المهزلة التي شاهدها العالم بأسره، وهو يتابع الانتخابات البرلمانية المصرية منذ فتح باب الترشيح في 5/11/2010م وحتى إعلان النتائج النهائية في 8/12/2010م تحتاج أن نقف معها، ليس فقط من منظور هذا الكم غير المسبوق من الانتهاكات، والتجاوزات (تزوير- بلطجة- شراء أصوات)، ولا من منظور النتائج غير المسبوقة في هذه المرحلة من عمر الوطن (حيث حصل الحزب الوطني من خلال أعضائه وطالبي عضوية شركته، وكذلك من خلال مندوبيه في الأحزاب على 99.5% من المقاعد).
ولكني أقف مع هذا التحول الخطير لأولئك الذين أداروا المهزلة الانتخابية فإذا بنا نشاهد مخططهم، وقد تحول من مشروع (سرقة الوطن) على النحو الذي كانوا يمارسونه قديمًا- احتكارًا لخيرات وثروات الوطن لصالح فئة محدودة تسعى للجمع بين السلطة والثروة- إلى مشروع (حرق الوطن) على النحو الذي رأيناهم عليه، وهم يهدمون مؤسسات الدولة ومصداقيتها، ومشروعيتها، وجدواها، ونظرة العالم لها، يستوي في ذلك حين نتحدث عن السلطة التشريعية؛ حيث تعالت الأصوات في الداخل، والخارج ببطلان المجلس وافتقاده مشروعيته القانونية- حيث آلاف الأحكام من محاكم القضاء الإداري والإدارية العليا ببطلان الانتخابات، وانعدام كل ما يترتب عليها من آثار ووجوب إعادتها- وكذا افتقاده مشروعيته السياسية بعد انسحاب الإخوان، والوفد منه وإعلانهم أنه لا يوجد لهم بالبرلمان مَن يمثلهم.
ومن ثَمَّ صار البرلمان يمثل مقرًّا جديدًا للحزب الوطني تمَّ افتتاحه يوم 13/12/2010م بشارع مجلس الشعب مع وجود ممثلين لبعض الكيانات الحزبية الوهمية داخل هذا المقر الحزبي، والأهم من هذا هو افتقاد هذا المجلس المشروعية الشعبية؛ حيث الجماهير تدرك- عين اليقين- أن هؤلاء النواب لم يختارهم الشعب وإنما اختارتهم وزارة الداخلية بمساندة البلطجية، وبمساهمة المليارات التي وزَّعها رجال الأعمال، ومن ثَمَّ فهذا المجلس لم يعد مجلسًا للشعب، ولا علاقة للشعب به.
سيستمر الاشتباك القانوني والسياسي والجماهيري مع هذا المجلس لكن المحصلة النهائية ستكون احتراق السلطة التشريعية المصرية، وضياع كلَّ قيمة ومكانة وأثر لها في نظر المجتمع المصري، والإقليمي، والدولي.
نأتي للسلطة القضائية التي تعمدوا إقصاءها، وتهميشها ابتداءً حين عدَّلوا المادة 88 من الدستور بما يسمح لهم باستخدام القضاة كواجهة شكلية للانتخابات دون أن يكون هناك إشراف حقيقي، أو حتى دور فاعل مؤثِّر بأي قدر فيها، ثم كان اختيارهم واجهات قضائية اختارها الحزب الوطني بأغلبيته البرلمانية؛ لتشكيل ما سمِّي باللجنة العليا للانتخابات دون أية صلاحيات حقيقية، ثم كان اختيارهم قضاةً بأعينهم دون مشورة المجلس الأعلى للقضاء ولا الجمعيات العمومية للمحاكم ليشكلوا اللجان العامة بالدوائر، ودون أن تكون لهم صلاحيات حقيقية كذلك، ثم كان الاعتداء المباشر على بعض هؤلاء القضاة- الذين خرجوا عن السيناريو المرسوم لهم- بالإهانة والسب لمن تمرَّد منهم.
لكن الأخطر من ذلك كله هو آلاف الأحكام التي انعقدت لها المنصَّات؛ فصدرت للتنفيذ بمسودتها دون إعلان، فإذا بهم يضربون بها عرض الحائط، وكأنها معدومة الأثر فتستخرج كارنيهات العضوية، ويقسم السارقون للمقاعد قسم احترام الدستور، والقانون! ويتشكل المجلس، وتهدر أحكام القضاء، وهو نفس السلوك البلطجي الذي تعاملوا به مع أحكام الإدارية العليا الباتَّة (حكم بطلان عقد مدينتي، وحكم طرد الحرس الجامعي)، يحدث كلُّ هذا، ولا يدري هؤلاء أنهم يحرقون الوطن بهدم كلِّ أثر وفعالية لمؤسسات القضاء وشيوخه وأحكامه، بل ينسفون مفهوم الدولة حين يهدمون سيادة القانون بهذا النحو (تشريعًا وقضاءً)، وهكذا تتآكل مؤسسات الدولة، أو قل يحترق الوطن في أركانه واحدًا وراء الآخر.
