الفصل الثانى
نشأة وتطور علم الرواسب المعدنية
من المفيد دائماً في دراسة العلوم أن يلم الدارس أو الباحث بالتاريخ العلمي للفرع الذي يدرسه، أو يبحث فيه، ليلمس كيف نشأت الأفكار والنظريات العلمية، وكيف تطورت خلال العصور المختلفة حتى وقتنا الحاضر. فالفكر العلمي يعتبر وحدة واحدة، يرتبط فيه الماضي والحاضر والمستقبل، ارتباطاً وثيقاً.
وقبل أن نستعرض تاريخ نظريات نشأة الرواسب المعدنية (Oregenesis) نود أن نشير إلى ملاحظة هامة في مفهوم الرواسب المعدنية من ناحية، ومفهوم الصخور من ناحية أخرى. فبالرغم من أن الرواسب المعدنية كما عرفناها سابقاً، تعتبر صخوراً بكل معنى الكلمة، إلا أن الدارسين لعلم الصخور (Petrologists) قد أهملوها إلى حد كبير. حيث وجهوا اهتمامهم أساساً إلى معادن السليكات، في حين أن أهم المعادن الاقتصادية (وخصوصاً الفلزية) هي كبريتيدات وأكاسيد وإلى حد ما سليكات، ومن جهة أخرى، أهمل دارسو الخامات والرواسب المعدنية الدراسات البترولوجية، واعتبروا الخامات وحدات مستقلة عن الصخور المحيطة بها، حيث تواجدت فيها بالصدفة. ولهذا، لم يكن هناك تفاعلاً بين هذين المجالين. ولقد أثر ذلك على تطور نظريات نشأة الرواسب المعدنية، وأعاقها كثيراً. ولكن الاتجاه الحالي هو النظر إلى الرواسب المعدنية على أنها صخور بكل معنى الكلمة، ولذلك يجب أن يكون هناك التقاء بين علم الرواسب المعدنية، وعلم الصخور، بل يعتقد البعض أن دراسة الرواسب المعدنية، لابد أن تنضوي تحت علم الصخور كفرع من فروعه.
على أن هذا الانفصال عميق الجذور بين دراسة الرواسب المعدنية وعلم الصخور، لم يكن لينشأ ويستمر لولا وجود أسباب قوية. وليس من الصعب فهم هذه الأسباب، التي ترتكز على عوامل اقتصادية؛ ففي الأزمنة القديمة عندما كانت صناعة التعدين واستخلاص المعادن والفلزات في مراحلها الأولى، كان لابد للراسب المعدني، لكي يكون اقتصادياً، أن يكون غنياً بالمادة المطلوبة، بالإضافة إلى كبر حجم حبيبات المعدن المطلوب فصله، فتركيز المعادن من خاماتها لم يكن يزيد كثيراً عن التنقية اليدوية. ولم تكن هذه الشروط متوافرة غالباً إلا في الرواسب المعدنية العرقية (Vein deposits) ولهذا، فقد كانت العروق وحدها هي الرواسب المعدنية في تلك الأزمنة. ولأن العروق كانت تعتبر شيئاً غريباً عن الصخر الذي تتواجد فيه، صُنفت مواد القشرة الأرضية إلى صخور، وخامات. ومن هنا، كان الانفصال بين دراسة الصخور، ودراسة الخامات.
ولكن بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي الذى وصلنا إليه في الوقت الحاضر، وبالإضافة إلى زيادة الطلب على الخامات المعدنية زيادة كبيرة، فقد أصبح من الممكن استغلال أنواع أكثر من الرواسب المعدنية التي تحتوي على نسب ضئيلة من الفلزات، أو على حبيبات دقيقة من المعادن الاقتصادية، وبدأ يتسع نطاق وأنواع الرواسب المعدنية، ليشمل العديد من الصخور النارية، والرسوبية، والمتحولة، فأخذت الهوة بين الصخور والخامات تضيق أكثر فأكثر، وأصبح مفهوماً لدارسي الرواسب المعدنية الآن أن تلك الرواسب ما هي إلا صخوراً بكل معنى الكلمة، ولا يمكن دراستها وفهمها فهماً صحيحاً دون النظر إليها نظرة بترولوجية.
