حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
إن محاسبة النفس من أعظم وسائل التربية، حيث إنها تبصر الإنسان بعيوبه، وتجعله يميز ما له وما عليه، فيستصحب ما له، ويؤدى ما عليه، كما أن محاسبة النفس تدفع الإنسان إلى التوبة المستمرة، والندم على ما فرط فى حق الله.
وما أحسن أن يعيش الإنسان مع نفسه دقائق قليلة فى نهاية كل يوم، وقبل نومه، يراجع فيها ما فعله من أعمال، فإن وجد خيرا حمد الله وشكره عليه، وإن وجد غير ذلك استغفر الله، وتاب إليه، وعزم فى نفسه ألا يعود إلى ذلك أبدا، فلعله إن فعل ذلك قبل الله منه، وتجاوز له عن خطئه وتقصيره.
والمحاسبة تجعل الإنسان يعرف حقيقة نفسه التى تتكشف أمامه واضحة جلية، وتجعله يفيق من غفلته ويتدارك أمره قبل أن يعود إلى ربه فيحاسبه على ما قدمت يداه، ويجد أعماله مسطرة فى صحيفته، ويناديه ربه : (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
ولكن لماذا يحاسب الإنسان نفسه؟
يقول ابن القيم: "وقد دل على المحاسبة قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) فأمر الله سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغد. وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك، والنظر: هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟
والمقصود من هذا النظر: ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله، ويبيض وجهه عند الله"
وقال عمر بن الخطاب –رضى الله عنه-: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا. وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم.
ورجاؤنا فى الله أن يمحو عنا سيئاتنا، ويتجاوز عن خطئنا إذا اطلع على قلوبنا، ورأى صدق ندمنا على ما اقترفته أيدينا، متمسكين بقوله تعالى: (قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم . وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون….). (الزمر: 53-58)
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله" (رواه الترمذى وقال: حديث حسن). ومعنى "دان نفسه": حاسبها.
أركان المحاسبة:
- بداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته عز وجل، وجنايتك، فحينئذ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفو الله ورحمته، أو الهلاك والعذاب، وتجعلك هذه المقايسة تعلم أن الرب رب، والعبد عبد، ويتبين لك حقيقة النفس وصفاتها، ولكى يحقق الإنسان هذا الركن، فلابد له من ثلاثة أشياء:
1- العلم الذى يميز به العبد بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، والنافع والضار.
2- سوء الظن بالنفس؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش، ويلبس عليه؛ فيرى المساوئ محاسن، والعيوب كمالا. فمن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.
3- تمييز النعمة من الفتنة، فليفرق الإنسان بين النعمة التى يرى بها الإحسان واللطف، وبين النعمة التى يرى بها الاستدراج، فكم من مُسْتَدْرَج بالنعم وهو لا يشعر، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه.
- أن يميز الإنسان بين ما عليه لله من وجوب العبودية والتزام الطاعة، واجتناب المعصية، وبين ما له من المباح الشرعى، فعليك حق، ولك حق، فأد ما عليك، يؤتك ما لك.
- ألا يرضى العبد بطاعته، لان رضاءه بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية، وعدم عمله بما يستحقه الرب جل جلاله، ويليق أن يعامل به.
- أن تربأ بنفسك عن تعيير المقصرين، فلعل تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه، وأشد من معصيته؛ لما فيه من تزكية النفس وشكرها، وقد تدفعه معصيته إلى التوبة والاستغفار، وتدفعك طاعتك إلى العجب والافتخار، فرب معصية أورثت ذلا واستغفارا خير من حسنة أورثت عزا واستكبارا. كما أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
ساحة النقاش