مجالس الحكمة

قال تعالى: (يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِى خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ).

الحكمة ليست هى النبوة، ولكنها العلم، والفقه، والقرآن الكريم، وقيل هى خشية الله، والخوف منه تعالى، وقال مالك رضى الله عنه : إنه ليقع فى قلبى أن الحكمة هى الفقه فى الدين، وأمر يدخله الله فى القلوب من رحمته وفضله, ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلاً فى أمر الدنيا، إذا نظر فيها، ولا يفقه من دينه شيئًا, ونجد آخر ضعيفًا فى أمر دنياه، عالمًا فى أمر دينه بصيرًا بآخرته.

يا هذا: لا يفتك مجلس الحكمة، ولو كنت على معصية، ولا تقل: ما الفائدة من حضور مجالس العلم والحكمة، وأنا لا أقدر على ترك المعصية، بل على الرامى أن يرمى إلى الصيد، وإن لم يأخذ اليوم فسيصطاد غدًا.

وإذا حضرت مجالس العلم والحكمة، وخرجت إلى المخالفات والغفلات، فإياك أن تيأس, وتقول: ماذا يفيد الحضور؟ بل احضر فى مجالس العلماء، واستمع إليهم؛ حتى تستفيد وتتعظ، وتتخلص من ذنوبك.

فإنه ربما يكون بك مرض مضى عليه أربعون سنة، أتريد أن يذهب عنك فى ساعة واحدة، أو فى يوم واحد؟ فاصبر وداوم على تناول الدواء، والعرض على الأطباء.

أرأيت من ترك بئره فى الصحراء سنين عدة، وصارت الرياح تلقى فيها الأتربة والرمال، أفيستطيع أن يرفع ما فيها، ويصل إلى قرارها، ويخرج ماءها فى يوم، أو فى أسبوع، كلا وأنت قد تركت عين بصيرتك لرياح المعاصى والذنوب، تلقى فيها الأقذار أربعين سنة حتى انطمست، وتريد أن تزيل ما فيها، وتجلوها فى مجلس واحد؟

مثالك إذا سمعت الحكمة، ولم تعمل بها، كمثل الرجل الذى يلبس الدرع، ويحمل السيف، ولا يقاتل، ألا فقد حصل النداء على سلعتنا فهل من مشتر؟ والحكمة كالقيد، إن قيدت بها نفسك امتنعت عن شرودها، وإن رميت الحكمة، ولم تعمل بها تَسَيَّبتْ نفسك، وانطلقت فى غيها، وفى هذه الحالة يخاف عليك من سوء الخاتمة ـ والعياذ بالله تعالى ـ لأن الدواء إذا لم يفد، ولم ينتج، فنهاية المريض الهلاك. ومثال ذلك كالمجنون فى بيتك يخربه ويقطع الثياب، ويتلف الأشياء، فإذا قيدته استرحت من شروره، وإذا طرحت القيد وخرجت فالضرر باق، والشر واقع والعاقبة سيئة.

يا عبد الله يكون بك حب الرئاسة، أو الجاه، أو المال، أو غيره، وتقول: حضرنا مجلس الشيخ فلان، وسمعنا وعظه، فما جذب قلوبنا، وما استفدنا منه، فلا تلم الشيخ، فالعيب منك؛ لأن النور إذا أغلقت فى وجهه الباب لم يدخل المنزل، فقل المانع منى، فلو استعددت فى أول يوم وأبعدت الحواجز عن قلبك، لانجذب قلبك، ولما احتجت إلى حضور مجالس أخرى، وإنما احتجت إلى التكرار لكثرة صدء قلبك، حتى تكون لكل جلسة صقلة فاصبر، واتعظ، وداوم. واعلم أنه ما أتيت لموطن حكمة إلا وفى عنقك سلسلة نورانية ربانية، وما أتيت لموطن معصية، إلا وفى عنقك سلسلة ظلمانية، فإن كنت لا تشهدها أنت، فغيرك يشهدها، ألا ترى الشمس يشهدها الناس أجمعون، إلا من كان أعمى.

فإذا حضرت إلى مجالس حكمة فهى رحمة ساقها الله إليك، فأقبل هديته واحفظها واعمل بها.

يا هذا، جوارحك غنمك، وأنت الراعى الموكل بها، والله هو المالك، فإن رعيتها فى المرعى الخصيب، وسقيتها الماء، وحفظتها من الذئاب، أرضيت المالك، واستوجبت الثناء الجميل، والأجر الجزيل. وإن رعيتها فى المرعى الوخيم حتى أعجف أكثرها، وهلك بعضها من الظمأ، ثم جاءت الذئاب واعتدت على ما بقى منها، استوجبت العقوبة من المالك، وحل غضبه عليك، فإن شاء انتقم منك، وإن شاء عفا عنك, إما ثواب إلى الجنة، وإما عقابك بالنار، فإن صرفتها فيما يرضى الله تعالى كنت ساعيًا فى طريق الجنة، وإلا كنت ساعيًا فى طريق النار.

فهذه موازين الحكمة، فزن بها عقلك، كما تزن الأشياء المحسوسة، فإذا كان الحق - سبحانه – قد جعل ميزانًا للبيع والشراء، أفلا يجعل ميزانًا للحقائق؟

والعجيب ممن يسأل المنجم عن حاله، ولا يسأل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن مآله.

فيا أخى: حافظ على الجلوس فى مجلس الحكمة، ففيه نفحة من نفحات الجنة، تجدها واضحة فى قلبك، وتشعر بها فى طريقك، وفى دارك ودكانك، وفى صلاتك، وتلاوتك، وذكرك الله عز وجل وفى عبادتك كلها.

واعلم أن العلماء والحكماء يعلمونك كيف تتعامل مع الله وتدخل إليه، وتحترمه، فهل رأيت خادمًا أول ما يؤجر يصلح لخدمة العظماء، بل يسلم لمن يربيه ويهذبه ويعلمه الخلق والأدب، ويدربه على حسن الخدمة، فإن صلح وتدرب، وعرف الأدب قدم للخدمة وألحق بالحاشية، وإلا طرد منها، حيث لا يصلح لها.

        كذلك العلماء والأولياء ـ رضى الله عنهم ـ يصحبهم المريدون، ويتعلمون على أيديهم، ويهذبونهم، ويدلونهم على العمل الصالح، ويرضون أنفسهم وأخلاقهم، حتى يتقربوا بهم إلى الحضرة، ويسلكوا بهم طريق الاستقامة والرشاد.

 

 

المصدر: مقتطفات من كتابى تحفة التصوف بتصرف
  • Currently 65/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 539 مشاهدة

ساحة النقاش

الدكتور/ محمد محمود القاضي

mohamedalkady
موقع شخصي يهتم صاحبه باللغة العربية ودراساتها، والثقافة الإسلامية، والثقافة العامة، والتأليف للطفل. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

230,393