هدي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
في اكتشاف الطاقات الإبداعية وتوظيفها
كاتب المقال الأستاذ فوزي غراب
اكتشاف الطاقات الفاعلة والمبدعة في المجتمع وحسن استغلالها وتوظيفها في مواقعها المناسبة،هي من أهم مواصفات القائد الناجح ، ومن أهم عوامل الانطلاق نحو التطور والازدهار، و هي سبيل الشهود الحضاري والتمكين في الأرض ، بل هي من أرقى مظاهر مهمة العمارة و الاستخلاف.
وهذه المسألة المسايرة لسنن الله تعالى في الحياة والأحياء، هي من صميم منهج الإسلام الداعي إلى اكتشاف الكفاءات وتنميتها وحسن توظيفها في الواقع لتحقيق الفاعلية المنشودة الهادفة إلى ترسيخ قيم الخير والعدل، و إزاحة كل مظاهر الشر والظلم والفساد، قال تعالى : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (76) سورة النحل
وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تبين امتلاك قادة البشرية من الرسل والأنبياء والمصلحين لمختلف القدرات والكفاءات التي تميزوا بها عن غيرهم من الناس واستطاعوا أن يحققوا من خلالها آثارا طيبة تعجز عن تحقيقها الجماعات الكبيرة في الدهور الطويلة . فإبراهيم عليه السلام امتلك لوحده من الخلال الروحية و المنهجية والعملية مالا تمتلكه الأمة مجتمعة فقال عنه عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } (120) سورة النحل، وهو لم يستحق هذا الوصف لمجرد صفات وجدت فيه، وإنما للآثار الطيبة والعظيمة التي جسدها في الواقع الذي عاش فيه، والأزمنة التي جاءت من بعده إلى يوم الدين ، وهذا موسى عليه السلام برزت فيه صفتا القوة والأمانة ولاحظتهما ابنتا الرجل الصالح في الوقت القصير الذي تعرفتا عليه فيه فرشحتاه للعمل عند أبيهما : {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } (26) سورة القصص ، ويثني القرآن الكريم على أنبيائه مشيرا إلى جهودهم العظيمة وآثارهم الحسنة في الحياة {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (45) سورة ص ، ويوسف عليه السلام يعلن عن استحقاقه لمنصب رفيع في الدولة واستعداده لمواجهة سنين القحط والجوع التي تتهدد المجتمع {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (55) سورة يوسف ، ويأمر الله تعالى نبيه يحيى أن يستجمع طاقاته ويوظف إمكاناته للتمكين للوحي فيقول {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (12) سورة مريم ويطلب ذو القرنين ممن حوله استغلال القوى والإمكانات التي متعهم الله بها لجلب المصالح ودفع الشرور عن أنفسهم وديارهم {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} (95) سورة الكهف ، ويأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يوظفوا ما وهبهم الله تعالى من القوى والمواهب لحسن عبادته و تعبيد الناس من حولهم لله رب العالمين . فقال عز وجل : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (16) سورة التغابن ، وقال أيضا { خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (63) سورة البقرة
وعلى هذا الهدي القرآني سار أكمل الخلق رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان في نفسه مثالا للكمالات في شتى مجالاتها ،ومثالا للعطاء في أقوى مراتبه ، ورغم أن بعض الناس قد انفجرت طاقاتهم المحدودة وقويت بصماتهم المعدودة في مجال محصور من مجالات الحياة، فقد كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قمة القمم في كل جانب ، فما من مجال إلا وعطاؤه فيه أتم وأوفر ،أينما توجهه يأتي بكل خير ، فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ النبي الذي استوعب محاسن جميع النبيين، وحقق نجاحات في مهامه الرسالية إلى أبعد ما يتصوره بشر، فما من اعوجاج إلا قومه وما من فرصة للتغيير والإصلاح إلا استغلها، فكان يجالس أصحابه يعلمهم ويعظهم وخص النساء بمجلس يذكرهم، فيه كما كان للأطفال نصيبهم من توجيهه وإرشاده كما في حديث ابن عباس ( يا غلام إني أعلمك كلمات ...)