الثقافة والمجتمع والتربية :
يقصد بالثقافة الإلمام بقضايا المجتمع ، وتكوين رأى فيها ، على أن هذا التعريف لم يتسع انتشاره بعد ، ويرى البعض أن الثقافة تضم الجانب المعنوى أى الفكرى من أنتاج الإنسان ، أما الآخر فيضمن الثقافة ما اصطنعه الإنسان فى بيئته من إنتاج معنوى ومادى.
والفصل بين الإنتاج المادى والإنتاج المعنوى لا مبرر له ؛ وذلك لأن الإنتاج المادى لا بد أن تسبقه فكرة ، أى إنتاج معنوى ؛ فالإنتاج المادى هو المظهر التطبيقى للإنتاج المعنوى .
وفى ضوء هذا التعريف الشامل ، تضم الثقافة نسيج الأفكار والمثل والمعتقدات والمهارات والأدوات والأشياء وطرق التفكير والتقاليد والعادات والمؤسسات المختلفة التى يولد فيها كل عضو فى المجتمع ؛ فالطريقة التى يحصل بها الأفراد على معاشهم ، وأنواع الرياضة التى يمارسونها ، والقصص التى يتناقلونها والأبطال الذين يعجبون بهم ، والموسيقى التى يؤدونها، وطريقة رعايتهم لأطفالهم ، والتنظيم الأسرى ، ووسائل الاتصال والانتقال التى يستخدمونها ، ونظمهم الاقتصادية والسياسية ، ومعانى الحقوق والواجبات والأخلاق عندهم .. كل هذه الأمور ، وكثير غيرها لا يمكن حصره – تكون ثقافة القوم .
اختلاف الثقافات :
تختلف الثقافة من مجتمع لآخر ، فمن الواضح أن ما يعلمه الناس ، وما يعتقدونه ، وما يحبونه ، يختلف من مجتمع لآخر ، كما تختلف هذه الأمور كلها فى داخل المجتمع الواحد على فترات متباعدة بل إن ما يعتقده فرد معين ، وما يفعله ، واستجاباته لمختلف المؤثرات ، كلها أمور متغيرة تبعا لتغير خبراته وثقافته .
مقومات الثقافة وعناصرها :
ويمكن تقسيم الثقافة إلى ثلاث مجموعات متميزة :
<!--العموميات : وتشمل عناصر الثقافة التى تشيع بين الكبار بصفة عامة ؛ فالأفراد فى المجتمع ، مثلا يأكلون أطعمة معينة ، ويلبسون ملابس مصنوعة بطريقة معينة ، ويستخدمون لغه واحدة ، ويحيى بعضهم بعضا بطريقة واحدة ، وقد تكون لهم معتقدات دينية واحدة وأفكار اقتصادية وسياسية مشتركة ، ويتقبلون قواعد للسلوك المهذب واحدة، ولنلاحظ أن العناصر العامة فى ثقافة ما ، هى عناصر خاصة بتلك الثقافة ، وقد نجدها من بين العناصر العامة فى ثقافة أخرى ، كما قد نجد بعضها فى ثقافة أخرى ولكن دون أن يكون لها صفة العموم .
<!--الخصوصيات : وتتضمن العناصر التى لا نجدها إلا بين بعض الكبار ففى كل مجتمع أشياء ومعان لا يعرفها أو يعملها إلا أفراد مجموعات معينة من الناس، وهذه تتمثل أساسا فى المهارات وألوان المعرفة الفنية التى تتطلبها المهن المختلفة ، فهناك تخصص فى العمل فى كل مجتمع ، فالمشتغلون بالزراعة ، لهم خصوصياتهم الثقافية المتصلة بهذه المهنة أو الحرفة فيعرفون أسرارها أكثر مما يتاح لغيرهم ، وكذلك الحال للمشتغلين بالصيد أو المشتغلين بالصيد أو المشتغلين بالرعى كما أن للمهندسين خصوصياتهم وللأطباء خصوصياتهم ، وللمدرسين خصوصياتهم ، التى تتمثل فى فهمهم لأهداف التربية، والطرق المناسبة فى مواقف معينة لتحقيقها وكيفية تقديم العون للتلاميذ ، للتغلب على ما قد يصادفهم من مشكلات دراسية وغير دراسية .
وبالإضافة إلى الخصوصيات المهنية ، توجد خصوصيات تنفرد بها جماعات من الأفراد الذين يشغلون مراكز أو أوضاعا اجتماعية معينة ، وقد أثبتت البحوث التى أجريت فى بعض المجتمعات أن أبناء الطبقة الوسطى ، أكثر اهتماما من غيرهم من أبناء الطبقتين الأخريين العليا والدنيا فى الحياة وفق القوانين التى يرتضيها المجتمع ، كما أنهم حريصون على تحقيق التقدم لأبنائهم عن طريق التعليم المدرسى ، ثم هم يهتمون بادخار جانب من دخلهم لمواجهة طوارئ الحياة فى مستقبلهم بينما تبين مثلا أن أبناء الطبقة الدنيا يهتمون بالملذات الحسية العاجلة كما يهتمون بالحاضر لا المستقيل ، ثم هم لا يعلمون عن القانون كثيرا ولا يلتزمون به، بل إن أفرادها يميلون إلى استخدام أساليب العنف الجسمى لحل خلافاتهم مع الغير .