الرواسب المعدنية في الأزمنة السحيقة:
كانت أول المواد المستخلصة من القشرة الأرضية مواداً شائعة، يسهل الحصول عليها، مثل الكوارتز، والسربنتين، والزلط، والتلك، وبعض الصخور مثل الجرانيت والبازلت. لذلك لم يكن هناك ما يشغل بال الإنسان من ناحية الحصول على هذه المواد، فهو يجدها حينما يريدها. ثم اكتشف الإنسان بعد ذلك الأحجار الكريمة، التي أثارت اهتمامه كثيراً، وسعى للحصول عليها واقتنائها، إما بغرض الزينة أو بغرض استعمالها في المقايضات، وبعد ذلك اكتشف الفلزات، ولعل أولها كان النحاس ثم تلاه الحديد، وعرف ما لها من منافع وخصائص، كما عرف أيضا كيف يستخلصها من خاماتها، ولأن الأحجار الكريمة، وخامات الفلزات، كانت أندر بكثير من المواد الأرضية الشائعة، فكان الحصول عليها يتطلب نوعاً من البحث المنظم، مثل تسجيل المشاهدات الخاصة بتواجد الخامات المختلفة، للوصول إلى الشواهد على وجودها.
من هنا بدأت تنشأ بعض النظريات الأولية، التي تشرح نشأة هذه الرواسب، وتفسر وجودها حيثما وجدت.
الرواسب المعدنية قبل عصر الإسلام:
ربما كانت أولى المحاولات العلمية المدونة عن استخدامات الرواسب المعدنية، وأماكن تواجدها، تلك التي قام بها قدماء المصريين، فهم يعتبرون أول من وضع اللبنات الأساسية لهذا العلم؛ فقد اهتم قدماء المصريين اهتماماً شديداً بالأحجار الكريمة، وصخور البناء، والفلزات، خاصة الذهب، وآثارهم الكثيرة خير شاهد على ذلك. فما من راسب للذهب اكتشف حديثاً إلا وكان قدماء المصريين قد سبقوا إليه وقاموا باستغلاله، وذلك يدل على مدى تطور طرق التنقيب والبحث عن الخامات لديهم، ولقد حفروا العديد من المغارات والأنفاق في أماكن كثيرة من الصحراء الشرقية المصرية، ومن أشهر هذه الحفائر القريب من القصير، ومناجم العديدة في منطقة وادي الجمال بالصحراء الشرقية. ولعل جيولوجية لمنجم، تلك المدونة على ورق البردي لأحد مناجم الفواخير، والمحفوظة بمتحف اللوفر بفرنسا.
تلا قدماء المصريين كثير من فلاسفة الإغريق والرومان، حيث اهتموا بشكل الأرض وخواصها، ونشأتها، وبالذات المعادن والصخور المكونة للقشرة الأرضية، وقد كانت لهم آراء ونظريات كثيرة عن نشأة المعادن والأحجار، وإن كان معظمها يبدو ساذجاً الآن.
الرواسب المعدنية عند المسلمين الأوائل:
خلال عصور الظلام (ما قبل القرن الخامس عشر)، كانت أوربا ترزح تحت ظلمة الجهالة، بسبب سيطرة رجال الدين على الحياة العلمية والفكرية، ومحاربتها لأي تفكير علمي جاد، بدعوى أنه ضد الدين. خلال هذه العصور كانت هناك نهضة علمية رائعة في العالم الإسلامي، شملت جميع جوانب المعرفة ومنها علم الجيولوجيا والمعادن، فقد قام العلماء والفلاسفة المسلمون بترجمة التراث العلمي الإغريقي، والفارسي، والهندي واستوعبوه جيداً، ثم أضافوا إليه في شتى المجالات ومنها علم المعادن. لكن هذا التراث العظيم لقى كثيراً من الإهمال أو التجاهل من المؤرخين الأجانب والعرب على حدٍ سواء حتى عهد قريب. إلا أننا نرى الآن بوادر كثيرة من العلماء العرب لإحياء هذا التراث، وبيان ما للعرب من أثار قوية في النهضة العلمية الأوربية الحديثة. وهناك الكثير من العلماء والفلاسفة المسلمين، الذين كانت لهم كتابات كثيرة في مجالات الجيولوجيا وعلم المعادن مثل الكندي، والبيروني، والرازي، وابن سينا، كشفوا فيها كثيراً من الحقائق عن المعادن والأحجار لم تكن معروفة من قبل. ولقد قام ابن سينا بتقسيم المعادن إلى أحجار وفلزات، ومعادن كبريتية، وأملاح. وبهذا كان أول من عرف مجموعة الكبريتيدات، وهي أهم مجموعة من المعادن الاقتصادية، وهناك العديد من المراجع التى تناولت هذه الحقبة من تطور علوم الأرض مثل زغلول النجار وعبد الله الدفاع (1988) و زغلول النجار (1988) ورشدى سعيد (1950).
