يعتبر تراجع دور الدولة فى الاقتصاد من الأسباب التى زادت من معاناة الطبقات الوسطى والفقيرة فى معظم دول العالم، لأن عمليات الخصخصة التى أصبحت السمة الرئيسية لمعظم اقتصادات الدول المتقدمة والعديد من الدول النامية قد أدت إلى فقد الآلاف من الوظائف.

من ناحية ثانية، فإن تراجع دور الدولة الاقتصادى ارتبط بتخفيض بعض الدول لبرامج الضمان الاجتماعى وإعانات البطالة، نتيجة لتناقص الموارد الحكومية، وللأعباء الكبيرة التى تفرضها المنافسة العالمية على الإنفاق الحكومى.

2 -
التفاوت بين الدول:
إذا كانت سياسات العولمة ترتبط بوجود فجوة كبيرة بين أقلية شديدة الثراء وأغلبية فقيرة داخل الدول، فإن الوضع بين الدول وبعضها البعض أسوأ بكثير.
فأخبار الصحف ووسائل الإعلام، تطالعنا يوميا فى آن واحد بأخبار المجاعات والحروب الأهلية والأمراض فى أفريقيا، جنبا إلى جنب مع أخبار مشاهير الأثرياء فى العالم.
فالدول الغربية المتقدمة تحتل مواقع الصدارة فى معظم مجالات الحياة من اقتصاد، وسياسة، وثقافة، وتكنولوجيا، ولذلك فهى تجنى بصورة أكبر ثمار العولمة فى هذه المجالات. ومن هنا يعادى البعض العولمة باعتبارها أداة الدول الغربية للسيطرة على العالم، بشكل غير مباشر، بعد انتهاء عصر السيطرة المباشرة عن طريق الاستعمار.
وإن كان تشبيه عصر العولمة بالاستعمار الجديد هو من قبيل المبالغة، فإنه يوجد بالفعل تفاوت رهيب بين الدول الغنية والدول الفقيرة. فهناك رقعة كبيرة من العالم تقع خارج نطاق التقدم، أى خارج نطاق العولمة. فحوالى مليارى نسمة أو حوالى ربع سكان الأرض يعيشون تحت خط الفقر، على دخل يومى يقل عن 2 دولار. وإذا كان متوسط الدخل فى الولايات المتحدة عام 1977 كان يفوق متوسط الدخل فى الدول الأكثر فقرا بحوالى 40 مرة، فقد ارتفع هذا الفارق الآن إلى حوالى 80 مرة.
وتعانى الدول النامية والدول الفقيرة من صعوبات كبيرة تواجه سياسات التنمية فيها فى عصر العولمة، لأن جوهر العولمة فى المجال الاقتصادى هو فتح باب المنافسة بين الدول المتقدمة والدول النامية، مع حرمان الدول النامية من معظم الأسلحة التى كانت تحمى بها مصالحها. فالدول النامية فى عصر العولمة مضطرة لفتح أسواقها أمام منتجات تلك الشركات فى ظل تحرير التجارة، وهى فى نفس الوقت ممنوعة من تقديم الدعم أو المساندة لصناعاتها الوطنية لكى تتمكن من منافسة المنتجين الكبار. فالمنافسة بهذا المنطق هى مصارعة بين عملاق وقزم، ولذلك يرى العديد من خبراء الاقتصاد خاصة من دول العالم الثالث أن البلاد التى تتمتع باقتصاد متقدم مدعوم بتطور تكنولوجى هى التى يمكن أن تستفيد من الفرص التى تتيحها العولمة، من حرية انتقال رأس المال وفتح الأسواق.
وتنتمى معظم الشركات العالمية العملاقة للدول الصناعية المتقدمة ، حيث تضم خمس دول فقط هى الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، حوالى 172 شركة من أصل أكبر 200 شركة عملاقة تسيطر على الاقتصاد العالمى.
وتمتلك الدول المتقدمة وشركاتها العملاقة الخبرة الأسبق، والتكنولوجيا الأحدث. وتنفق الشركات العالمية العملاقة حوالى 500 مليار دولار سنويا على البحوث من أجل تطوير منتجاتها وتلبية احتياجات الأسواق والمستهلكين، لأن التطوير المستمر للمنتجات يعمل تلقائيا على حماية مكانة الشركة المنتجة، ووضعها المتميز، ومبيعاتها فى الأسواق العالمية.
وفى الوقت الذى تلهث فيه الصناعات فى دول العالم الثالث وراء استيراد التكنولوجيا المتقدمة لتحسين جودة منتجاتها، فرضت اتفاقية الجات أعباء جديدة على عملية نقل التكنولوجيا المتطورة إلى دول العالم الثالث تحت إسم حقوق الملكية الفكرية. وتعنى حقوق الملكية الفكرية بشكل عام أن الأفكار، الاختراعات، التكنولوجيا، الموسيقى، والفن، كلها أصبحت سلعاً لها ثمنها، ويجب على من يريد الاستفادة بها دفع الثمن لصاحب حق الملكية الفكرية. وبما أن معظم دول العالم الثالث هى مستورد صاف للتكنولوجيا المتقدمة، فإن تطبيق قواعد الملكية الفكرية يضع مزيدا من الأعباء على عملية انتقال التكنولوجيا المتقدمة إليها، ويزيد من تفوق الدول المتقدمة.
ومن مجالات المنافسة الصعبة التى فرضت على دول العالم الثالث فى إطار تحرير التجارة، هى المنافسة فى مجال الخدمات المالية والاقتصادية. فقد اتفقت الدول المشاركة فى الجات عام 1997 على بدء تحرير التجارة العالمية فى مجال الخدمات مثل التأمين والاتصال والخدمات البنكية، بمعنى أن أى فرد أو شركة أو مؤسسة سوف يستطيع استثمار مدخراته فى البنوك الأجنبية إذا كانت تعطى سعرا أعلى للفائدة، والتأمين على نفسه وممتلكاته، إذا كانت شركات التأمين الأجنبية تعطيه مزايا أفضل. ولذلك فمن المتوقع أن تواجه الشركات الوطنية التى تقدم تلك الخدمات منافسة ضارية من الشركات الأجنبية.
وإلى جانب كل تلك العوامل الموضوعية التى تشيع المخاوف من العولمة فى دول العالم الثالث، فإن البعد النفسى يضيف إلى المخاوف التقليدية من مخاطر العولمة، مخاوف مضاعفة من المجهول. فمعارضو العولمة فى العالم المتقدم يتظاهرون ضد واقع يعيشونه، أما الخوف من العولمة فى دول العالم الثالث، فهو إلى جانب أسبابه الموضوعية، فهو محمل بأبعاد نفسية أهمها الخوف من المجهول، الذى يأتى إلينا من الخارج ولا ندرى إلى أين يقود، وهل من سبيل للسيطرة عليه؟

