أثر الفقه وأصوله في الدرس النحوي العربي
الشارف لطروش
جامعة مستغانم
أورد العلماء روايات مختلفة متباينة حول نشأة النحو العربي (فمن قائل إن عليا بن أبي طالب هو الذي أرشد أبا الأسود ولقنه مبادئ النحو، ومن زاعم أنه ألقى إليه أصولا فاحتذى عليها أو نحا نحوها... ومن قائل إن أبا الأسود هو صاحب الفكرة، وإن زياد بن أبيه لم يأذن له بتنفيذها بادئ الأمر ثم غير رأيه وأمره بالتنفيذ... ومن منكر لكل ذلك زاعم أن طبيعة العصر، عصر علي وأبي الأسود، طبيعة بدائية لا تهيئ لأصحابها أن يؤلفوا ويقسموا ويضعوا القواعد والأصول)(1). ويرى أحمد أمين (ت 1954 م) أن تاريخ نشأة النحو العربي يشوبه كثير من الغموض حيث يقول: (تاريخ النحو في منشئه غامض كل الغموض، فإنا نرى فجأة كتابا ضخما هو كتاب سيبويه ولا نرى قبله ما يصح أن يكون نواة تبين ما هو سنة طبيعية من نشوء وارتقاء وكل ما ذكروه من هذا القبيل لا يشفي الغليل)(2). وأما عن أسباب وضع النحــو فيرى ابن خلدون (ت 808 هـ - 1406 م) أنها تتلخص في الخشية من ذهاب ملكة اللغة إذ يقول: (وأول من كتب فيها - يعني قواعد النحو - أبو الأسود الدؤلي، ويقال بإشارة من علي - رضي الله عنه - لأنه رأى تغير الملكة، فأشار عليه بحفظها، ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة ثم كتب فيها الناس من بعده... وكان الناس أحوج إليها لذهاب الملكة من العرب فهذب الصناعة وكمل أبوابها)(3).
والثابت تاريخيا أن علم النحو نشأ بسيطا واستغرق وقتا معتبرا حتى بلغ مرحلة النضج والكمال، و(لم يكتب له النماء الذي نراه الآن والتفرغ في البحث والاحتجاج القوي والقياس الدقيق والنظر الثاقب والتعليل البارع إلا في القرن الرابع الهجري وما تلاه من قرون، إذ بعد هذا القرن أزهر عصور الابتكار في تأليف النحو واللغة)(4)، وقد نشا عن تطور هذا النحو وكثرة مسائله ظهور علم أصول النحو، وكان من أوائل من كتبوا فيه أبو بكر محمد بن السراج (ت 316 هـ - 929 م) الذي ألف فيه كتابا أسماه: أصول النحو الكبير والصغير، وأبو القاسم الزجاجي (ت 337 هـ)، صاحب كتاب الإيضاح في علل النحو، وابن جني (ت 392 هـ) وله فيه الخصائص، وابن الأنباري أبو البركات (ت 577 هـ) الذي ألف فيه كتابين هما: لمع الأدلة، والإغراب في جدل الإعراب.
أثر العلوم الإسلامية في الدرس النحوي العربي:
تأثر الدرس النحوي العربي بعدة علوم إسلامية منها: القراءات القرآنية وعلم الحديث وعلم الكلام والفقه وأصوله وغيرها، وقد كان النحو العربي وثيق الصلة بالقرآن الكريم، بل إن القرآن كان مفجر الدراسات اللغوية، فكان أول المصادر التي استقى منها النحويون شواهدهم، واعتمدوا عليها في تقرير القواعد الصرفية والأحكام النحوية، ويقول الراغب الأصفهاني (ت 502 هـ)، في هذا الصدد: (وألفاظ القرآن الكريم هي لب كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم)(5).
ويذهب محمود سليمان ياقوت إلى تأكيد قول الأصفهاني، مبينا مسوغات لجوء النحويين إلى القرآن الكريم قائلا: (وقد أخذ النحويون بالشاهد القرآني بلا أدنى خلاف بينهم لأنه من لدن حكيم، وهو في أعلى درجات الفصاحة عندهم، ويمثل العربية الأصيلة والأساليب العالية الرفيعة، وهو أبلغ كلام نزل، وأوثق نص وصل)(6). وأما استفادة النحاة من القراءات القرآنية فتمثلت في أن تلكم القراءات عملت على إثراء قضايا النحو العربي، وفك مسائله المستعصية لأن (القراءات القرآنية أوثق وأصح متنا وسندا، ولذلك استند إليها النحاة في تقعيد الأصول وضبط كثير من الفروع، وقد أكسبت اللغة مرونة واتساعا، فالقراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها)(7).