علم الرواسب المعدنية في العصور الحديثة:
منذ بداية عصر النهضة الحديثة في أوربا (في القرن الخامس عشر)، أخذ علم الرواسب المعدنية، والنظريات التي تشرح تكون هذه الرواسب في التطور السريع حتى وقتنا الحاضر. ولقد مرت تلك النظريات بمراحل متعددة يمكن تلخيصها في الآتي:
1. كان جورجيوس أجريكولا (1494-1555) أول من وضع نظرية تشرح تكون الرواسب المعدنية في أوربا. فكل السابقين على أجريكولا كانوا يعتقدون أن الرواسب المعدنية (كانت الرواسب المعدنية تعني العروق فقط في هذا الوقت) قد تكونت مع القشرة الأرضية أُثناء تكوينها، ولذلك تعتبر جزءاً من القشرة الأرضية منذ البداية، ولا تحتاج إلى تفسير نشأتها كظاهرة مستقلة. ولكن أجريكولا اكتشف أن هذه العروق أخذت مادتها من الصخور التي تحتويها، وأن هناك عمليات أثرت على هذه الصخور بعد تكونها، وسببت ترسب تلك العروق فيها. وهذه الحقيقة (القاطع أحدث من المقطوع) تبدو بديهية الآن، ولكنها في ذلك الوقت كانت تعتبر اكتشافاً علمياً بارعاً. راح أجريكولا بعد ذلك يشرح كيف تكونت تلك العروق في الصخور الحاوية لها، فتصور أن السبب هو انسياب المياه الأرضية في الشقوق الصخرية، وإذابتها لما تحويه هذه الصخور من المعادن، ثم إعادة ترسيبها في أماكن أخرى، وبهذا وضع أساس نظرية تكون المعادن نتيجة الترسيب من المحاليل النازلة (Descending solutions)، كما اعتبر أن المواد المعدنية كانت موجودة أصلاً في الصخور، ولكنها تجمعت وتركزت في العروق.
2. لم يحدث ما يستحق الذكر بالنسبة لنظرية تكوين الرواسب المعدنية، أيام أجريكولا حتى جاء ديكارت (1644) ليضع نظرية مخالفة تماماً لنظرية أجريكولا بخصوص نشأة الرواسب المعدنية. فقد اعتبر ديكارت أن الأرض كانت نجماً ولكنه برد، فتكونت له قشرة صلبة خارجية، تلك التي نعيش على سطحها، ولكن داخله لا زال منصهراً، وتنبعث منه زفرات (Exhalations) تحتوي على المواد المعدنية، التي تترسب في الشقوق التي تتخللها هذه الزفرات، مكونة العروق. وهنا، نرى البذرة الأولى لنظرية تكون المعادن بواسطة المحاليل الصاعدة (Ascending solutions) وهي ما تعرف أيضاً بالمحاليل الحرمائية (Hydrothermal solutions).
3. خلال الجزء الأكبر من القرن الثامن عشر، كانت النظرة السائدة في نشأة الرواسب المعدنية هي المحاليل الصاعدة، بالرغم من أن البعض كان لا زال متمسكاً برأي أجريكولا الأول. وهناك أيضاً مجوعة من الباحثين في ألمانيا والسويد، كانوا يعتقدون أنه من الممكن حدوث طفرات في الصخور (Transmutations) تسبب تحول جزء منها إلى رواسب معدنية. بهذا نرى أنه لم يمض القرن الثامن عشر حتى كانت بوادر النظريات الحديثة في نشأة الرواسب المعدنية قد ظهرت، وإن كانت بطريقة غير علمية.
