الموقع التربوي للدكتور وجيه المرسي أبولبن

فكر تربوي متجدد

ماذا يقصد بالباعث والمناط وهل هناك فرق بينهما؟

من أفحش بدع المرجئة وسبب غلطهم أنهم لم يفرقوا في القصدين بين القصد الأول الذي يجعل الفعل إراديًا، والقصد الثاني الذي يعطي هذا الفعل تكييفه الشرعي. فالمشركون قدموا المدينة محاربين في أحد، وقدموا وفودًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم في أوقات أخرى ولا يسمون مهاجرين، وقد يقدمها من يريد التجارة ولا يسمى مهاجرًا، وإنما المهاجر من يقدم إليها ليدخل في ولاء الله ورسوله والمؤمنين، وكلهم مشتركون في فعل السفر، وقد أوقعوا هذا الفعل بقصد ولكن هذا القصد مع الانتقال لا يعطي صفة الهجرة، وإنما الانتقال كفعل إرادي قصدي: سفر، والسفر بقصد الدخول في جماعة المؤمنين في المدينة: هجرة، فهذا مناط الهجرة. أما الباعث عليها فأمر آخر، وهكذا في فعل القتل مثلاً فالفعل قد يقع خطأ محض فلا يكون إراديًا، وقد يقع بقصد القتل فيكون إراديًا ولكنه مع وقوعه إراديًا قد يكون إيقاعه إراديًا بقصد قتال الكفار، أو المرتدين أو المارقين، أو البغاة أو الممتنعين عن الشرائع، أو أهل الحرابة أو دفعًا للصائل فيكون مشروعًا، وقد يقع بقصد السرقة والنهب فيكون حرابًا وقطعًا للطريق أو غيلة أو عمدًا، وقد يقع قصاصًا أو إقامة لحد أو دفعًا لصائل وقد يقع مع كفار لمؤمنين مظاهرة للكفار عليهم فيكون ولاية للكافرين، فالقتل فعل واحد ولكن له تكييفات شرعية متنوعة من الجهاد، إلى إقامة الحدودوالقصاص ودفع الصائل إلى العمد والغيلة والحرابة وولاية الكافرين. والحكم الشرعي لا يتنزل على الفعل المحسوس مجردًا عن القصد مطلقًا فإن ذلك كأفعال العجماوات والجمادات، ولا يدخل على الفعل إراديًا قصديًا فقط دون ارتباط بأي قصد آخر فإن ذلك أيضًا لا يمكن تنزيل الحكم الشرعي عليه حتى تعرف جهته هل هو عمد، غيلة، قصاص، حد، حرابة، ولاية كافرين، جهاد، قتال مشروع، قتال غير مشروع، دفع للصائل؟. كل هذه المناطات قد يكون الفعل القصدي فيها واحدًا وهو القتل ولكن المناط مختلف تمامًا من مناط إلى مناط ولكل مناط حكمه الشرعي.
هذه مقدمـة، ولندخل في الموضوع بعد هذا الشرح:
مناط الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقع من عبد الله بن أبيّ بن سلول في حادثة الإفك، أذىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه الكفر الناقل من الملة. ووقع كلام من حسَّان وحمنة ومسطح لم يقع أذىً لأن زوجاته في الدنيا لم يكن لهنَّ بعد حكم زوجاته في الآخرة، وأنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، وأنه ليس له أن يبدلهن فكان من الممكن له وقت ذلك طلاقهن، ولذلك قال مَن قال: طلقها فإن النساء كثير. فالوقوع في عائشة رضي الله عنها وقتها ليس وقوعًا في عرضه لإمكان الانفكاك، أما بعد أن أصبحن زوجاته في الدنيا والآخرة وأنه ليس له أن يستبدل بهن من أزواج ولو أعجبه حسنهن، فالوقوع فيها وقوع في عرضه وقت ذاك لعدم إمكان الانفكاك ولذلك كفَّرت الأمة من يقع في عرض عائشة رضي الله عنها أو غيرها من أمهات المؤمنين بعد هذه الآية لأنه طعن في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك كفر. فلو وقع مناط الأذى من حسان أو حمنة أو مسطح وتحقق وقوعه منهم لكفروا به في أي وقت يقع، ولكن لم يقع منهم أذىً للرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم الذي تناقلوه لإمكان الانفكاك وقت ذلك ولو قالوا ما قالوه بعد عدم إمكان الانفكاك لوقع ما قالوه أذى، ولكفروا به بغض النظر عن الباعث لوقوع الأذى، فلو تحقق الأذى بأي نحو في أي وقت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكفر بذلك مهما كان باعثه، فلا فرق في أذى الرسول بين من يريد أذاه لدنيا يصيبها من غيره في مقابل هذا الأذى، أو لأنه يبغضه، أو يحسده، أو رعونة وحمقًا، أو استخفافًا بالحرمة لغرض، أو ليسب به إنسانًا سبه، أو لينال من سبه من عرض إنسان نال من عرضه أو غير ذلك، كل ذلك مُلغْى تمامًا كمن يسرق رغبة في التملك، أو إتلافًا لمال غيره، أو لينفق على المخدرات، أو الخمر، أو النساء، أو لمجرد شهوة السرقة مادام مناط السرقة قد تحقق، ولكن ليس كل آخذٍ لمال الغير بغير وجه حق يقال عنه أنه سرقة، فالسرقة لها مناط لا تتحقق إلا بتحققه، فإذا تحقق لا يختلف الحكم المنزل عليها باختلاف الباعث، وقد يتولى مسلم الكافرين عشقًا لامرأة، أو بسبب مال، أو شرف، أو ملك، أو أي مصلحة تتحقق له بذلك، أو حسدًا على أمير، أو بغضًا لقومه وعشيرته من المسلمين، أو لتغير اعتقاده. فالفرق بين عبد الله بن أبيّ أنه قصد بقوله الأذى وقوله إرادي، وقصده به الأذى إرادة أخرى للأذى، فهناك إرادة القول وإرادة الأذى به، وهذا هو الذي يعطي التكييف الشرعي للأذى. وحمنة ومسطح وحسان أرادوا القول ولم يريدوا الأذى به، وهذا هو الذي لم يعط لقولهم مناط الأذى، وبالتالي لم يأخذ قولهم حكم الأذى. ويُعرف هذا من ذاك بالقرائن الحالية والمقالية، ولو وقع منهم هذا القول بعد حكم الله فيها وفي غيرها من أمهات المؤمنين بأنهن زوجاته في الدنيا والآخرة وأنه ليس له أن يستبدل بهن من أزواج ولو أعجبه حسنهن لوقع القول منهم أذى له لعدم إمكان الانفكاك، ولم تقبل دعواهم بغير ذلك ولكفروا بذلك لإرادتهم القول، وقيام القرائن الحالية والمقالية لإرادتهم بالقول الأذى، فيقع بذلك مناط الأذى ويأخذ حكم الكفر. ولا فرق عندئذ بين أن يكون الباعث هو كره الرسول، أو تكذيبه، أو حسده، أو استخفافًا بحرمته لغرض كمَالٍٍ، أو شرف، أو نكاح، أو لذة، كل ذلك لا يغير من الحكم الخاص بالمناط.
وأصحاب بدعة الباعث بدلاً من المناط ربطوا الأحكام بالبواعث وصرفوها عن المناطات التي أنزلها الله وهذا هو تحريف الكلم عن مواضعه وقانا اللهُ الفتنة وعصمنا من الزلل.
هل هناك فرق بين من أراد القول وأراد بالقول الأذى والباعث له على ذلك غرض يناله من امرأة، أو مال يناله من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو ملك يناله بسبب ذلك، أو ما دون الملك من الشرف والمكانة والجاه عند أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كان الباعث حسده للرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغضه له، أو تكذيبه، أو شكه، أو لتغير اعتقاده، وهل من أراد القول ولم يرد به الأذى، يعتبر قد وقع في مناط الأذى؟! وهل يستوي هذا مع من أراد الأذى لمال ويختلف عمن أراد الأذى بغضًا للرسول صلى الله عليه وسلم ؟ أم أن إرادة القول وإرادة الأذى تتفق في حكمها مع اختلاف البواعث وتختلف في حكمها عمن أراد القول ولم يرد به الأذى؟.
كذلك من أراد بقوله أو فعله مظاهرة المشركين على المسلمين، أو التآمر مع الكافرين لاستئصال شأفة المؤمنين، أو تكثير سواد الطاعنين في دين الله ترويجًا لباطلهم ابتغاءً للعزة عندهم، أو ترجيح ولاء القبيلة على ولاء العقيدة... إلخ. هل يوجد فرق بين أن يكون باعثه على ذلك المال، أو الشرف، أو النكاح، أو التكذيب، أو الشك، أو تغير الاعتقاد، أو الحسد، أو الكبر، أو البغض للرسول والمؤمنين؟، وكذلك من رغب عن شرع الله إلى غيره، أو عدل به غيره بسبب مال، أو شرف، أو ملك، أو جاه، أو دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، هل يؤثر اختلاف الباعث في الحكم، وهل يختلف الحكم مع اختلاف الباعث إذا كان المناط واحدًا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.‍