ومما يدلنا على أن النحو نشأ متأثرا بالقراءات القرآنية(8) أن القراء من تلاميذ أبي الأسود الدؤلي أمثال يحي بن يعمر (ت 129 أو 132 هـ)، وعنبسة الفيل المتوفى حوالي 100 هـ، وميمون الأقرن، ونصر بن عاصم (ت 89 أو 96 هـ)، وعبد الرحمن بن هرمز (ت 117 هـ)، كانت لهمم الملاحظات الأولى في النحو، بل إن بعض الروايات نسبت إلى بعضهم أولية وضع النحو.
وكذلك يبدو تأثر النحويين واللغويين بعلم الحديث واضحا في استخدامهم لكثير من مصطلحاته(9). من أمثال: الجرح والتعديل، السفه، الكذب، الغفلة، الشذوذ، التصحيف، التحريف، الغريب، المستدرك، المستخرج، السماع، الإجازة، وغيرها. وقد أشار السيوطي (ت 1505 م) في مقدمة المزهر في علوم اللغة وأنواعها إلى أنه اتبع فيه ترتيب المحدثين فقال: (هذا علم شريف ابتكرت ترتيبه واخترعت تنويعه وتبوبه في علوم اللغة وأنواعها، وشروط أدائها وسماعها، حاكيت به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع)(10).
وتأثر النحو العربي وأصوله بعلم الكلام الذي سبقه في الظهور (ومن طبيعة الأشياء أن يتأثر جديدها بقديمها فكيف إذا كان ذلك القديم محوطا بالقداسة والإجلال كعلوم الدين، أو محوطا بالإعجاب والتقدير والحماسة كعلم الكلام)(11).
ومن مظاهر تأثير علم الكلام في أصول النحو وجود مصطلحات مثل (الدور والمنزلة بين المنزلتين، وترافع الحكام، والحكم الطارئ، والسبر والتقسيم، والمعارضة، التناقض، والتعارض، والاستدلال، والعكس، والدفع، والمنع، وغيرها)(12).
أثر الفقه وأصوله في النحو العربي:
كان ظهور علم أصول متقدما على نشأة النحو وأصوله، ودليلنا على ذلك (أن المؤلفات النحوية التي اهتمت بالتفريع وقياس الفرع على الأصل، والأشباه والنظائر، وبيان العلل، هذه المؤلفات كلها كتبها أصحابها بعد زمن الأئمة الأربعة... هؤلاء الأئمة الذين وضعوا علم أصول الفقه وأرسوا قواعده، وهذا يظهر لنا بجلاء أن علم أصول الفقه سبق النحو وأصوله، ومن ثم كان الأول هو المؤثر في الثاني وليس العكس)(13).
ويذكر أبو البركات بن الأنباري في مقدمة كتابه "لمع الأدلة" أن علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو يعرف بهما القياس وتركيبه وأقسامه، من قياس العلم وقياس الشبه وقياس الطرد، على غير ذلك على حد أصول الفقه، فإن بينهما من المناسبة ما لا خفاء به، لأن النحو معقول من منقول، كما أن الفقه معقول من منقول(14). ومن أوجه الشبه بين الإعراب والفقه ظاهرة الخروج عن الاطراد والتي تدل على تأثر النحو بالفقه، التي يقول عنها أبو القاسم الزجاجي (ت 337 هـ): (الأصل في الإعراب أن يكون حركة، ولكن قد يخرج عن هذا الاطراد فيكون حرفا، وهذا الخروج عن الأصل ليس في النحو فقط ولكنه موجود في سائر العلوم الأخرى)(15).
ويمكن لنا أن نتبين أثر الفقه وأصوله في النحو العربي وأصوله في النواحي الآتية: في المصطلحات، في المنهج، وفي التداخل بين العلمين.
1 - إن أغلب مصطلحات النحو وأصوله مأخوذة عن مصطلحات الفقه وأصوله، ومنها المصطلحات الآتية:
- النسخ: وهو عند الأصوليين الفقهاء (إبطال العمل بالحكم الشرعي بدليل متراخ عنه، يدل على إبطاله صراحة أو ضمنا... أو هو إظهار دليل لاحق نسخ ضمنيا العمل بدليل سابق)(16). ويظهر النسخ عند النحويين في عمل كان وأخواتها، وظن وأخواتها، وقد تدخل على المبتدأ والخبر فتغير من حكمهما، وتلك الأفعال نواسخ والعملية نسخ.
