السوق
لم يكن اختياري السكن فى أحد البيوت الموجودة فى شارع سوق المدينة عن قصد منى أو اختيار.. فلم يكن لمن لا عهد له بالمدينة من قبل أن يقصد مكانا معينا للسكن أو يختاره. فقد دفعتنى ظروف كثيرة للسكن فى شارع السوق.. كنت قد تعودت فى الريف على أن وقت الغروب هو بداية الهدوء والاستقرار فى البيوت.. ولكن شارع السوق ليس كذلك.. إنه لا يهدأ لحظة واحدة من ليل أو نهار.. بل إن الإضاءة الليلية فيه ربما تلبس علينا ليله من نهاره.. السوق فى ريفنا ينعقد وينفض فى ساعات معدودة والسوق فى المدينة انعقد ولن ينفض..
فى بداية أمرى لم أكن أهتم بأصوات البائعين ولا بصخب المشتريين.. حتى جاء يوم علت فيه الأصوات وبدا كأن الناس فى السوق يتشاجرون خرجت إلى البلكونة وكنت أسكن فى الدور الأول فأحسست كأنى أقف فوق رءوس الناس لم يكن فى السوق أى شجار.. لا إنه شجار ولا شجار
بدأت أنظر إلى عربات البائعين والمحلات الصغيرة على جانبى الشارع ..أنواع كثيرة تباع خضراوات.. وفواكه.. أسماك.. لحوم.. توابل.. خبز.. هذا يبيع وهذا يشترى كان منظرا جميلا جذبنى إليه بشدة.. ظللت أنظر إلى السوق حتى غلبنى النوم.. بعد هذا اليوم أصبح جلوسى على كرسى متهالك فى البلكونة والنظر إلى السوق عادة.. السوق لوحة بديعة من الحياة بل إن الحياة كلها جمعت فى هذه اللوحة..
بعد عدة أيام كنت قد عرفت أسماء معظم البائعين وكثيرا من وجوه المشترين واكتسبت خبرات كثيرة فى البيع والشراء، يمكن أن أسميها فن البيع والشراء.
فى مكان من السوق كان هناك رجل يقترب من الستين قصير القامة ممتلئ الجسم، صوته كأنه الرعد..له كرش كبير كأنما أنفق سنوات عمره كلها فى إعداده وتكوينه، عندما كنت أذهب إلى البلكونة على عادتى كل ليلة كان عم على يعلن انتهاء عملية البيع اليومية على عربته، ويضع ما تبقى من بضاعة اليوم فى صندوق أسفل العربة، ويكنسها ببقايا مقشة، ويفرشها بلحاف قديم ويخرج موقدا صغيرا يعمل بالكيروسين ويصنع لنفسه كوبا من الشاى بعد أن يتناول طعام العشاء الذى كان غالبا عبارة عن علبة كشرى بالدقة من عربة الست فتحية كشري التى تضع عربتها على ناصية شارع السوق وفى بعض الأيام كان يتعشى جبنة وعيش أو فول وطعمية، ولم يكن عم على يعبأ بكيفية الحصول على العشاء فما عليه إلا أن ينادى دقدق ابن المعلمة فتحية ليأتى له بما يريد.. كانت حياة عم علي تسير على وتيرة واحدة لم تتغير منذ أن بدأت أراقب حركة السوق كل ليلة، كانت دنيا عم على صغيرة بشكل لافت للنظر، كانت دنياه كلها هى عربته محل سكنه وعمله.. يشرب عم على الشاى ثم يجلس فوق العربة فترة من الوقت يحدث زملاءه من حوله.. يسخر من هذا.. ويشتم هذا وأحيانا يغنى بعض المواويل ومما حفظته من مواويله:
يا دنيا لما تدى إدى على قدك.. ولا انت فاكره محدش قدك.. لا انا عاوز منك حاجة ولا قلبى طالبك..انا حوت فى بحر عايم .. ومناى اعيش بعيد عنك..
وبعد فترة ينام عم على فوق العربة ويغطى نفسه ببقية اللحاف الذى فرشه على عربته، كان كرش عم على يبدو عند النوم كأنه قمة جبل صغير وسط السوق.. وكان شخيره ذا نغم خاص وربما نوَّع فيه وكأنه يقوم بتأليف سيمفونية جديدة لا تنتهى كل يوم إلا عند الفجر عندما كان عم على يعلن عن بداية اليوم الجديد بقوله: اصطبحنا واصطبح الملك لله!!
وإلى جوار عم على كان يقع محل المعلمة توكل تلك المرأة السمينة الضخمة ذات الجلباب الأخضر الداكن التى كانت تبيع المصنوعات الألومنيومية.. كانت توكل تلبس فى كلتا يديها مجموعة ضخمة من الأساور الذهبية تصل إلى مرفقيها وكانت تشمر كم جلبابها صيفا وشتاء وكل فترة من الوقت تهز أساورها فى يدها لتعزف بها سيمفونية الغنى الكاذب..
فى فجر أحد الأيام لم أسمع عم على يعلن عن بداية اليوم الجديد كعادته.. بل إننى أدركت أننى افتقدت سماع شخيره من منتصف الليلة. . ولما أعددت نفسى للذهاب إلى عملى ونزلت من المنزل الذى أسكن فيه رأيت المعلمة توكل تقف أمام عربة عم على ودموعها على خدها ، وتنادى على من حولها تعالوا يا ولاد شوفوا حتعملوا ايه فى عم على لأنه مات.. لأول مرة فى حياتى أرى مثل هذا الهدوء عند الموت..جاء بعض شباب البائعين إلى العربة بكل هدوء وأخذوها من بين يدى توكل وهم يقولون: الله يرحمه.. وساروا بها إلى حيث يعلمون أو لا يعلمون..
رجعت من عملى بعد العصر فرأيت المعلمة توكل تجلس أمام دكانها وقد أنزلت كميها لأول مرة حدادا على عم على .. وبقية السوق كما هو لم يتغير بل كانت عربة عم على فى مكانها ويبيع عليها شاب ملامح وجهه تشبه عم على من وراء الزمن البعيد.. فى هذه الليلة لم أخرج إلى البلكونة كعادتى –ربما أكون قد حزنت على فراق عم على- وفى بداية الليل سمعت صوت شخير يصدر قويا قويا.. فأسرعت إلى البلكونة فوجدت هذا الشاب الذى رأيته يقف على عربة عم على ينام فوق عربته ويتغطى ببقية لحافه وكأنه هو غير أن الكرش لم يظهر بعد.. ومن يشابه أبه فما ظلم!!
ساحة النقاش