودا صارمة على استخدام التكنولوجيا المتقدمة، فأجهزة الكومبيوتر والطابعات يمكن أن تستخدم فى تنظيم المقاومة ضد المستعمر. أى انك لكى تسيطر على دولة ذات اقتصاد متقدم يعتمد على المعرفة لابد ان تدمر العوامل التى تجعل هذا الاقتصاد متقدماً!. والنتيجة ان سيطرتك على دولة ذات اقتصاد عالى التكنولوجيا لن تكون ذات عائد كبير.
وفضلاً عن ذلك فإن القومية أيضا ساهمت فى جعل الغزو غير مجد. القومية ـ كفكرة ظهرت إلى الوجود فى القرن التاسع عشر ـ جعلت استعمار الدول أمرا صعبا، لأنها جعلت البقاء فى الدول المستعمرة وقمع شعوبها عملية اكثر تكلفة مما مضي. إضافة إلى أن ظهور الأسلحة الخفيفة واستخدام تقنيات حرب العصابات جعل مقاومة الشعوب للاستعمار اكثر عنفا وتأثيراً. وبالاختصار فإن الغزو لم يعد اليوم وسيلة فعالة للحصول على الموارد أو لزيادة القوة الوطنية.
السبب الخامس : سهولة الغزو:
السبب الخامس، والأخير، فى ظاهرة الحرب يلخصه علماء الاستراتيجية فى عبارة واحدة : الحرب تكون اكثر احتمالا عندما يكون الغزو سهلاً . وهذه العبارة قد تبدو ساذجة أو بسيطة، ولكنها ـ فى نظر الكثيرين ـ تفسر السبب الأساسى وراء اندلاع الحروب.
فعندما تعتقد الدول ان الغزو سهل، سواء كان ذلك حقيقة أو وهما، فإنها تبادر بالهجوم على أساس أن النصر سوف يكتب للمهاجم وليس للمدافع. وفى عالم الغزو السهل يكون الأمن هشاً للغاية، فالدول تعتقد دائما بأن أمنها فى خطر. والمشكلة هنا ان كل إجراء تتخذه الدولة للدفاع عن نفسها يفسر من جانب الدول الأخرى على انه إجراء يقصد به تعزيز قدراتها الهجومية (معضلة الأمن التى تحدثنا عنها فى الفصل الثانى ). وبالاختصار فإن الدول ترى ـ فى هذا الجو الخطر ـ ان خير وسيلة للدفاع هى الهجوم، وأن الحصول على الأمن غير ممكن ألا عن طريق تهديد أمن الآخرين، وقريب من هذا ما أشار إليه الشاعر القديم وهو يستنهض قبيلته للحرب :
قوموا قياما على أمشاط أرجلكم
ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا !!
فهو يقول لقومه: هبوا إلى الحرب لكى تنالوا الأمن والسلام !. وبسمارك قال ذات مرة بأن الحرب الوقائية) أى تلك الحرب التى تخوضها الدولة عندما تعتقد أنها ستكون معرضة للهجوم إذا لم تأخذ زمام المبادرة) هى الانتحار خوفا من الموت !.
الحرب لا تختلف كثيرا عن الحب : فى الحب يعانى المحب عذاب الشك فى نوايا المحبوب، ويسهر الليل يفكر ما إذا كان حبيبه يبادله نفس الشعور. وفى الحرب يسهر رجال الدولة الليل يفكرون فى نوايا الدول الأخرى : لماذا يبالغون فى بنائهم العسكرى؟... لماذا أعلنوا التعبئة العامة؟: فى الحب لا يمكن ان يتأكد المحب من نوايا المحبوب إلا بالإعلان والمصارحة، فى الحرب ليس هناك مصارحة أو إعلان وإنما سرية وتكتم تزيد من الشك والخوف عند الدول.
فى الحرب العالمية الأولى مثال جيد على هذا المعنى : فى بداية القرن العشرين سادت عقيدة عسكرية واستراتيجية أطلق عليها البعض عبادة الهجوم . ومعنى هذا ان القوى الكبرى فى أوروبا وقتها كانت تعتقد بأن المهاجم سوف يكتب له النصر. فى حين ان الدولة التى تقف فى موقف الدفاع لن تلاقى سوى الهزيمة والهوان.
وعلى هذا الأساس كانت كل الخطط العسكرية خططا هجومية، وأخطر هذه الخطط جميعا كانت خطة شليفن الألمانية. ومكمن الخطورة فى الخطة الألمانية أنها كانت تقوم على مزج بين التعبئة والهجوم فى خطوة واحدة. كانت الخطة تقوم على معادلة بسيطة : إذا أعلنت روسيا التعبئة، تقوم ألمانيا بالهجوم على بلجيكا وفرنسا ! والسبب ان ألمانيا كانت معتقدة بأنها ما ان تتورط فى حرب مع روسيا حتى تسارع فرنسا إلى الهجوم عليها من الجبهة الغربية لاسترداد الالزاس واللورين التى سلبها الألمان فى عام1870.
هذه الخطة وضعت تقريبا قبل خمس سنوات من نشوب الحرب العالمية الأولي، وكانت سرا من أسرار الدولة إلى درجة أن المستشار الألمانى والقيصر لم يكونا على علم بأن الخطة تمزج بين التعبئة والهجوم فى خطوة واحدة.
وعندما نشبت أزمة يوليو 1914 باغتيال الارشيدوق النمساوى على يد الصرب، كان الرد الروسى هو إعلان التعبئة العامة. لماذا ؟ روسيا كانت تفكر بنفس الطريقة : فى عالم الأمن فيه ضعيف لا يمكن أن نترك النمسا تلتهم صربيا لأن ذلك معناه أن يهددنا الألمان ـ حلفاء النمسا ـ فى عقر دارنا.
ما الذى حدث بعد إعلان روسيا التعبئة ؟ ... انتهت الجهود الدبلوماسية التى كان يمكن ان تسفر عن حل للأزمة إذا توافر المزيد من الوقت. وبدأ تنفيذ الخطة الألمانية على الفور بالهجوم على فرنسا وبلجيكا. مما اجبر بريطانيا على دخول الحرب لأنها تعتبر ـ عبر التاريخ ـ ان الهجوم على بلجيكا تهديد مباشر لأمنها. إنها سلسلة متوالية من التخبط الذى ينتج عن الشك والسرية والاعتقاد بأن النصر سوف يكون حليف المهاجم ، فبريطانيا لو كانت تعلم بالخطة الألمانية لمارست ضغوطا على روسيا حتى لا تعلن التعبئة العامة. أو لأظهرت لألمانيا إنها سوف تدخل الحرب إذا قامت ألمانيا بغزو بلجيكا. وفى هذه الحالة فإن ألمانيا كانت سوف تفكر مرتين قبل أن تمضى فى خطتها لاحتلال بلجيكا.
المصدر: جمال رشدي - موسوعة الشباب السياسية
http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN14.HTM
نشرت فى 13 أكتوبر 2011
بواسطة mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
286,885
ساحة النقاش