أنظمة اكتساب اللغة المسموعة:
إن الأصوات هي اللبنات التي تشكل اللغة، أو المادة الخام التي تبنى منها الكلمات والعبارات، فما اللغة إلا سلسلة من الأصوات المتتابعة أو المتجمعة في وحدات أكبر ترتقي حتى تصل إلى المجموعة النفسية.
كيفية اكتساب الأصوات:
الصوت هو عملية حركية يقو بها الجهاز النطقي، وتصحبها آثار سمعية معينة، وهو يأتي من تحريك الهواء فيما بين مصدر إرسال الصوت وهو الجهاز النطقي ومركز استقباله وهو الأذن.
وتنقسم الأصوات الأولى التي يصدرها الطفل إلى نوعين رئيسيين متعاقبين في تطورهما، فيأتي النوع الأول في مرحلة الصراخ ونطلق عليها (اسم أصوات ما قبل اللغة)، ويبدأ النوع الثاني الظهور فd مرحلة المناغاة التى تشهد بدايات الأصوات اللغوية، ثم تتضح ملامحه شيئاً فشيئاً في مرحلة الثغثغة وأشباه الكلمات.
1- الصراخ وأصوات ما قبل اللغة Crying Stage:
وأول أصوات الطفل فهو عضوي بحث ولا علاقة مباشرة له باللغة كما نفهمها نحن، وصراخ الطفل في الأربعة أشهر الأولى من حياته ليس إلا تعبيراً عضوياً عن حاجاته الآنية. غير أن هذه العملية العضوية تلعب دوراً فسيولوجياً تمهيدياً وحيوياً في تأهيل أجهزة النطق عند الطفل للتعامل مع اكتساب اللغة فى المراحل اللاحقة لمرحلة الصراخ.
ويرى بعض العلماء أن صرخة الطفل تعتبر أول بادرة يعبر الطفل من خلالها على قدرته على التصويت، ويقول العالم Ostwald أن الصراخ الحاد الانفجاري هو أكثر أهمية بالنسبة للطفل لأنه يفيد في نمو اللغة.
كما يرى بأن عملية البكاء والصراخ لدى الطفل لها قيمة اجتماعية وإشارة إلى أن الطفل محتاج إلى رعاية وعطف.
وتعد صرخات الطفل من النوع الضعيف والقصير ويصبح الشهيق في الصراخ قصيراً، وتزداد فترة الزفير.
وللصراخ أهمية كبرى في تمرين الجهاز المختص بالكلام الذي لم ينضج بعد، إلى جانب أن الصراخ يساعد الطفل على إشباع حاجاته الأساسية ورغباته كما يحدث عندما يؤدى الصراخ إلى التخلص من الجوع أو الألم أو الحصول على انتباه الآخرين.
2- المناغاة وبدايات الأصوات اللغوية Babbling Stage:
المناغاة هي النوع الثاني من الأصوات غير اللغوية التي يصدرها الطفل وغالباً ما تبدأ هذه المرحلة بحلول الشهر الخامس من عمر الطفل، وقد تستمر إلى أن يتجاوز عمره العام أو حتى أكثر بقليل، والمناغاة هي حلقة الوصل في انتقال الطفل من الصراخ البيولوجي البحت إلى أول أصوات اللغة، إذا إن الطفل ينتقى في مناغاته من أصوات الصراخ أصواتا يطورها ويرتقى بها ويضيف إليها، وهو يفعل ذلك إما بغرض التعبير عن نفسه أو اللهو والتسلية والمناغاة كالصراخ ليست عاملاً شرطياً لاكتساب اللغة، بل سلوك صوتي موروث يصدر عن كل الأطفال ولا يعتمد حدوثه على وجود دخل لغوى مسموع.
ويؤكد كثير من العلماء على حقيقة مهمة وهى أن الأصوات التي يصدرها الطفل عند بداية مرحلة المناغاة هذه لا ينطقها قاصداً ومقلداً لأصوات الآخرين، وإنما تنتج هذه الأصوات بالصدفة البحتة من الحركة العشوائية لأعضاء جهاز الكلام، أي أن أصوات المناغاة ليست أصواتا مكتسبة متعلمة.