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقال أبو سعيد الأشج: حدثنا عبد الله بن حراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ)، نزلت في عائشة رضي الله عنها خاصة واللعنة في المنافقين عامة. فقد بيَّن ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه، فإن قذف المرأة أذًى لزوجها كما هو أذى لابنها لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه.
إلى أن يقول: ولهذا ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين المنصوصتين عنه إلى أن من قذف امرأة غير محصنة كالأمة والذمية ولها زوج أو ولد محصن، حدّ لقذفها لما ألحقه من العار بولدها وزوجها المحصنين، والرواية الأخرى عنه وهو قول الأكثرين أنه لا حد عليه لأنه أذى لا قذف لهما، والحد التام إنما يجب بالقذف، وفي جانب النبيّ صلى الله عليه وسلم أذاه كقذفه. ومن يقصد عيب النبيّ صلى الله عليه وسلمبعيب أزواجه فهو منافق، وهذا معنى قول ابن عباس: «اللعنة في المنافقين عامة»، وقد وافق ابن عباس على هذا جماعة فروى الإمام أحمد والأشج عن خصيف قال: سألت سعيد بن جبير فقلت: الزنا أشد أو قذف المحصنة؟ قال: لا بل الزنا. قال: قلت: إن الله تعالى يقول: ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ )، فقال: إنما كان هذا في عائشة خاصة. وروى أحمد بإسناده عن أبي الجوزاء في هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، قال: هذه لأمهات المؤمنين خاصة. وروى الأشج بإسناده عن الضحاك في هذه الآية قال: هنَّ نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم.
إلى أن يقول: وعلى هذا فرميهن نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبيّ صلى الله عليه وسلم أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة. وبعد أن يذكر كفر ابن أُبيّ ونفاقه بهذا الفعل واستحقاقه للعن بهذا الفعل يقول: بقى أن يقال: فقد كان من أهل الإفك مسطح وحسان وحمنة ولم يرموا بنفاق، ولم يقتل النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحدًا بذلك السبب، بل قد اختلف في جلدهم. وجوابه: أن هؤلاء لم يقصدوا أذى النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يظهر منهم دليل على أذاه بخلاف ابن أُبيّ الذي إنما كان قصده أذاه. لم يكن إذ ذاك قد ثبت عندهم أن أزواجه في الدنيا هنَّ أزواج له في الآخرة وكان وقوع ذلك من أزواجه ممكنًا في العقل ولذلك توقف النبيُّ صلى الله عليه وسلم في القصة حتى استشار عليًّا وزيدًا وحتى سأل بريرة. فلم يحكم بنفاق من لم يقصد أذى النبيّ صلى الله عليه وسلم لإمكانه أن يطلق المرأة المقذوفة. فأما بعد أن ثبت أنهن أزواجه في الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين فقذفهن أذى له بكل حال، ولا يجوز ـ مع ذلك ـ أن تقع منهن فاحشة». انتهى بتصرف.

موقع الشيخ عبد المجيد الشاذلي بتصرف

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 67 مشاهدة
نشرت فى 3 مارس 2012 بواسطة maiwagieh

ساحة النقاش

الأستاذ الدكتور / وجيه المرسي أبولبن، أستاذ بجامعة الأزهر جمهورية مصر العربية. وجامعة طيبة بالمدينة المنورة

maiwagieh
الاسم: وجيه الـمـرسى إبراهيـــم أبولـبن البريد الالكتروني: [email protected] المؤهلات العلمية:  ليسانس آداب قسم اللغة العربية. كلية الآداب جامعة طنطا عام 1991م.  دبلوم خاص في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية والتربية الدينية الإسلامية. كلية التربية جامعة طنطا عام 1993م.  ماجستير في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,660,646