ويلاحظ أن الخصوصيات ، ولو أنها غير معروفة لجميع أفراد المجتمع معرفة دقيقة ، إلا أن معظمها يعرفه كل فرد فى المجتمع وخاصة فى المجتمعات البسيطة، فقد لا يعرف الفرد كيف يطهى الطعام ، ولكنه يعرف ما إذا كان طهيه جيدا أم لا، وقد تعوزه المهارة أو العلم الذى يعرفه الطبيب ، ولكنه يستطيع أن يفهم وظيفة الطبيب فى المجتمع وأهمية الصحة وبعض أساليب المحافظة عليها ، أما المجتمعات التى تقدم فيها العلم تقدما كبيرا فإن الخصوصيات فيها يصعب فهمها على غير المشتغلين بها .
(جـ) البدائل : وتتمثل فى العناصر الثقافية التى تشيع بين أفراد متفرقين ، لا ينتمون لجماعة معينة بعكس الحال فى الخصوصيات ، كما أنها لا تشيع بين سواد المجتمع بعكس الحال فى العموميات ، وتتكون هذه العناصر من طرق التفكير والعمل التى تختلف عما يمارسه الناس من أفكار وأعمال ، وذلك كالطريقة الجديدة فى التدريس أو فى طهى الطعام ، أو الأسلوب الجديد فى العلاج ، أو غير ذلك من الأفكار والأعمال التى لا يعيش بها سوى أفراد قليلين ، وقد سميت البديلات بهذا الاسم لأنها تمثل عناصر ، يملك الأفراد حرية الاختيار بينها وبين عناصر أخرى يجدونها فى ثقافتهم ، عمومياتها أو خصوصياتها.
والثقافات الثابتة نسبيا التى لا تتغير على مدى سنين طويلة ، هى الثقافات التى تقل فيها البديلات ، ذلك أن البديلات تمثل الطرف النامى للثقافة ، فعندما تظهر طرق جديدة للعمل وأفكار جديدة للتعامل وتنظيم الحياة ، وتصل إلى الحد الذى يجعلها مقبولة لدى المجتمع عامة أو لدى طائفة معينة فيه ، فإنها تندمج حسب طبيعتها فى العموميات أو الخصوصيات .
فالبديلات تمثل إطار يحيط بمحور الثقافة ؛ ونعنى به العموميات والخصوصيات ، وتتألف هذه البديلات من العناصر الثقافية غير المتآلفة وغير الملتحمة بالثقافة الأصلية ، أو الداخلية على الثقافة ، والتى تنتظر السماح لها بالاندماج ، مع الجانب المركزى من محتوى الثقافة .
ويتميز محور الثقافة ( عمومياتها وخصوصياتها ) بأنه يمثل الجانب الذى لا يقبل التغيير بسهولة ، فهو جانب ثابت أو مستقر بصفة عامة ، وذلك لأنه يمثل العناصر التى قبلها المجتمع بعد أن مرت بدور التجربة ، ولذا فإن أى تعديل فيها يقابل غالبا بمقاومة من أفراد المجتمع ، وهذا المحور يمثل القواعد الأساسية وأنواع المعرفة والمهارات التى يعيش بها الناس ، والتى يواصلون سلوكهم ويبررونه ، والتى عليها يبنون آمالهم ومطامحهم ، فهذه العناصر يستمد منها المجتمع استقراره ، وعلى أساسها تقوم المؤسسات الاجتماعية ، كما أنها تكون أسس الحكم الاجتماعى والأخلاقى وقواعده.
استمرار الثقافة وتجددها :
ويعتبر تفاعل الفرد مع بيئته دعامة لاستمرار الثقافة وتجددها ، فالفرد يتفاعل مع بيئته المادية فيعدلها أو يتكيف معها ؛ حتى يضمن استمرار حياته فيها ، وهو يتفاعل مع بيئته الاجتماعية بعناصرها الثقافية ليضمن القدرة على الانسجام معها، والحياة فيها كعضو من أعضائها . وفى هذا التفاعل بنوعيه نجد أفرادا توافرت لديهم القدرة على التغيير فى بيئتهم وتجديد ثقافتها ، سواء أكان ذلك بفضل ما استحدثوه من أساليب جديدة أم ما نقلوه عن ثقافات أخرى . وعن طريق هذا التفاعل أيضا تتم عملية النقل الثقافى من جيل إلى جيل ، الأمر الذى يضمن للثقافة استمرارها ، وقد يحدث هذا النقل عرضا باتصال الصغار بالكبار ، أو يحدث بطريقة منتظمة مرسومة ، عن طريق المؤسسات الاجتماعية المختلفة ومنها المدرسة .
ولقد كان الاعتماد على اتصال الصغار بالكبار كوسيلة لنقل التراث الثقافى من جيل إلى جيل ممكنا فى المجتمعات البدائية ذات الثقافة المحدودة ، وكان الصغار يتعلمون عن الكبار عاداتهم ولغتهم وحرفهم والتقاليد السائدة بينهم ، وغير ذلك من عناصر ثقافتهم ، ومع تقدم المدينة وتعقدها ، وأصبح هذا الأسلوب فى تربية الصغار أسلوبا غير مجد ، فأنشئت المدرسة خصيصا لتقوم بجانب مهم فى التربية بدلا من الآباء .
ساحة النقاش