4. مناظرات هتون وفرنر:
خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر، ثار صراع علمي شديد بين شخصيتين كبيرتين في مجال الجيولوجيا فيما يختص بنشأة الرواسب المعدنية، وهما فيرنر الألماني (Werner)، وهتون الاسكتلندي (Hutton). كان فيرنر أستاذاً في أكاديمية التعدين في فرايبرج بألمانيا وأعلن رفضه للنظرية القائلة بأن باطن الأرض مازال منصهراً وأن العروق تكونت بالأبخرة الصاعدة، ووضع نظرية جديدة مؤداها أن عروق المعادن، بل جميع الصخور من نارية ومتحولة ورسوبية، قد تكونت نتيجة لعمليات الترسيب من المحيط الأزلي الذي كان يغطي القشرة الأرضية كلها في بداية الزمن الجيولوجي. وقد كان لتعصب فيرنر الشديد لرأيه أثراً في إعاقة التطور العلمي في دراسة الرواسب المعدنية، ولكنه من ناحية أخرى أثار حماس المعارضين له لمزيد من الدراسة والبحث عن الأفكار البديلة، وكان من أبرزها آراء هتون في نشأة الرواسب المعدنية. لاحظ هتون أن معادن السليكات والمعادن الكبريتية (Sulphides) لا تذوب في الماء، وبناء على ذلك فلا يمكن أن تترسب من محاليل مائية مثل مياه المحيط الأزلي كما يدعي فيرنر. ثم راح هتون يبحث عن الطريقة الحقيقية التي كونت تلك العروق، وكان قد توصل إلى أن الصخور النارية تنشأ نتيجة لتداخل مواد صخرية منصهرة في صخور أخرى صلبة ثم تتجمد؛ فطبق هذه النظرية على الرواسب المعدنية، واعتبر أن كل العروق المعدنية عبارة عن مواد صهارية تجمدت بعد تداخلها في الشقوق الصخرية. وقد أثار الجدل والصراع العلمي بين هاتين المدرستين كثيراً من الحماس بين المؤيدين والمعارضين، الكل يبحث عن الدلائل التي تؤيد رأيه، وتدحض الرأي المعارض. وبالرغم من أن كل من فيرنر وهتون يعتبر متطرفاً في آرائه، إلا أننا نجد فيهما بداية النظرة الشاملة للرواسب المعدنية والصخور على أنهما شيء واحد، وأن تفسير نشأة الرواسب المعدنية يجب أن يكون في إطار نظرية متكاملة لنشأة الصخور، وهذا في حد ذاته يعتبر خطوة كبيرة. وعلى أية حال فقد كان من السهل نسيان الآراء المتطرفة لكل من فيرنر وهتون بعد وفاتهما بقليل، وظلت الأفكار عن منشأ الرواسب المعدنية تتأرجح كثيراً، دون أن تجد من يخطو فيها خطوة أخرى إلى الأمام حتى جاء عالم فرنسي شهير يدعى دى بومونت والذي يعتبره البعض أبا النظرية الحديثة للرواسب المعدنية.
