الحقيقة إن الحرب قد صارت مستبعدة فى مناطق معينة من العالم. وبالتحديد ففى أوروبا والأمريكتين قلت كثيرا احتمالات الحرب الشاملة. وقد أشرنا من قبل إلى مفكرين وخبراء ممن يعزون ذلك إلى الالتزام بالديمقراطية. فى حين يشيرون إلى إنه فى الدول الشمولية، حيث تسيطر مجموعة صغيرة، او فرد واحد فى حالات كثيرة على كل شيء، تكون احتمالات الحرب اكبر.
فالحاكم الفرد يسعى دوما إلى اكتساب الشرعية عن طريق الانخراط فى صراعات خارجية توجه اهتمام مواطنيه وحماسهم إلى الخارج لينسوا بؤس حالهم فى الداخل. والحاكم الفرد الذى يرتكب الكثير من الجرائم فى حق شعبه دون أن يحاسبه أحد يظن أن فى إمكانه القيام بمغامرات خارجية دون أن يتعرض لعقاب.
وليس صدفة أن أكثر المناطق معاناة من ويلات الحروب فى العالم كله (أفريقيا والشرق الأوسط) هى المناطق التى ما زال يسيطر على السلطة فيها أنظمة غير ديمقراطية .
وعلى العكس ففى المناطق التى أحرزت فيها الديمقراطية انتصارات حاسمة صارت الحرب مستبعدة تماما. وليس معنى ذلك إن فكرة الصراع الدولى انتهت تماما فى هذه المناطق. ولكن الصراع صار يدور بوسائل مختلفة ليس من بينها الوسائل العسكرية .
وعلى سبيل المثال، فقد رأينا إن المشكلة الألمانية كانت أحد الأسباب الرئيسية فى الحروب الطاحنة التى اعتصرت القارة الأوروبية فى القرن العشرين. ورأينا كيف أصرت فرنسا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى على معاقبة ألمانيا وإضعافها حتى لا تكرر عدوانها، وكيف أصر الحلفاء على تقسيم ألمانيا حتى لا تتكرر مغامرات هتلر.
وهناك مشكلة قديمة فى التوازن الأوروبى تتعلق بالعدد الأنسب للدول التى تتحدث الألمانية. وقد رأينا أنها كانت 37 دولة فى وقت مؤتمر فيينا عام 1815 ثم وحدها بسمارك ولكنه كان مقتنعا بأهمية أن توجد دولتان تتحدثان الألمانية فلم يكن يريد للنمساويين أن يشتركوا فى الإمبراطورية الألمانية الجديدة خشية التأثير على سيطرة بروسيا على الدولة الجديدة. أما هتلر فقد كان يرى ضرورة وجود ألمانيا واحدة تكون قلبا لامبراطورية عالمية. وفى أعقاب الحرب الثانية سئل دبلوماسى فرنسى عن العدد الأمثل للدول الألمانية من وجهة نظره فأجاب : أنا احب ألمانيا جدا، وكلما زاد عدد الدول الألمانية كلما كان ذلك افضل ! .
وعندما توحدت ألمانيا ثانية بعد نهاية الحرب الباردة فى عام 1990، أعاد ذلك إلى الاذهان بعض المخاوف عن التوازن الأوروبي، واحتج وزير الخارجية السوفيتى ادوارد شيفرنادزة بأن اعادة توحيد ألمانيا سيؤدى بالاخلال بتوازن القوى فى أوروبا . ولكن لم تشر استطلاعات الرأى إلى قلق الشعب الفرنسى من هذا التوحيد. على العكس، فان أى رجل دولة فرنسى يقيم سياسته على اساس منع توحيد ألمانيا كان سيرفض فى داخل فرنسا نفسها نتيجة للروابط الكبيرة إلى صارت تربط بين الاقتصاد فى البلدين بحيث إن قوة الاقتصاد الألمانى تؤدى إلى رفاهية فى فرنسا، والعكس صحيح . وهذا هو ما يشار إليه بالاعتماد المتبادل .