، فما من فرد في المجتمع رجلا أو امرأة كبيرا أو صغيرا إلا وقد قبس قبسة من نور رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وهو عليه الصلاة والسلام رئيس الدولة القوي الأمين المشفق على رعيته ،المتفاني في خدمة شعبه ، وهو القاضي العالم العادل الذي يصلح بين الناس ويرد الحقوق إلى أصحابها فيحل المشكلات بسرعة عجيبة حتى لا يبقى لها أثر، فلا يرجع عنه المتخاصمان إلا وابتسامة الرضا تعلو وجهيهما معا ، هذه الإمكانية العجيبة في حل المشكلات جعلت رجلا كبرناردشو الأديب الإنجليزي يقول : ( ما أحوج العالم إلى رجل كمحمد يحل مشاكله وهو يشرب فنجانا من القهوة ) ، وهوـ صلى الله عليه وسلم ـ قائد الجيش ينظم الجيوش ويضع خطط الحرب بل ويشارك في القتال، وأحيانا يحتمي به أصحابه حينما يشتد عليهم ، وهو رب الأسرة يقوم على خدمة العديد من البيوت في رعاية كاملة وعدالة تامة لا نظير لها ، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ على كثرة مشاغله وتعددها يكنس بيته ويحلب شاته ويخيط ثوبه ويخصف نعله ويقوم على خدمةأهل بيته ، فكان مثالا للزوج العطوف والأ ب الرحيم والقريب الواصل ، وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ التاجر الصدوق الأمين والعامل المتقن لعمله يجلب رزقه بكد يمينه وعرق جبينه ، ويأبى أن يكون عالة على الناس وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفرد الصالح النافع المشارك لعامة الناس من حوله في أعمالهم التطوعية الفردية والجماعية، فيبني المسجد ويحمل الحجارة على كتفه الشريف ، ويحفر الخندق و يجمع الحطب لطهي الطعام ،ويتناوب مع أصحابه على الراحلة ، تأتي إليه الضعينة فيذهب معها حتى يقضي لها حاجتها ، ويحمل للعجوز متاعها حتى يوصله إلى بيتها ، يتفقد أصحابه ويسأل عن أحوالهم، وحينما يعلم بوفاة المرأة التي كانت تخدم المسجد يحزنه ألا يعلم بحالها فيذهب عند قبرها ويصلي عليها ،وفوق كل ذلك فهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ العابد الزاهد ، يسبق الناس إلى الصلاة و يكثر من الصيام بل يصله أحيانا ولا يتخلى عن قيام الليل، ويكثر من الصدقات فيعطي الرجل ما بين جبلين من الغنم .
هذه قطرة من بحر في مجالات عطائه وميادين سخائه وتواجده ـ صلى الله عليه سلم ـ فما من حسنة فعلت ولا سيئة رفعت إلا وهو صاحبها أو دليل عليها.
وبقدر تجسيده ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقيم الإيجابية في النفع والعطاء وحسن الإستفادة من القوى والإمكانات المتاحة، فقد عمل ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ترسيخ هذه الفضائل في أصحابه فهما وسلوكا، فلم يكن يرضى لهم بالدون استيعابا وعطاء بل كان يحثهم على شحن الهمم والتطلع إلى القمم، تجسيدا لقوله تعالى :{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (74) سورة الفرقان ، وفي ذلك يقول الشاعر :
فانهض إلى صهوات المجد معتليا فالباز لا يرضى إلا عالي الشجر
ويجيئه الأعمى ليطلب الرخصة في التخلف عن الصلاة فلا يطاوعه في ذلك ويأمره بإجابة النداء ، ويتخلف عنه من يثق به من كبار أصحابه فلا يرضى منهم بالتخلف ولا يقبل توبتهم حتى ينزل فيهم قرآنا، بخلاف المنافقين الذين لم يكترث لقعودهم وتخلفهم ، وحينما يثني على أحد أصحابه يذكره في الوقت نفسه بما ينقصه من خصال الخير كما فعل مع ابن عمر حينما قال صلى الله عليه وسلم " نعم العبد عبد الله - بن عمر -- لو كان يقوم الليل " فما ترك عبد الله بن عمر قيام الليل بعدها أبداً.