5. إضافات دى بومونت (De Beaumont)
في عام 1847 قدم دى بومنت بحثاً يعتبر من أهم البحوث التي نشرت عن الرواسب المعدنية. فقد وضح أن الرواسب المعدنية الأولية (Primary) ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالصهار (Magma)، وبكل مراحل تطوره، كما أنها تتأثر بكل العوامل التي تؤثر على الصخور النارية التي تتواجد معها. وقد بنى ذلك على مشاهداته لرواسب الكروميت والماجنيتيت والبلاتين في الصخور المافية، وتصور أنها تكونت من الصهار نتيجة لعمليات التبلور، مثل الصخور المافية نفسها. ثم لاحظ أيضاً أن بخار الماء والمواد الطيارة (مثل ثاني أكسيد الكربون والكبريت)، تلعب دوراً هاماً في تطور الصهار، وأن العروق تتكون نتيجة لترسيب المواد المعدنية من هذه الأبخرة، بسبب مرورها في الشقوق الصخرية. ثم ذهب بعد ذلك لربط المراحل المختلفة لتطور الصهار والصخور النارية الناتجة عنه، بالرواسب المعدنية المتواجدة معها، ووضح أن لهما نفس المنشأ. و بالإضافة إلى ذلك، لاحظ أن بعض الصخور الرسوبية تحتوي على معادن فلزية وأن هذه المعادن قد تكونت نتيجة لعمليات الترسيب من ماء البحر، وأوضح أنه من الممكن أن تكون المكونات المعدنية قد أضيفت إلى قاع المحيط بواسطة نافثات ذات أصل ناري، باختصار: أوضح دى بومنت أن الصهار هو الأصل في تكوين الرواسب المعدنية. في نفس الوقت تقريباً قام دوبرية (Daubree)، وهو فرنسي أيضاً. بإثبات أن المعادن الفلزية يمكن ترسيبها من محاليل مائية؛ فقد استطاع أن يرسب "الكاسيتريت" من محلول أكاسيد القصدير ببعض المعاملات الكيميائية. وبذلك أوضح أهمية المحاليل المائية في تكوين الرواسب المعدنية. وقد كان دوبرية أول عالم صخور تجريبي (Experimental petrologis).
6. بعد دى بومنت، وحتى أواخر القرن التاسع عشر، لم تحدث طفرات كبيرة في الأفكار السائدة عن نشأة الرواسب المعدنية، حتى جاء فوجت (Vogt) في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وفتح أفقاً جديداً في هذا المجال، إذ قام بتطبيق القوانين الفيزيوكيميائية (Physico-chemical laws) على تكوين المعادن من الصهار ومن المحاليل الحرمائية ونجح في إيضاح كيفية تكون رواسب النيكل والحديد من الصهار المافي (mafic) أثناء تبلوره، نتيجة انفصال سائل كبريتي غني بهذه العناصر، وغير قابل للمزج مع السائل المافي، كما أوضح كيفية تكون رواسب من معادن الحديد والتيتانيوم نتيجة لترسب تلك المعادن من الصهار بعد تكونها تحت تأثير الجاذبية، ثم اعتبر المحاليل الحرمائية والرواسب التي تنشأ عنها مرحلة نهائية في تطور الصهارات وبلورتها.
7. الرواسب المعدنية في القرن العشرين:
في مطلع القرن العشرين، أصبح المسرح معداً تماماً لظهور نظرية نشأة الرواسب المعدنية نتيجة للنشاط الناري والحرمائي (Magmatic-hydrothermal theory) وقد هيمنت هذه النظرية على الفكر الجيولوجي قرابة نصف قرن. وأهم افتراضات هذه النظرية، أن جميع الرواسب المعدنية الأولية تتكون نتيجة النشاط الصهاري للتداخلات النارية (Igneous intrusions) بالذات نشاط المحاليل الحرمائية الناتجة عن التداخلات الجرانيتية، فأي راسب معدني أولي قد تكون نتيجة لتصاعد المحاليل الحرمائية من التداخلات الجرانيتية، وتخلُّلِها للشقوق والفجوات الصخرية، ثم ترسيب ما تحمله من مواد معدنية إما بطريق الحشو (Cavity filling) أو بطريق الإحلال التحوالي (Metasomatic replacement) ولهذا كان لابد لمثل هذه الرواسب من وجود تداخلات جرانيتية قريبة لتستمد منها هذه المحاليل، وحتى في الرواسب التي لا يصاحبها أي تداخلات جرانيتية، ولا توجد أي من هذه التداخلات بالقرب منها، كان يفترض وجود مثل هذه التداخلات في العمق، ولكنها لم تنكشف بعوامل التعرية بعد. وحسب هذه النظرية لم تكن الرواسب المعدنية تعتبر جزءاً من الصخر الحاوي، بل هي إضافات إليه. ولذلك لم يكن المهم معرفة كيف نشأ الصخر الحاوي بل المهم هو معرفة كيف أثرت عليه المحاليل الحرمائية التي غزته في وقت لاحق لتكونه، ورسبت فيه ما تحمله من رواسب معدنية. لاقت هذه النظرية تأييداً كبيراً في النصف الأول من القرن العشرين، ابتداءً من ليندجرن (Lindgren) في 1911 وحتى باتمان (Bateman) في أواخر الأربعينات ومما زاد في شيوع هذه النظرية في الأوساط الجيولوجية زيادة فهمنا لعمليات التمايز الصهاري (Magmatic differentiation) وكيف أن صهاراً واحداً يمكن أن يعطي أنواعاً متباينة من الصخور، كما أن بداية ظهور الجيوكيمياء كفرع مستقل من فروع الدراسات الجيولوجية أعطى تأييداً كبيراً لهذه النظرية. وقد كان لكل من بوين (Bowen) وجولد شميت (Goldscmidt) إضافات ممتازة ورائدة فى هذا المجال ونذكر على سبيل المثال كتاب بوين (The evolution of igneous rocks) وكتاب جولد شميت كمرجعين هامين.