3-
بين المنافسة والاحتكار:
إن نظام العولمة الاقتصادية الذى يعتمد على فكرة المنافسة المستمرة، ومبدأ البقاء للأصلح، يتحول فى الواقع العملى إلى قبول منطق البقاء للأقوى، لأن المنافسة لا تتم عادة بين أفراد ودول وشركات متساوين فى القدرات. وبالتالى، يكون الفوز شبه مؤكد للقادر الذى يجنى كل الأرباح.
ويتجه اقتصاد العولمة إلى تركيز القوة والثروة العالمية فى عدد محدود من الكيانات الاقتصادية العملاقة. فالشركات ومؤسسات الأعمال العالمية الكبرى تتجه باستمرار إلى الاندماج والتحالف مع بعضها البعض لتشكل تكتلات عملاقة أكثر قدرة على المنافسة فى الأسواق العالمية.
وتعرف ظاهرة اندماج الشركات الكبرى، وشراء أو حيازة الشركات الكبرى للمنافسين الصغار فى الاقتصاد العالمى بظاهرة الاندماج/ الحيازة Mergers/Acqisition. وتشكل ظاهرة اندماج الشركات والمصارف واحدة من أبرز سمات العولمة الاقتصادية. وقد برزت ظاهرة الاندماجات بين الشركات الصناعية الكبرى والمصارف،وشركات الأدوية، والشركات العاملة فى مجال الصحافة والترفيه والإعلان بشكل كبير فى السنوات العشر الأخيرة.
ففى الربع الأول فقط من عام 1999، تمت حوالى 2500 عملية اندماج تقدر قيمتها بحوالى 411 مليار دولار. من أمثلة عمليات شراء المنافسين الصغار على سبيل المثال، هو اختفاء عدد من شركات إنتاج السيارات مثل سكودا التى اشترتها فولكس فاجن. ومن أهم عمليات الاندماج والتحالف بين عملاقين متقاربى القوة الاندماج بين العملاقين الألمانى والأمريكى فى صناعة السيارات (ديملر-كرايسلر)، كما تم اندماج أكبر ثلاث بنوك يابانية لتشكل شركة قابضة عملاقة.
ويقدر بعض الباحثين أن هناك حوالى خمس عشرة شبكة اقتصادية عالمية مندمجة تتمتع بالسيطرة الفعلية على الاقتصاد العالمى. معنى هذه الاندماجات وغيرها، إن جوهر فكر المنافسة التى ينبنى عليها منطق عولمة الاقتصاد، وأهمها الكفاءة الاقتصادية والبقاء للأصلح، فى خطر، لأن الاندماج يحول المنافسة إلى منافسة احتكارية، فهو يخلق أسماك كبيرة تستطيع ابتلاع الأسماك الصغيرة فى السوق العالمى للمنافسة، الأمر الذى يأتى بالضرورة على حساب المنتجين الصغار، الدول النامية، والمستهلك فى كل مكان.
ومن الأمثلة التى نلمسها فى حياتنا اليومية، والتى تبين صعوبات المنافسة فى الأسواق بين المؤسسات الكبرى والمنافسين الصغار، هى ظاهرة التوسع فى سلاسل السوبر ماركت العملاقة، وانصراف الكثير من الزبائن إليها على حساب محلات البقالة الصغيرة. فالسوبر ماركت العملاق يستطيع تقديم عدد هائل من السلع والتسهيلات، وأساليب العرض المبهرة، التى لا تتوافر لمحل البقالة الصغير. ومع الوقت تصبح هذه المحلات الصغيرة معرضة للاندثار، إذا لم تبذل جهودا جبارة لتحسين خدماتها والدفاع عن وجودها.

 

 

المصدر: أ/ هناء عبيد - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/YOUN57.HTM
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 367 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

286,904