كان البعض يتصور حرص الرئاسة الجديدة القادمة في 2011م (أيًّا من كانت) على مشروعيتها الدستورية والسياسية أمام أنظار العالم، ومن ثَمَّ حاجتها لمجلس يمثل تعددية سياسية وتوافقًا- ولو صوريًّا- فإذا بالمحافظين الجدد ينسفون هذا التصور نسفًا، فلم يسمحوا لأحد بمشاركتهم مجلسهم، لا لقوى سياسية (الإخوان مثلاً)، ولا لحزب محسوب على المعارضة (الوفد مثلاً)، ولا لأشخاص مستقلين لعبوا أدوارًا بارزةً في الحياة البرلمانية، بل ولا لرموز سياسية قبطية (منير فخري عبد النور، ومنى مكرم عبيد مثلاً).
هي إذًا معركة صفرية أداروها لصالح الحزب الوطني بهذا القدر من الغباء، والاستفزاز والاستعداء للجميع- حتى لأبناء حزبهم-، بينما هم يخططون لأن يشاركهم في انتخابات الرئاسة القادمة أحزاب اخترعوها، وأدخلوها البرلمان بنائب واحد (الجيل والسلام والعدالة والغد!!!)، إذًا حتى مؤسسة الرئاسة ومصداقيتها، ومشروعيتها لن تسلم من هذا الاحتراق والتشكيك أمام العالم.
دعك من المؤسسات، لكن الأخطر هو احتراق شرائح جديدة من المجتمع اشتروها بالأموال الانتخابية، فقبلت أن تبيع ضمائرها، ليس فقط ببيع أصواتها لكن بالتسويد والتزوير الواسع- ليس فقط في لجان الانتخابات، بل أيضًا في لجان الفرز، وصار لكل جريمة من تلك الجرائم سعرها وثمنها، لكن الأخطر أن تلك الشرائح من المجتمع أقدمت على تلك الجرائم في غير إحساس بالذنب، فهي تقدم خدمات في حماية الشرطة، وحراستها.
وكذلك فعلت شريحة البلطجية- من المجرمين وأصحاب السوابق والمسجلين خطر- الذين قدموا صناعتهم، ومهاراتهم في غير مطاردة من الشرطة أو المجتمع، بل في طلب وتنافس عليهم، (وهو نفس المنهج الذي استخدموه من قبل في مواجهة الطلاب والأساتذة في الجامعات، وقالوا إنهم جربوه ونفع!! أرأيت احتراق للمجتمع أكبر من أن يتطاول الأوغاد على قامات بحجم د. محمد أبو الغار، ود. عبد الجليل مصطفى، ود. رضوى عاشور!.
وهكذا فعلت شريحة صغار الموظفين والعمال والسعاة الذين جلبوهم من الإدارات الزراعية، ومراكز الشباب والإدارات التعليمية؛ ليديروا العملية الانتخابية طمعًا في يومية الانتخابات (350 جنيهًا، عدا عطايا المرشحين، ووسطائهم في اللجان، وفي الفرز).
أعلم أن كثيرًا من هؤلاء الموظفين والعمال البسطاء لم يستجيبوا للرشى والإغراءات، ولكنهم بالطبع كانوا أضعف من أن يقفوا ليكشفوا التجاوزات التي رأوها، وسكتوا عنها، هو إذن الإفساد الممنهج الذي يسعى لجعل المجتمع كله يحيا في مستنقع الرشى، والنخاسة، وبيع الضمائر على طريقة- يا عزيزي كلنا لصوص.
حتى الصحف والفضائيات، والجمعيات الحقوقية التي كانت معنية بمراقبة الانتخابات حاصروا الجميع، وضيَّقوا عليه، وهددوه واشتبكوا معه في معارك جانبية، ليقولوا للجميع فلتتخل عن مهنيتك، وموضوعيتك، وإتقان صناعتك، عليك أن تخرج فقط المنتج الذي نريده نحن، يمكنكم أن تقبضوا أجوركم وتمويلاتكم لكن حذارِ أن تقدموا مقابل ذلك إلا ما يرضينا، وإلا عرضتم أنفسكم، ووظائفكم، ومكاتبكم، وأرزاقكم للخطر.
حقًّا إنهم يجرفون الوطن، لكنهم في الوقت ذاته ملئوا قلوب وعقول الجميع كراهية لشجرة الزقوم التي غرسوها طوال السنين الماضية، ولم يعد أحد إلا وضاق بها حتى من بين أهلها، ومن ثَمَّ أصبحنا أقدر من أي وقت مضى على المضي قدمًا لاستئصال تلك الشجرة الملعونة وإطفاء تلك النار الموقدة قبل أن تأتي على الأخضر واليابس
ساحة النقاش