وعندما ظهر كتاب باتمان المعروف (Economic mineral deposits) في نصف القرن العشرين، كانت النظرية الصهارية الحرمائية تسود الفكر الجيولوجي فيما يختص بنشأة الرواسب المعدنية، وكان كل العاملين في هذا الحقل يعتقدون أنهم وجدوا أخيراً ضالتهم المنشودة، وتركز البحث بعد ذلك على التراكيب الجيولوجية، التي تتخذها المحاليل الحرمائية ممرات لها، تجوس خلالها في الصخور المختلفة لترسيب ما تحمله من مواد معدنية. وظل الحال على هذا عشر سنوات أو تزيد. ولكن في أواخر خمسينات القرن العشرين، وبعد ظهور العديد من الدراسات التفصيلية لمختلف الرواسب المعدنية في مختلف أنحاء العالم، بدأ كثير من الجيولوجيين يشعرون أن تلك النظرية لا يمكن أن تفسر كل شيء، وأنها تقف عاجزة في كثير من الحالات، فهي تستطيع أن تفسر نشأة الرواسب التي تم كشفها، ولكنها لا تستطيع في كثير من الحالات أن تعطي المؤشرات التي تؤدي إلى كشف رواسب جديدة. ومن ناحية أخرى، أصبح واضحاً أنه كلما ازدادت الدراسات الجيولوجية على بعض الرواسب المعدنية الهامة، كلما لاقت هذه النظرية صعوبات أكثر، وخصوصاً تلك الرواسب الطباقية (Stratiform deposits) مثل رواسب النحاس في روديسيا، فهناك شواهد كثيرة تدل على أن المعادن الاقتصادية في هذه الرواسب قد تكونت في نفس الوقت الذي تكون فيه الصخر الذي يحتويها، وأنها تعرضت لجميع عمليات التشوه والتحول الذي تعرض لها الصخر، أي أن المعادن الاقتصادية هي جزء لا يتجزأ من الصخر الحاوي منذ تكونه، وليست إضافات إليه في زمن لاحق، كما كان يفترض حسب النظرية الحرمائية. ولفهم طريقة تكون هذه المعادن وتركيزها في هذه الأماكن، لابد من النظر إليها نظرة شاملة من خلال الصخر نفسه الذي تتواجد فيه، وهذا يتمشى مع ما ذكر سابقاً، من أن الاتجاه الحالي هو اعتبار الرواسب المعدنية صخوراً بكل معنى الكلمة، وانضواء علم الرواسب المعدنية تحت لواء علم الصخور، لهذا بدأ الجيولوجيون في البحث عن أفكار بديلة تستطيع أن تفسر ما تعجز عنه النظرية الحرمائية.
