مثل كثيرون لا أحب البكاء على اللبن المسكوب, لكني أموت غيظاً حين أرى اللبن يسكب أمام أعيننا جميعاً ثم نقف لا نحرك ساكنا أو نقف لنتباكى دون أن نقدر على إنقاذه في الوقت المناسب.
يعلم الكثيرون أننا نعيش في مصر لحظة تاريخية فارقة سيتشكل على أساس منها شكل وواقع مستقبل هذا البلد لسنوات طويلة، بل ربما لعقود قادمة, ويدرك الجميع أن النظام الحالي يمر بمرحلة شيخوخة سيتولد عنها لا محالة مرحلة جديدة , ليس فقط باعتبار حالة الأشخاص ولكن باعتبار منظومة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي دبت الشيخوخة في كل جنباتها , وفي الوقت الذي حاولت قوى سياسية واجتماعية وحركات شبابية أن تدفع بالتطور باتجاه إصلاح سياسي واجتماعي إذا بكهنة المعبد يدفعون بكل قواهم لانتهاء هذه الموجة الطويلة من الحراك دون أن يترتب عليها أي محددات أو قيود على المستقبل الذي يسعون لتشكيله على النحو الذين يخدم مصالحهم ,ومن ثم تركونا نؤذن في مالطة ونقول ما نقول ونكتب ما نكتب بينما هم يحققون على أرض الواقع محددات هذا المستقبل .
بدءوا عقب انتخابات شعب 2005 مباشرةً يعدون عدتهم لئلا تتكرر هذه التجربة التي أزعجتهم رغم محدوديتها , قرروا تأجيل انتخابات محليات 2006 بالمخالفة للدستور والقانون لحين ترتيب أوراقهم , وكانت هذه معركة رئيسية إذ أن المحليات وإصلاحها هي معركة رجل الشارع الذي تهمه الخدمات والمرافق المحلية أكثر مما تشغله التشريعات والقوانين, تركناهم ينجحوا في مخططهم (بإبعادنا عن رجل الشارع) وكانت معركة هامة لم نقدرها حقها. في 2007 جاءوا بالتعديلات الدستورية التي كرست تزوير الانتخابات بإبعاد الإشراف القضائي عنها وبالتالي حسمت مصير كل انتخابات قادمة , كما حسمت معركة الرئاسة القادمة من خلال تفصيلات الصفحات الأربعة التي سودت نص المادة 76 من الدستور ومرة ثانية لم نقدر للمعركة قدرها ( أقول هذا رغم الجهد الجهيد الذي بذلته المعارضة كلها ضد التعديلات الدستورية وقتها).
بدأت ثمار تمرير التعديلات الدستورية تؤتي أكلها فجاءت انتخابات شورى 2007 ليحصد الحزب الوطني المقاعد كاملة بالقمع والتزوير, ثم جاءت محليات 2008 ليحصد الحزب الوطني 52000 مقعد كذلك بالقمع والتزوير, واستمرت المهزلة طوال 2008-2009-2010 فتجرأت الحكومة على إتمام الانتخابات في الدوائر التي تهربت منها منذ 2005 وفي الدوائر التي خلت بالوفاة أو بسقوط العضوية عن نوابها, فحصد الحزب الوطني تلك المقاعد كاملة دون انتخابات ،وهي نفس الرسالة التي ظهرت بجلاء في انتخابات شورى 2010,: النظام يعين النواب الذين يريدهم هو, ويعطيهم كم الأصوات الذي يريده هو ( دون رأي ولا مشاركة ولا حضور للجماهير أصلاً) بل ويختار هو من المعارضة أشخاص بعينهم يحددهم هو (غصباً عن أحزابهم وغصباً عن خصومهم من مرشحي الوطني!!!) ويعطيهم من الأصوات مالا يحلمون به, وبل وما لا يحتاجون إليه,
هي إذاً رسالة جلية واضحة أراد أن يقول فيها النظام :
1- انتهى زمن الانتخابات ولم تعد هناك حاجة للناخبين أصلا.
2-أن النواب القادمين لكل المجالس ( محليات- شورى - شعب ) في المرحلة القادمة هم صناعتنا ومن نتفضل عليهم، ولا فرق بين من نأتي به بالانتخاب ومن نأتي به بالتعيين , بل ولا فرق بين من نأتي به تحت قائمة حزبنا ومن نأتي به تحت قائمة الأحزاب المعارضة, الكل صناعتنا والجميع بضاعتنا.