- التعليق: في أصول الفقه المرأة المعلقة هي الأرملة التي فقدت زوجها، أو المطلقة ولم تستوف عدة النكاح، فلا هي متزوجة ولا هي تستطيع تزويج نفسها، فهي معلقة(17)، وفي هذا النوع من الحالات قال تعالى: (فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)(18).
وأما التعليق عند النحويين فهو (بحث يتعلق بظن وأخواتها، وهو ترك عملها أي عدم مباشرتها للمفعولين لفظا ومعنى، وذلك إذا وقع أحد هذه الأفعال قبل شيء له الصدر، وذلك أن يقع قبل ما النافية... أي قبل قسم ملفوظ أو مقدر... أو قبل لا الابتداء، أو لام جواب القسم... أو وقع قبل استفهام... وقد سمي هذا الإلغاء اللفظي لا المحلي تعليقا تشبيها للفعل بالمرأة المعلقة التي هي مطلقة ولا مزوجة)(19).
- التعدية: وهو من مصطلحات الأصوليين الفقهاء يستخدمونه (عند إثبات حكم مثل حكم الأصل في الفروع)(20)، وأما النحاة فيعنون بالتعدية (جعل الفعل اللازم متعديا أو المتعدي إلى واحد متعديا إلى اثنين والمتعدي إلى اثنين متعديا إلى ثلاثة)(21).
وأخذ النحويون من علم الفقه وأصوله مصطلحات لا حصر لها منها: القياس، العلة، الابتداء، الكناية، الظاهر، الشرط، اللغو، الحال، الإجماع، الاستنباط، قياس الطرد وقياس الشيء وقياس العلة، والقياس الجلي والخفي، والمصطلحات الخاصة بالعلة وأنواعها، وغيرها(22).
2 - يظهر تأثر النحويين في مناهجهم بمناهج الفقهاء في الشواهد والأقوال الآتية: يشير ابن جني (ت 1002 م) إلى أثر منهج أصول الفقه على منهجه في كتابه الخصائص حيث يقول: (لم أر أحدا من علماء البلدين - يقصد البصرة والكوفة - تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه)(23).
ويقر ابن الأنباري بتأثره بمناهج الفقهاء في تأليفه لكتابه الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين حيث يقول: (إن جماعة من الفقهاء المتأدبين والأدباء المتفقهين المشتغلين بعلم العربية بالمدرسة النظامية - عمر الله مبانيها - سألوني أن ألخص لهم كتابا لطيفا يشمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحوي البصرة والكوفة على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة)(24).
ومن مظاهر تأثر علماء العربية بمنهج الفقهاء اعتمادهم الأحكام العامة التي ساروا عليها في إقرار القواعد، وفي هذا الأمر يقول سعيد الأفغاني: (كان لهم طرازهم في بناء القواعد على السماع والقياس والإجماع كما بنى الفقهاء أحكامهم على السماع والقياس والإجماع، وذلك اثر من آثار العلوم الدينية في علوم اللغة)(25). ويؤكد مازن المبارك على وجود الشبه والتأثر بين النحويين والفقهاء من ناحية المناهج بقوله: (وأما وجود الشبه بين النحوي والفقيه فقد يكون في أن الفقيه يتلقى الحديث من المحدثين فيتصرف فيه تعليلا واستنباطا وقياسا، وأن النحوي كذلك يتلقى اللغة عن أهلها ويتصرف بها تصرف الفقيه في الحديث)(26).
3 - ومن المؤلفات التي مزجت بين الفقه وأمور الدين نجد: معاني القرآن للفراء (ت 822 م)، ومجاز القرآن للأخفش (ت 830 م)، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة (ت 276 هـ). وقد نقل عن ثمامة بن أشرس (ت 213 هـ) - المتكلم المعتزلي - قوله عن الفراء: (جلست إليه وفاتشته عن اللغة فوجدته بحرا، وعن النحو فشاهدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدته فقيها عارفا باختلاف القوم)(27). ومن أمثلة من جمعوا بين النحو الفقه والكلام في مؤلفاتهم السيرافي الذي (كان نحويا بارعا، وكان معتزليا من أكابر أصحاب الجبائي، ثم إنه ظل يفتي الناس خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما عثر له على خطأ)(28).