لقد صارت هناك منافذ كثيرة يمكن أن تحقق الدولة من خلالها قوتها بخلاف الوسيلة العسكرية. وقد صرح أحد الدبلوماسيين الكنديين ذات مرة بأنه لا يخشى أن تتحرك الولايات المتحدة بقواتها لتغزو تورنتو كما فعلت فى عام 1813. ولكنه يخشى أن يتم برمجة تورنتو بأجهزة كومبيوتر من ولاية تكساس. وهذه رؤية مختلفة للأمن والقوة تختلف عن المعضلة الأمنية التى تحدثنا عنها فى الفصل الثانى .
والأكثر من هذا كله فإن اللاعبين على المسرح العالمى لم يعودوا الدول فحسب، فهناك الشركات متعددة الجنسية التى صارت تتحكم فى مصادر اقتصادية تفوق بعض الدول. وعلى سبيل المثال، فإن هناك 12 شركة متعددة الجنسية يتجاوز اجمالى مبيعاتها الناتج القومى الاجمالى لأكثر من نصف دول العالم. ومبيعات شركة مثل شل او أي. بي. ام اعلى من الناتج القومى لدول مثل النرويج وبلجيكا، واليونان وتركيا .
وغير الشركات متعددة الجنسية هناك المنظمات غير الحكومية، مثل منظمات حقوق الانسان التى صارت طرفا مهما فى قضايا كثيرة تتعلق بالصراع الدولي. وهناك المنظمات الإرهابية التى أثبتت، بعد الهجوم الذى دبرته منظمة القاعدة على برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك فى 11 سبتمبر 2001، أنها قادرة على تسخير الأدوات التكنولوجية ومنجزات ثورة المعلومات فى إحداث قدر هائل من التدمير والخراب.
كل هذه العوامل جعلت الدولة لاعبا بين لاعبين كثيرين فى العالم المعاصر. أى أن اللاعبين تغيروا وكذلك أسلوب اللعب !
وعلى الرغم من ذلك فإن ظاهرة الصراع المسلح لم تنته، وإن أخذت أشكالا أخرى. وقد أشرنا من قبل إلى خطورة تصاعد العنف العرقى والدينى فى العقد الأخير من القرن العشرين. وأن هذا العنف صار يمارس فى شكل حروب محدودة التى صارت تمثل الصورة الغالبة للحرب فى هذا العصر .
هذه الحروب المحدودة التى تدور غالبا فى أطراف العالم، وفى الأجزاء الأقل تطورا منه التى يقطنها 80% من البشر، حلت محل الحروب الشاملة التى كان مسرحها الأساسى من قبل هو القارة الأوروبية. وخطورة هذه النوعية من الحروب أنها تدور فى اغلب الأحوال حول قضايا غير ملموسة وينطبق عليها ما ذكرناه سلفا بخصوص صراع الأفكار . وفى هذه الحالة فإن الحرب لا تصبح وسيلة من وسائل السياسة كما قال كلاوزوفيتس، وانما تصبح هدفا فى حد ذاتها.
والخلاصة من كل هذا، أن الصراع الدولى لم ينته، وإنما اخذ أشكالا غير الصورة العسكرية فى أجزاء العالم المتقدم (أوروبا وأمريكا ). فى حين ظلت الوسيلة العسكرية هى الوسيلة الأساسية لحسم الصراعات فى مناطق أخرى (أفريقيا والشرق الأوسط وبعض أجزاء آسيا التى تعتبر الحرب فيها مستبعدة ولكن محتملة الحدوث) .
وبنهاية القرن العشرين ما زال الكثيرون يحملون أمنيات بأن يكون القرن الجديد فاتحة لعالم جديد لا تصبغه دماء ضحايا الحروب والصراعات . ولكن يبدو أن الطريق ما زال طويلا أمام الإنسان لكى يتعلم أن العدو الحقيقى ينبع من داخله، ومن شكه فى الآخرين وخوفه منهم وكراهيته لهم ورغبته فى السيطرة عليهم!

المصدر: جمال رشدي - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN15.HTM
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 209 مشاهدة
نشرت فى 13 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

286,883