ورغم أنه رسول مؤيد من الله تعالى فقد كان شعاره بين أصحابه ( أشيروا علي أيها الناس ) وما ذاك إلا ليستنهض الهمم ويشجع الإبداعات ويكتشف الطاقات الفاعلة والمتميزة ويفسح الطريق أمام الإيجابية و روح المبادرة العطاء .
لقد أدرك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طبيعة الصراع وفقه سنة التدافع و( لم يغب عنه أن أي نهضة ناجحة تتطلب إيجاد كوادر مؤهلة لقيادة منظومة حضارية قادرة على الابتكار والإبداع ومسايرة الزمن ) فعمل على اكتشاف المواهب والكفاءات وحسن استغلالها ، وقد أظهر ـ صلى الله عليه وسلم كفاءة لا نظير لها في تلمس قدرات أصحابه ومواهبهم في مختلف صورها و استنطاق جميع طاقات أصحابه ووضع كل فرد في مكانه المناسب وفي الوقت المناسب فكل ميسر لما خلق له ، (فذهب كل منهم يعمل عقله وفكره لخدمة الفكرة التي آمن بها وذلك بأعلى درجات الكفاءة و الفعالية الفردية والتنظيمية ، فقد جعل كلا منهم قائدا متميزا في مجاله ، يستشعر أعلى درجات المسؤولية، وينغمس في العمل لفكرته بكل كيانه ووجدانه، ويشارك ويبدع ويبادر بتقديم أفكاره ورأيه دون حتى انتظار أن يطلب ذلك منه )
ففي مجال العلم والتدوين قيد صلى الله عليه وسلم العلم بالكتاب واختار الأكفأ من أصحابه لتدوين الوحي الإلهي ، فأدوا مهامهم في أحسن ما يرام ونحن ننتفع بذلك التدوين الأمين المتقن إلى اليوم .
وحينما بايعه أهل المدينة أرسل فيهم الشاب الداعية مصعب بن عمير فلم يأت العام المقبل إلا وقد دخل الإسلام كل بيوت المدينة .
وهذا أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ اشتهر بصلاحه وزهده وورعه ، أثنى عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم فقال : "ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر" رواه الإمام أحمد ، ورغم ذلك فقد جاء يوما إلى رسول الله يطلب الولاية فقال: يا رسول الله ألا تستعملني فضرب بيده على منكبه ثم قال: ( يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) مسلم، أدرك ـ صلى الله عليه وسلم ضعف كفاءته في هذا المجال فأعفاه من ذلك .
وبعد اتساع رقعة الدعوة أدرك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضرورة إتقان لغات القوم فهما وكتابة، فاختار لذلك أكفأ أصحابه في هذا الشأن زيد بن ثابت قال عليه الصلاة والسلام لزيد: "تعلم السريانية فإنها تأتيني كتب من يهود ولا آمن يهود على كتابي". قال زيد: فتعلمتها في نصف شهر".رواه أحمد والبخاري. ولم يكتف زيد بتعلم السريانية بل تعلم لغات غيرها كالفارسية والرومانية والقبطية والحبشية فهو أول من وضع أسس الترجمة للدولة الإسلامية.
وأدرك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكانة الشعر عند العرب ومدى تأثيره في نفوسهم، فوقعه أشد عليهم من السيوف في ساحات الوغى، وقد ندب إلى هذه الوسيلة من توسم فيهم الموهبة والكفاءة ، ومن هؤلاء سلمة بن الأكوع وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت، وأوقعت أشعارهم هزات وجراحات في نفوس الكافرين وطمأنينة وتثبيتا للمؤمنين
ساحة النقاش