3-أن عدد الأصوات الذي ينجح به المرشح لا علاقة له البتة بالجماهير ولا علاقة له حتى بسمعة المرشح, وإنما نحن نقصده لسببين:
الأول: لنكسر به أنف المرشح حتى لا يتوهم لحظة بعد مجيئنا به أنه نجح بنفسه أو بالجماهير, والثاني:(وله علاقة مباشرة بمعركة التوريث), إذ أنه إذا كانت الأرقام تقول أن عديد من مرشحي الحزب الوطني ( المغمورين والذين لا يعرفهم أحد) قد حصد كل منهم على مستوى دائرة واحدة ما يقارب 300 ألف صوت فهل يشكك أحد في أن مفجر ثورة الفكر الجديد يمكن أن يحصد على (300 ألف صوت مضروباً في عدد الدوائر ال 88 أي ما يزيد عن 26 مليون صوت , أي بنسبة مشاركة فوق ال60 % ونسبة نجاح تقترب من ال 100% !!!) ؟.
إذاً فقد حسمت معركة الرئاسة دون صخب, ولم تعد هناك حاجة لرأي الجماهير في الوريث و لا في التوريث .
الأمر جد خطير ويتعلق بمستقبل هذا الوطن بل هذه الأمة لسنين طويلة قادمة , وقلت في مقال سابق ( بعنوان كارثة التوريث والنهج البديل, أرجو العودة إليه) :
إن تمرير سيناريو التوريث ابتداءً ثم استتباب واستقرار الأوضاع له- بعد حدوثه– لن يتأتى إلا من خلال استمرار كل صور الفساد والاستبداد :
1-استمرار تزوير الانتخابات- رئاسية ونيابية ومحلية - وقمع الحريات العامة , استمرار ودوام الخطايا الدستورية 76، 77، 88 على ما هي عليه، وذلك لضمان ديكورية انتخابية دون منافسة حقيقية، ودون إشراف قضائي على الانتخابات ,وكذلك استمرار تمديد العمل بقانون الطوارئ، واستمرار إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية والاستثنائية، وذلك لمواجهة الخصوم .(
2- استمرار وازدياد وتسارع الاحتكار السياسي والاقتصادي، والجمع بين السلطة والثروة، وسيطرة رأس المال على مقاليد الحكم ومقاعد الوزارات والمجالس النيابية، واستمرار تقديم الثقة والولاء على الكفاءة والتخصص عند اختيار كافة مواقع القيادة والمسئولية من العمد والمشايخ إلى العمداء ورؤساء الجامعات والمحافظين ومختلف الهيئات والإدارات والمؤسسات .
3 -ا ستمرار مزيد من الإضعاف والإنهاك لمختلف قوى المجتمع - الأحزاب والنقابات المهنية والحركات الطلابية والعمالية والقضاة وكافة مؤسسات المجتمع المدني– والقضاء على أي أمل في قيامها وفاعليتها وحيويتها .
باختصار شديد؛ نحن بصدد التهديد بحالة تراجع منظومي وحضاري على كل صعيد سياسي واقتصادي واجتماعي وقيمي، ستعود بالوطن والشعب إلى الوراء مسافات كبيرة، ستحتاج إلى عقود طويلة، بل ربما أجيال لتصحيحها وتداركها .
***حين شاركت في أسطول الحرية لغزة برزت أمامي في هذه التجربة دروساً واضحة أهمها (في هذا المقام):
1-أن القضية العادلة إذا وجدت من يحسن عرضها على الناس ويحفزهم لنصرتها فإن الكثيرين يمكن أن يتحركوا لها بل ويضحوا من أجلها بالوقت والجهد والمال بل وربما بأرواحهم.
2- أن القضية العادلة يمكن أن يجتمع على نصرتها الناس رغم اختلاف مشاربهم السياسية والدينية والقومية والعرقية.
3- أن الإرادة الشعبية يمكن أن تصنع الكثير وأن تفرض واقعا جديداً مهما طال الزمن ومهما كانت الصعوبات والتحديات والتهديدات.
4-أن المقاومة السلمية ( مع الإصرار على تحقيق الهدف والاستعداد لتقديم تضحيات ) يمكن أن تغير المعادلة وتقلب الأوضاع رأساً على عقب .
