<!--
كتبت: د. عبير بشر
لعقود طويلة إختلف العلماء حول أهمية ترتيب الأبناء وعلاقته بمستوى ذكائهم: يجزم البعض أن الطفل البكرى أو الأوسط أو الأخير له علاقة بمستوى ذكائه، وتؤكد مجموعة أخرى أن هذا الكلام مجرد هراء لا معنى له وقد بدأ الشجار منذ عهد ألفريد إدلر وهو عالم نفس معاصر للعالم الشهير فرويد، الذى إفترض أن الطفل الأول يتمتع بمستوى ذكاء حاد بينما يتسم الثانى والثالث بمستويات أقل من الذكاء.
قد يظن البعض أن الإختلاف فى مستوى الذكاء يكون محدودا، إلا أن دراسة نشرت فى مجلة "العلوم" أثبتت أن الإبن البكرى يتفوق بفارق 3 درجات فى إختبارات الذكاء ويعتبر العلماء هذا الفارق هاما، وقديما أرجع العلماء السبب إلى أمور شتى منها أن جسم الأم يهاجم بشكل ما الطفل الثانى وهو لا يزال جنينا فى الرحم، فمن المؤكد أن مستويات الأجسام المضادة للحمل ترتفع فى جسم المرأة مع إكتمال كل حمل إلا أن العلماء لم يجدوا دليلا قاطعا على ذلك حتى الأن وربطه بإختلاف مستويات الذكاء بسبب ترتيب الولادة.
إلا أن الدراسة الجديدة التى أجريت فى النرويج وإعتمدت على دراسة عينة حجمها ربع مليون شاب نرويجى أبطلت نظرية الأجسام المضادة للأجنة من أساسها، لأن العينة تضمنت الأبناء الأوائل بالميلاد والأوائل بحكم الظروف، فمنهم شباب كان ترتيبهم الثانى فى الميلاد إلا أنهم فقدو أخواتهم الأكبر فى الصغر نتيجة حوادث، وكانت معدلات الذكاء فى الحالتين مرتفعة ومتساوية.
وأيا كان السبب وراء إنخفاض مستويات ذكاء الأبناء التالين فى الميلاد فإنه بالتأكيد لا يرتبط ببيولوجية ما قبل الولادة لأنه عندما يربى على أنه الطفل الأول تثبت الإختبارات إرتفاع مستوى ذكائه. الأباء المسئولون عن تربية الأبناء أيا كان ترتيبهم ويصعب أن نتخيل وجود ظاهرة تمييز الأباء للطفل الأول فى المجتمعات المتقدمة، ومع تأكيد الأباء على أنهم يوزعون رعايتهم وإهتمامهم بشكل متساو بين أبنائهم، فإن منطق التفكير يقول أن الطفل الأول يستفيد من الإستحواذ على رعاية وإهتمام الأبوين فى سنوات تربيته الأولى التى تشكل قدراته العقلية والشخصية قبل أن يأتى إليه طفل أخر ينافسه فى الرعاية والإهتمام.
وربما لا تكون المشكلة فى التربية أو الحمل والولادة، ويكون الأمر ببساطة أنه لا توجد أصلا مشكلة، ففى دراسة مهمة أجراها د. جوى رودجرز عام 2000 بجامعة أوكلاهوما ثبت فيها عدم وجود علاقة بين ترتيب الميلاد والذكاء. كما أن دراسة حديثة عن الأسر الأمريكية أثبتت أن أصغر الأبناء هو الأكثر تفوقا فى المدرسة ويحقق أعلى الدرجات. و قد ينتهى عالم النفس الشهير جوديث ريتش هاريس إلى أن الإنطباع السائد بأن الطفل الأول هو الأكثر تفوقا إنطباع خاطىء.
وقد صرح بوكليفلاند أحد علماء النفس المشاركين فى البحث الذى طبق فى النرويج أنه يمكن مقارنة الطفل الأول فى إحدى الأسر مع الطفل الثانى لأسرة أخرى فى حالة واحدة فقط هى تطابق ظروف تلك الأسر، وأكد أن البحث أثبت متغيرات كثيرة منها تعليم الأبوين وحجم الأسرة. إلا أن رودجرز يؤكد أن هناك المئات من العوامل المتغيرة التى تؤثر فى النتائج ولصعوبة التحكم فيها كلها فهو يشكك فى النتائج التى توصلت إليها مجموعة النرويج.
وعلماء النرويج هم الأكثر حساسية لهذا النقد ولذلك إستعدوا بالرد فى صورة دراسة جديدة سيتم نشرها قريبا مشابهة للبحث المنشور فى مجلة "علوم" بإستثناء عامل أساسى واحد: بدلا من مقارنة الطفل الأول من أسرة أخرى، قاموا بمقارنة الطفل الأول لأسرة ما بأخويه الأصغر، وتؤكد نتائجها العلاقة العكسية نفسها وهى كلما زاد عدد المواليد للأسرة إنخفض معدلات ذكاء الأطفال، كما تفوق الأبن البكرى على أخويه؛ الثانى بفارق ثلاث درجات، أما الثالث فقد كانت نتائجة أسوأ بكثير، ويؤكد بيتر كريستنش مدير المعهد النرويجى القومى للصحة السكانية الذى أشرف على الدراستين أن الهدف منها واحد إلا أن الدراسة الثانية أفضل وأكثر شمولا لأن المعلومات فيها تقارن مستويات الذكاء وعلاقتها بترتيب الأبناء داخل الأسرة الواحدة. مما كشف عن علاقة ترتيب الميلاد ومستوى الذكاء يشكل أكثر قوة ووضوحا.
ولا يجب أن نعتقد أن الجدل العلمى قد حسم فى تلك القضية لسبب بسيط: أنه لا يزال النقاش قائما حول الأسباب ومن المحتمل أن يكون أسلوب تربية الأطفال هو الفاعل، فبعض الأسر تعطى الطفل الأول مكانه متميزة سواء بقصد أو بدون قصد ، بصفته مساعدا للأب وللأم أو نائبا عنهما، وربما يكون هذا الإحساس المبكر بالمسئولية والسلطة محفزا له على تحسين الإنجاز، فإذا كان أكثر ذكاء يصبح الأمر أكثر إشباعا لذاته.
ساحة النقاش