ونتيجة لذلك يرى العلماء أن إصدار الطفل لأصوات المناغاة لا يأتي تقليداً للأصوات التي يسمعها من حوله. ويتفق علماء لغة الطفل كذلك على اعتبار أصوات المناغاة شكلاً من أشكال نشاط اللعب Playful أو " حديث اللعب Playful speech وينظرون إليها بوصفها مجرد نشاط عضلي خالص يحقق للطفل سعادة ويجد المتعة في إصدار هو ترديده. وكدليل على أن الطفل يجد متعة وسعادة في المناغاة يلاحظ أنه يبتسم ويضحك على الأصوات التي يصدرها.
وقد لوحظ بأن الأصوات لدى الطفل فى مرحلة المناغاة تبدأ بحروف الحلق المرنة مثل أحرف (آ، ع، غ، خ) ثم أحرف سقف الحلق، ثم أحرف الشفاه مثل (م، ب) ثم أحرف طرف اللسان مثل (ز، ث، ذ) ثم أحرف وسط اللسان مصل (ص، ض،. ....).
هذا وتدل أبحاث أيروين Irwin على أن نسبة الحروف المتحركة إلى الحروف الساكنة في أصوات الطفل في مرحلة المناغاة تبلغ من 4: 1 في البدء ثم تتطور في منتصف السنة الأولى 2: 1 ثم تبلغ في نهاية هذه السنة 1: 3.
وتبدأ المناغاة غالباً بأصوات تتكون من مقطع واحد يتكرر مثل دا – دا – دا أو ما – ما – ما ثم مقطعين مثل داما – داما – داما ثم بأكبر من مقطعين مثل تارا – تارارا، وهكذا، وظهور هذه المقاطع من الأهمية بمكان، فهي الإشارة الأولى إلى أن الطفل قد بدأ في إدراك سمة شديدة الخصوصية والأهمية في لغة الإنسان ألا وهى سمة مقطعية اللغة، وذلك أن أصوات اللغة لا ترد بصورة عشوائية، بل ينظمها نظام مقطعي صارم تأتى فيه الأصوات مرتبة في مقاطع تركيبية محددة لا تخرج عنها تجميعات الأصوات النغمية.
وفى أواسط مرحلة المناغاة، تبدأ نغمات الطفل فى التشابه مع نغمات اللغة كما ينطقها الكبار حوله ويظهر ذلك فى اكتساب الطفل نغم الألفاظ، وإيقاع الجمل، ونبرات الحديث، دون اكتسابه محتوى لغوياً لفظياً حقيقاً لأي منها.
وتعد دلالة النغمات من أول ما يكتسبه الطفل في اللغة، فنلاحظ بجلاء فيما ينتجه من تنغيمات قدرته على التمييز بين أغراض الحديث المختلفة من إخبار أو استفهام أو أمر، وعلى التفرقة بين الحالات الوجدانية مثل الغضب والرضى والاستحسان. ويرى المحدثون من العلماء أن اكتساب الطفل دلالة اللغة النغمية هو الخطوة الأولى لاكتسابه سمة العلامة الرمزية بين الصوت والمعنى اللغوي.
والمناغاة ترد في أصواتها، فالطفل يصدر في مناغاته من الأصوات والملامح الصوتية الكثير، وهو يبدأ في تطوير أجهزة النطق والسمع لديه تمهيداً لبدء إنتاجه أصوات لغته وإتقانها، وعادة ما يتضمن هذا التطوير تجارب تمهيدية، يجريها الطفل لصقل مهاراته الصوتية وتذهب بعض الآراء في تفسير ثراء أصوات المناغاة وتشابهها مذهباً بعيداً مؤداه أن الطفل يولد قادراً على إنتاج مختلف الأصوات. وأن تعلم لغة معينة أو اكتسابها لا يعدو أن يكون عملية تعرف الطفل من ناحية على الأصوات التي توجد في لغته فيحتفظ بها وينمى قدرته على إنتاجها بكفاءة، وتحديده من ناحية أخرى تلك الأصوات التي لا توجد في لغته فيستبعدها ومن ثم يفقد تدريجياً قدرته على إصدارها.