في الشارع السياسي المصري في السنوات الأخيرة حراك لم يفلح بعد في أن يكون مشروعاً جماهيرياً واسعاً , وهذا هو الدور المطلوب الآن,
, في الآونة الأخيرة اقتربت بعض القوى الوطنية من بعضها البعض وجاءت تجربة الحملة المصرية ضد التوريث ثم الجمعية الوطنية للتغيير لتدفع باتجاه بلورة مجموعة مطالب محددة , و جاء د. البرادعي ليزيد من زخم هذا الحراك ويضيف إليه -بمكانته الدولية ورمزيته الشخصية- ما زاد الحراك توهجاً,وجاءت فرص استفادت منها (نسبيا) الحركة الوطنية (والشباب في مقدمتها) , على النحو الذي تم في أحداث 6 إبريل 2010 ومظاهرة 3 مايو 2010 والتصدي لمطالب إطلاق النار على المتظاهرين والموقف من جريمة مقتل خالد سعيد, وجاءت فرص بددتها الحركة الوطنية على النحو الذي تم في الموقف من تمديد الطواريء (18 مايو 2010), والموقف من مطالبة مائة نائب بمناقشة قانون مباشرة الحقوق السياسية قبل إنتهاء دورة المجلس, والموقف من تزوير انتخابات الشورى.
فشلت المظاهرة التي اتفقت عليها القوى الوطنية كوقفة حاشدة أمام مجلس الشورى في يوم انعقاده الأول (24 يونيو 2010) , والتي كان من المفترض أن تبعث للنظام برسالة للتأكيد على بطلان تشكيل هذا المجلس الذي جاء بالتزوير وأن القوى السياسية ستتعامل معه على أساس هذا البطلان , كانت هذه الرسالة – في حال نجاحها وقوتها- يمكن أن تشكل ضغطاً وتحذيراً للنظام من تكرار هذا التزوير في الانتخابات القادمة.
مرة ثانية أحاول ألا أتباكى على اللبن المسكوب, باقي وقت قصير جداً على ماراثون انتخابات الشعب القادمة وهي المعركة الأخيرة أمام القوى الوطنية الراغبة في الضغط من أجل الإصلاح السياسي والديمقراطي, وهناك فرصة لموقف موحد للقوى الوطنية ضد تزوير الانتخابات , سواء بالمقاطعة الجماعية او المشاركة الجماعية المنسقة ضد الحزب الوطني , وكلا الموقفين يحتاج إلى بدء من الآن لتحقيق التفاف جماهيري واسع حوله ليكون له جدوى وأثر,
جميل أن إنضم لحملة التوقيعات على المطالب السبعة التي أعلنها البرادعي والجمعية الوطنية للتغيير، ونرجو أن يحدث دخول الاخوان على حملة التوقيعات نقلة نوعية وطفرة ليس باعتبار عدد الموقعين فحسب بل باعتبار مدى القدرة على تحقيق وعي و التفاف جماهيري واسع حول المطالب السبعة للإصلاح ,وجميل ان بدأت بعض الفعاليات المشتركة في بعض المحافظات حول مستقبل التغيير شارك فيها رموز من الإخوان وحزب الجبهة الديمقراطية وحزب الغد والكرامة وبعض الشخصيات المستقلة ذات المكانة الجماهيرية، لكني أرى أن هذه الفعاليات بدأت متأخرة ولا تزال تسير بمعدل بطيء , ومن ثم فإنه إذا استمرت على هذا المعدل فلن تنجح في وأد أو إحباط خطة النظام لاختطاف الانتخابات القادمة (على الطريقة التي تمت في انتخابات الشورى الأخيرة) .
س- ما العمل وما الحل إذاً؟
ج- أؤكد أننا لسنا بصدد تسجيل موقف من فساد نظام, ولكن نريد أن نتوحد وأن ننجح في منع هذا النظام من اختطاف مستقبل هذا البلد,
س-وهل يمكن أن ننجح في تحقيق هذا الهدف؟
ج-هذا ما يجب أن نسعى له بكل طاقتنا, مستحضرين صدق مقولة ( إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر, ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر ).ولدي بعض المقترحات العملية في هذا الصدد
مرة أخيرة: علينا أن نأخذ الأمر مأخذ الجد ،وأدعو الجميع للمشاركة في الحوار حتى لا نبكي على الفرص الضائعة , ولربما تكون هذه هي الفرصة الأخيرة قبل نفق مظلم طويل يتهددنا .
( اللهم قد بلغت اللهم فاشهد).
_________________________________________________________
ساحة النقاش