ويروى عن الفراء أنه قال له أحدهم: يا أبا زكريا أريد أن أسألك في الفقه؟ فقال سل، فقال: ما تقول في رجل سها في سجدتي السهو؟ فقال: لا شيء عليه، قال: من أين قلت ذلك؟ قال: قسته على مذاهبنا في العربية، وذلك أن المصغر لا يصغر، وكذلك لا يلتفت إلى السهو في السهو(29).
ومن أثر الفقه في فكر النحويين ما نجده عند الزجاجي الذي تأثر كثيرا بأقوال الفقهاء واستعمل ألفاظهم وتعبيراتهم، بل قاس على بعض مسائلهم، ومن ذلك قوله في التعليل لمسالة الخروج عن القاعدة: (وقد ذكرنا أن الشيء يكون له أصل يلزمه، ونحو يطرد فيه، ثم يعترض لبعضه علة تخرجه عن جمهور بابه فلا يكون ذلك ناقصا للباب... وذلك موجود في سائر العلوم حتى علوم الديانات، كما يقال بالإطلاق الصلاة واجبة على البالغين من الرجال والنساء، ثم تجد منهم من تلحقه علة تسقط عنها قرضه، وكما يقال من سرق من حرز قطع، وقد نجد القطع ساقطا عن بعضهم)(30).
الهوامش:
1 - مازن المبارك: النحو العربي، دار الفكر، ط. 3، بيروت 1981، ص 7.
2 - أحمد أمين: ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي، ط. 10، بيروت، (د. ت)، ج 2، ص 285.
3 - عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة، مطبعة عبد الرحمن محمد، القاهرة، (د. ت)، ص 410.
4 - أحمد سليمان ياقوت: ظاهرة الإعراب في النحو العربي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1983، ص 156.
5 - الراغب الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن، تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، (د. ت)، ص 6.
6 - محمود سليمان ياقوت: مصادر التراث النحوي، كلية الآداب، جامعة طنطا، 2003، ص 74.
7 - ابن الجزري: النشر في القراءات العشر، تصحيح ومراجعة محمد الصباغ، منشورات دار الفكر، (د. ت)، ج 1، ص 09 - 10.
8 - طاهر سليمان حمودة: القياس في الدرس اللغوي، بحث في المنهج، الدار الجامعية، ط. 2، الإسكندرية، 1992، ص 18.
9 - شرف الدين علي: مصطلح الحديث وأثره على الدرس اللغوي عند العرب، دار النهضة العربية، بيروت 1983، ص 41.
10 - جلال الدين السيوطي: المزهر في علوم اللغة وأنواعها، تحقيق محمد أبي الفضل وآخرين، طبع عيسى الحلبي، مصر 1958، ص 1.
11 - مازن المبارك: النحو العربي، ص 79.
12 - أشرف ماهر النواجي: مصطلحات علم أصول النحو، دار غريب، القاهرة 2001، ص 123.
13 - أحمد سليمان ياقوت: ظاهرة الإعراب في النحو العربي، ص 79.
14 - المرجع نفسه، ص 157.
15 - أبو القاسم الزجاجي: الإيضاح في علوم النحو، تحقيق مازن المبارك، دار العروبة، القاهرة 1960، ص 73.
16 - عبد الوهاب خلاف: علم أصول الفقه، الزهراء للنشر، الجزائر 1990، ص 222.
17 - سليمان الجمل: حاشية الجمل على الجلالين، المطبعة التجارية الكبرى، مصر.
18 - النساء، الآية 129.
19 - محمد سمير اللبدي: معجم المصطلحات النحوية والصرفية، دار الثقافة الجزائر، (د. ت)، ص 155.
20 - أحمد سليمان ياقوت: ظاهرة الإعراب في النحو العربي، ص 160.
21 - محمد سمبر نجبي اللبدي: معجم المصطلحات النحوية والصرفية، ص 146.
22 - أشرف ماهر النواجي: مصطلحات علم أصول النحو، ص 122.
23 - ابن جني: الخصائص، القاهرة، (د. ت)، ج 1، ص 2.
24 - ابن الأنباري أبو البركات: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، تحقيق الشيخ محمد محي الدين، المطبعة التجارية الكبرى، 1955، ج 1، ص 3.
25 - سعيد الأفغاني: في أصول النحو، دمشق 1951، ص 83.
26 - مازن المبارك: النحو العربي، ص 85.
27 - المرجع نفسه، ص 82.
28 - المرجع نفسه، ص 83.
29 - المرجع نفسه، ص 82.
30 - أبو القاسم الزجاجي: الإيضاح في علوم النحو، ص 72 - 73.
ساحة النقاش