وتتشابه الأصوات التي يصدرها الطفل في مرحلة المناغاة على الرغم من اختلاف اللغات في بيئات الأطفال فمثلاً يقوم الأطفال بإصدار أصوات الباء والميم والذال والزاي والشين واللام والراء.
3- ترتيب اكتساب الأصوات:
وهناك ملاحظات عامة على ترتيب اكتساب الطفل للأصوات، من أبرزها وأكثرها عمومية اكتسابه أصوات الحركات قبل السواكن، واكتسابه لأصوات الانفجارية قبل بقية الأصوات الساكنة، عادة ما يكتسب الطفل لأصوات بالترتيب التالي:
الشفوية ثم اللهوية، فالحلقية، ثم الشجرية، ويلي ذلك اكتساب الطفل لأصوات ما بين الأسنان ثم الأصوات المفخمة، ويقول، ويقول عالم اللغويات " رومان جاكوبسون " إن الطفل في البداية يكتسب الأصوات الشائعة في كل اللغات ثم يكتسب بعد ذلك الأصوات الأقل شيوعاً في لغات العالم أو تلك الأصوات التي تختص بها لغته دون غيرها من اللغات.
الثغثغة وأشباه الكلمات:
وبانتهاء مرحلة المناغاة، تبدأ فيما بين الشهرين التاسع والثاني عشر مرحلة الثغثغة التالية لها، وهى مرحلة قد تستمر إلى أن يبلغ الطفل سن العامين أو العامين والنصف وبإيذان مرحلة الثغثغة يبدأ الطفل لأول مرة في إنتاج أشباه كلمات تعكس الخصائص النغمية العامة للغة وتتضمن بعض أصواتها كما تظهر في كلمات حقيقة يستخدمها الراشدون من حوله، وأشباه الكلمات هذه من الأهمية بمكان.
فهي الإشارات الأولى إلى اكتساب الطفل أو تفعيله، خاصية أساسية من أهم خصائص اللغة الإنسانية، ألا وهى القدرة على إدراك الارتباط الرمزي العشوائي بين لفظ بعينه يوجد في بيئة الطفل وخارج ذاته. وبين دلالة وسياق محددين. وحين يتحقق هذا الإدراك يأخذ الطفل أولى خطواته على طريق محاولة استخدام هذه الألفاظ للتعبير عن دلالات بعينها وتوظيفها في سياقاتها الاجتماعية لمناسبة. ولذا نعتبر أشباه الكلمات هذه أولى كلمات الطفل رغم ما قد يشوب لفظها من تحريف نطق بعض أصواتها من عدم دقة.
ونلاحظ أن أشباه الكلمات التي ينطقها الطفل في مرحلة الثغثغة تختلف عما ينطق به الراشدون اختلافات رئيسية عن الكلمات الأصلية، سواء من حيث عدد المقاطع الصوتية بالكلمة أو التركيبات الصوتية المتتالية، إن قدرة الطفل على فهم ما حوله من لغة تسبق قدرته على الإنتاج وتفوقها بكثير، ولذلك فإن الطفل وهو مدفوع برغبته في الاتصال بمن حوله، يلجأ في محاولته تعويض الفارق بين قدرته على الفهم بين قدرته على الفهم وقدرته على الإنتاج إلى تعويض هذا النقص مستخدماً استراتيجيات نذكر منها:
أ- تسهيل المقطع:
وفيه يقوم الطفل بحذف صوت أو أكثر لتسهيل نطق الكلمة مثل حذف بعض الأصوات الانفجارية مثل (تاد بدلاً من ستاد) وكذلك حذف الأصوات اللينة مثل (الراء – واللام) التي تأتى بعد أصوات انفجارية مثل (توح بدلاً من تروح) أو حذف الصوت الساكن الأخير من الكلمة مثل (تيفون بدلاً من تليفون).