لم يكن هذا الاتجاه حديثاً تماماً، فهناك من نادى به من سنوات عديدة، ولكن صوته ضاع وسط الأصوات العديدة المؤيدة للنظرية الحرمائية. ففي عام 1919 ذكر أوهاشي (Ohashi) في اليابان، بعد دراسته لما يعرف برواسب كروكو للنحاس (Kruko-type copper deposits) أن النظرية الحرمائية لا يمكن أن تفسر نشأة هذه الرواسب، لماذا؟ توجد هذه الرواسب الكبريتية على هيئة طباقية وسط صخور بركانية نشأت تحت سطح البحر، وقد تعرضت الطبقات التي تحمل المعادن الفلزية لنفس عوامل التشوه التي تعرض لها تتابع الصخور البركانية نفسها، فكيف نتصور أن المحاليل الحرمائية اختارت طبقة معينة بالذات لتمر بها وترسب فيها ما تحمله دون الطبقات الأخرى؟ خاصة إذا كانت هذه الطبقة مطوية (Folded)؟ أوضح أوهاشي أن المعادن الكبريتية لابد وأنها ترسبت مع المواد البركانية في نفس الوقت، وأن الاثنين معاً تعرضا لكل عوامل التشوه اللاحقة فيما بعد. أما من ناحية مصدر هذه المواد المعدنية، فإن الأبخرة والمياه الحارة التي صاحبت النشاط البركاني في قاع البحر حملت معها تلك المواد التي ترسبت كيميائياً في قاع البحر، مختلطة بالمواد البركانية، أي أن العوامل البركانية والعوامل الرسوبية تظافرتا معا لتكوين مثل هذه الرواسب بطريقة تختلف كثيراً عن الرواسب الحرمائية. وفي نفس العام (1919) نشر كارتسن بحثاً عن بعض رواسب النحاس المصاحبة للصخور البركانية في النرويج وذكر نفس ما ذكره أوهاشي في اليابان، فكان ذلك هو بداية ظهور ما يسمى بالنظرية البركانية الرسوبية(Volcano-sedimentary theory) التي بدأ الجيولوجيون يأخذونها بعين الاعتبار في ستينات القرن العشرين، كبديل للنظرية الحرمائية في تفسير كثيرا من ظواهر الرواسب المعدنية، وقد نجحت هذه النظرية نجاحاً كبيراً في العديد من المجالات خصوصاً في حالات الرواسب الطباقية.
ومن أهم الاكتشافات فى ذلك الوقت التي أيدت هذه النظرية تأييداً قاطعاً، اكتشاف الينابيع الحارة في قاع البحر الأحمر؛ ففي منتصف قاع البحر الأحمر يوجد أخدود عميق يمتد بطول البحر إلى مسافة كبيرة. وقد دلت الدراسات الجيوفيزيائية على وجود شذوذ مغناطيسي كبير فوق هذا الأخدود. وفسر ذلك بأنه نتيجة لتداخلات بازلتية في قاعه. وبتوالي الدراسات، اكتشف أن هذا الأخدود يحتوي على عدة أحواض (Basins) تبلغ درجة حرارة مياهها حوالي 56°م، وهذا أعلى بكثير مما هو متوقع في مثل هذه الأعماق. والأعجب من ذلك هو احتواء مياه القاع في هذه الأحواض على نسب عالية من الحديد والرصاص والزنك والنحاس، كما وجد أن كبريتيدات هذه الفلزات تترسب مختلطة برسوبيات القاع، وينتج عنها طبقات رسوبية طينية تحتوي على نسبة عالية من كبريتيدات النحاس والرصاص والزنك؛ وهذا مثل واضح وقاطع على تكون راسب معدني حديث بالطريقة البركانية الرسوبية، فمصدر هذه المياه الحارة المحملة بالمواد المعدنية لابد وأن يكون هو النشاط البركاني البازلتي في الأخدود الأوسط للبحر الأحمر. والاعتقاد الحالي الآن أن كثيراً من الرواسب المعدنية الطباقية، قد نشأت بطريقة مماثلة لما يحدث في قاع البحر الأحمر.
وبهذا أصبحت النظرية البركانية الرسوبية ثابتة الأقدام في تفسير نشأة الرواسب المعدنية في الوقت الحالي، خصوصاً وأنها تواكب آخر صيحة في عالم الجيولوجيا بخصوص نشأة وتطور القشرة الأرضية بكل ما فيها من صخور ومعادن، ألا وهي نظرية تكتونية الألواح (Plate tectonics).
ممدوح عبد الغفور حسن
رئيس هيئة المواد النووية سابقا
33442749
0105604772
ساحة النقاش