أوراق خضراء جديدة!
كنت قد فارقت الريف منذ زمن بعيد لأعيش في المدينة..وعندما أعود إلى قريتي تكون أول طقوس الزيارة أن أذهب إلى حقلنا وأجلس تحت شجرة التوت الكبيرة الموجودة في الجُرْن.. إنها شجرة ضخمة الجذر كثيرة الفروع متشابكة الأغصان لذيذة الثمار..
لم أستطع أن أفسر سر الراحة النفسية التي كنت أشعر بها في كل مرة أجلس فيها تحت تلك الشجرة..
ولكن حنيني إلى جلستي تحت الشجرة هذه المرة كان مختلفا.. فقد بدأت ذكريات الماضي البعيد تتراقص أمام عيني.. تذكرت عندما كنت صغيرا ويأتي معي أصدقائي إلى حقلنا ونلعب تحت هذه الشجرة الوارفة وفي وقت ثمارها بعد أن ننتهي من اللعب نصعد فوقها لنأكل منها ثم ننزل لنشرب من الزير المغلف بالخيش المبلل بالماء على الدوام الموجود تحتها..ونقضي كل يوم أجمل أوقاتنا في هذا المكان.. ولما كبرنا وفارقنا لهو الصغر كنا نجتمع مع الأصدقاء في جو العصاري الممتع ونشرب الشاي اللذيذ المصنوع على أعواد الحطب.. وكثيرا ما كنا نعود إليها في الليالي المقمرة ونسمر جزءا طويلا من الليل..
كنا قد نقشنا أسماءنا على جذرها للذكرى في صغرنا.. فتطلعت إلى الأسماء المنقوشة على الجذر وبدأت أقرؤها اسما اسما.. وتمر سريعا في ذاكرتي لمحات من حياة كل واحد منهم .. أين أصحاب هذه الأسماء الآن.. لقد غيبهم الموت جميعا ولكل واحد منهم قصة وحكاية فقد تنوعت أسباب موتهم ولكن الموت واحد.. بعضهم كان قد فارق الحياة في ريعان شبابه وبعضهم فارقها قبيل الأربعين وآخرهم صديقي الذي فارقها وهو على مشارف الستين مثلي وقد جئت إلى القرية اليوم معزيا في وفاته..
يا الله لم يبق من هؤلاء الأصدقاء أحد .. لم يبق إلا رسم أسمائهم بخط أيديهم!!
فدمعت عيناي.. وانسابت قطرات الدموع على وجهي لتكشف عما يدور في نفسي.. وكان أبي الذي أصبح على مشارف التسعين من عمره يجلس قريبا مني تحت الشجرة منشغلا بمسبحته وتسابيحه التي يواظب عليها منذ فترة بعيدة.. ففطن إلي حالي.. ولعله رأي الدموع تنزل من عينيي.. ففهم ما كنت أفكر فيه.. فابتسم وقال: هون عليك يا بني!! فالدنيا كالشجرة تتساقط عنها أوراقها القديمة ويحل محلها أوراق خضراء جديدة!!
فقلت: تذكرت أصدقائي الذين كانوا يلعبون معي تحت الشجرة ونحن صغار ونجلس لنتسامر تحتها في زياراتي للقرية كبارا..لم يبق منهم أحد!!
فقال أبي: لعب وجلس تحتها كثيرون غير أصدقائك أيضا .. ولم يبق منهم أحد!! أتدري يا بني متى زرعت هذه الشجرة؟
انتبهت لسؤال أبي.. فقلت : لا أدري.
فقال أبي: أخبرني أبي (جدك) أن جدي زرعها يوم مولدي تعبيرا عن فرحه بقدومي إلى الدنيا..وقال يومها لأبي حتى إذا كبر وليدك وصار صبيا جلس ولعب تحتها وأكل هو أصحابه من ثمارها..أي أن هذه الشجرة عمرها هو عمري..أتدري يا بني كم من الأصدقاء والأحباب جلس تحتها وليس لهم وجود على ظهر الدنيا الآن؟!
فقلت: لا شك أنهم كثيرون!!
فقال أبي: وها هي الشجرة ما زالت تكبر وتعظم ويزداد ظلها ولم تحرمنا من ثمارها..ولو قدر لها أن تتكلم وتعبر عن مشاعرها لأعلنت عن حبها لكل من جلس تحتها ولعب تحت ظلالها وأكل من ثمارها.. سواء سجل اسمه على جذرها أم لا.. فلا تجعل يا بني الذكريات تعوقك عن مسيرة حياتك..
كان حديث أبي إلي قد جذبني وجعلني لا أفطن إلى اثنين من أحفادي قد جاءوا إلى الحقل بصحبة أبيهم لعلمهم بوجودي في هذا المكان من أبيهم.. وكانت أول مرة تطأ فيها أقدامهم جرن حقلنا.. فلفتت الشجرة انتباههم ووقفوا عند جذرها وأخذوا يقرءون في الأسماء المنقوشة على جذرها..ثم صاح أحدهما مخاطبا أباه، اسمك منقوش على الشجرة يا أبي..ثم أمسك قطعة من الحجر الصغير لها سن كالقلم وأخذ يخط على الشجرة اسمه وفعل أخوه الآخر مثل فعله..
فابتسم أبي وقال: أوراق خضراء جديدة!!