ب- الإبدال:
هو أحد أكثر الاستراتيجيات الصوتية انتشاراً في المراحل الأولى لاكتساب اللغة وهو إبدال صوت بآخر، والإبدال بطبيعة الحال وجه آخر للتسهيل، ومن ذلك إبدال السين تاء في (تكينه بدلاً من سكينة) وإبدال الشين سين مثل (ساي بدلاً من شاي) أو الحاء عين (وحوا بدلاً من ولعوا) وهكذا.
جـ- المشابهة والإدغام:
وتعنى تعديل ملمح صوتي أو أكثر من الملامح الصوتية لبعض أصوات الكلمة نتيجة لتأثير الأصوات المصاحبة لها، ومن ذلك أن ينطق الطفل الصوت متأثراً بطريقة نطق الأصوات المصاحبة لذلك في الكلمة مثل تحويل الحروف المهموسة لإلى مجهورة عندما يصحبها مثلاً أصوات مجهورة مثل (دين) بدلاً من (تين) أو زمكة بدلاً من (سمكة).
وربما يرجع السر فيما قد يتعرض لنطق الطفل من نقص في تقليد لغة أبوية، وهذا النقص في التقليد يخضع عادة لقواعد تبررها القوانين الصوتية وعلاقة الأصوات ببعضها.
فكثير من الأطفال يبدلون الكاف تاء لأن الصوتين يتحدان في صفتي الهمس والشدة، ولا فرق بينهما إلا فى المخرج، فانتقال المخرج من أقصى الحنك إلى أدناه يبرر إبدال الكاف تاء، لأن أقرب أصوات طرف اللسان إلى الكاف هي التاء، فقد يقول الطفل المصري " تلب في " كلب ". والأطفال الذين يميلون إلى إبدال الكاف " تاء " يميلون أيضاً إلى قلب " الجيم " التي هى مجهورة " الكاف " إلى " دال " التي هي مجهورة " التاء " فيقولون في " عجين " عدين " وفى " جدى " ددى ".
وصوت " الراء " صوت شاق عسير على معظم الأطفال، فأحياناً نسمعه " واواً " مثل " ربع " قد يقولون " وبع "، وأحياناً نسمعها منهم " غيناً " أو مهموس الغين وهو " الخاء " بابور " قد ينطقون بها " بابوغ "، ولا شك أن الواو واللام أسهل من الراء، لأنهما لا يحتاجان إلى جهد عضلي كبير، هذا إلى أن العلاقة الصوتية بين كل من اللام والواو وبين الراء واضحة جلية لأن كلاً من اللام والواو من الأصوات المائعة Liquids التي تشبه أصوات اللين، والواو كما سبق شرح طبيعتها الصوتية ليست في الحقيقة إلا صوت لين انتقالياً، فعلاقتها بالراء إذن لهوية، ولكون الراء عند بعض الأطفال لهوية، أمكن أيضاً أن يستعيضوا بها عن بعض الأصوات القريبة من اللهاة كالغين.
"الذال " أو نظيرها المهموس " الثاء " صوتان عسيران على الأطفال وعلى كثير من الكبار أيضاَ. فقد تطورت " الذال " من النطق العربي القديم إلى الدال أو الزاي في لهجات الكلام الحديثة، كما تطورت الثاء إلى التاء أو السين.
وكثير من الأطفال يقبلون الشين " سينا " فيقولون " شمس " بدلاً من " شمس " والسين " فاء.
الطفل أيضاً في نطقه يتلمس أيسر الطرق، ومالاً يكلفه جهداً عضلياً وهو لهذا لا يميل إلى توالى صوتين أحدهما مجراه الألف كالميم والنون والآخر مجراه الفم كباقي الأصوات. ولهذا يميل إلى جعل مجرى كلا الصوتين المتجاورين إما من الفهم فقط أو من الأنف فقط.
ساحة النقاش