تعليم اللغة في ضوء مدخل الاتصال اللغوي :
إن من يمعن النظر في تراثنا العربي يجد أن تعليم اللغة في ضوء مدخل الاتصال اللغوي كان قريناً بنشأة اللغة وتداولها بين العرب، ثم المسلمين بعد ذلك، ويرى ذلك في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد، فنجد في القرآن قوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير".(الحجرات :13)
نجد في الآية الكريمة نوع من التفاعل يقتضى المشاركة والاتصال، والفهم والإفهام، ولن يتم التعارف والتفاهم من غير لغة.
وفى قوله تعالى :"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه".( آل عمران: 187)
فإن الفعل (تبيننه) يقتضي الفهم والإفهام بمعنى أن هناك نوع من التفاعل وهذا هو جوهر الاتصال , كذلك لا يكون بيان من غير لغة، فلابد من استخدام اللغة في ذلك .
وكما توجد آيات تؤكد على مهارات الاتصال، توجد آيات تؤكد على الوظيفة والحياتية، وقيمة ذلك في تحقيق فعالية التواصل، ومن أمثلة ذلك ضرب الله تعالى الأمثال في بعض الآيات عندما يكون المعنى الأصلي أعلى من رؤية الإنسان أو لم يمر بخبرته أو يستحيل عليه فهمه، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى :"واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراَ" (الكهف :45)
فلما أراد الله تعالى أن يبين قيمة الدنيا لمن أحبوها وتناهت إليهم الرغبة فيها والرضا عنها، استشهد جل شأنه بمشهد حياتي يراه معظم الناس في حياتهم اليومية، وهو مشهد يبرز قدرة الله تعالى الذي يرسل الماء، فينبت الزرع ثم بقدرته- جل شأنه- يحيل هذا النبات إلى يابسٍ متكسرٍ تلقى به الريح في مكان بعيد.
هذا مجمل القول عن القرآن الكريم، أما السنة النبوية الشريفة، فقد وردت أحاديث عن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم تؤكد على فعالية الاتصال اللغوي بإتقان مهاراته، فعن
ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تضر الله امرأً سمع منا حديثاً فأداه عنا كما سمعه فإنه رب حامل فقه غير فقيه.." أخرجه (الترمذي، وابن ماجه، وابن حيان) إن من يمعن النظر في الحديث السابق يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤكد على أهمية الاستماع الجيد فى تحقيق التواصل؛ لأن المستمع الجيد في نظره يتقن الرسالة اللغوية , ويستطيع أن يبينها للناس قولاً أو كتابة بشكل جيد وفى الوقت نفسه؛ يؤكد على أمانة النقل والقول.
ومن الأحاديث الشريفة التي تؤكد اقتناع النبي صلى الله عليه وسلم بأثر استخدام المواقف الحياتية والأمثلة الحية المستوحاه من البيئة في تحقيق فعالية التواصل والفهم والإفهام ما ورد في هذا الحديث عن راوية النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر". (رواه البخاري و مسلم )
فلما استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً حياً يراه أي إنسان في نفسه وفى حياته اليومية، سهل عليهم فهم ما كان يقصده، فبذلك يتحقق التواصل.
أما عن تراثنا العربي :
فيرى (عبد القاهر الجرجاني) أن تحقيق التواصل اللغوي بين مرسل ومستقبل لا يتم إلا إذا ألفينا الحديث منظوماً، ويقصد بالنظم هنا أن تعلق الكلمات بعضها ببعض، ويبنى بعضهاعلى بعض(46: 416).
ويعقب الباحث على ذلك: بأن عبد القاهر الجرجاني في نظريته التي أسماها (بالنظم)، والتي نلمسها في فحوى رأيه السابق أنه علق تمام الاتصال وتحقيق المعنى على سلامة البنية اللغوية (النحو) فلا يصح أن يجعل (المرسل) الفاعل مفعولاً بإبدال علامة الإعراب أو حركتها فإن ذلك يحدث لبساً في ذهن المستقبل (المستمع أو القارئ).
ولقد ورد في (البيان والتبيين) تأكيد الجاحظ على أهمية اختيار الألفاظ المعبرة عن المعنى في الكلام والكتابة في تحقيق فعالية الاتصال اللغوي بين المرسل (المتحدث أو الكاتب) والمستقبل (المستمع أو القارئ) حيث قال :"ومتى شاكل- أبقاك الله- اللفظ معناه، وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقاً، ولذلك أقدر لفقاً، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلم من فساد الكلف، كان قميناً بحسن الموقع وانتفاع المستمع، وأجدر أن يمنع جانبه من تناول الطاغين، ويحمى عرضه من اعتراض العيابين، ولا تزال القلوب به مغمورة مأهولة، ومتى كان اللفظ أيضاً كريماً في نفسه متحيزاً جنسه، وكان سليماً في الفضول بريئاً من التعقيد حبب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول وهشت إليه الأذهان والأسماع، وارتاحت له القلوب وخف على ألسن الرواة، شاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم المريض، فإذا أراد المتكلم صلاح شأن العامة، ومصلحة حال الخاصة، وكان ضمن ممن يعم ولا يحصى وينصح، ولا يفشى وكان شغوفاً بأهل الجماعة شغفاً لأهل الاختلاف والفرقة، رجعت له الحظوظ من أقطارها، وسيقت إليه القلوب بأزمتها، وجمعت القلوب المختلفة الأهواء على محبته وجبلت على تصويت إرادته، ومن أعاده الله من معرفته مضيئاً، وأفرغ عليه من صيته ذنوباً، حنت إليه المعاني وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع من كد الكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم" (5: 20).
ويستخلص الباحث مما سبق : أن الجاحظ يشترط تحقيق فعالية التواصل اللغوي بأن يلتزم المرسل (المتحدث أو الكاتب) باختيار الألفاظ المألوفة غير المجردة والتي تبعد عن التعقيد، ويجب أن يعبر بها عن معناها الحقيقي، ويبتعد عن المجاز المتكلف والصنعة اللفظية التي تصيب المعنى بالركاكة، فتحول دون وصول المعنى للمستقبل (المستمع أو القارئ).
وأخيراً يستخلص مما سبق أن تعليم اللغة في ضوء مدخل الاتصال اللغوي جذوره عربية، يجدها من يبحث عنها في تراثنا العربي، ولكن ماذا عن أصل ونشأة مدخل الاتصال اللغوي كمدخل تدريسي تم الأخذ به في تصميم مناهج وطرق تدريس اللغات المختلفة من قبل علماء المناهج وطرائق تدريس اللغات؟.
الجذور التاريخية للأخذ بالمدخل الاتصالي في تعليم اللغات :
سبق الأخذ بمدخل الاتصال اللغوي عدة مداخل أخرى في تدريس اللغات، أشارت إليها الأدبيات التربوية وأهمها:
1- المدخل التقليدي : ويركز على القواعد النحوية والصرفية للغة، حيث أن التمكن من هذه القواعد يساعد على ضبط الاستخدام اللغوي ، وخاصة القراءة والكتابة.
2- المدخل المباشر : ويعتمد على اللغة الشفوية المستخدمة في الحياة اليومية، ويهتم بالعلاقة بين اللغة والفكر، وبين الكلمات ودلالتها المستخدمة في الممارسة اليومية بشكل واقعي.
3- المدخل الإصلاحي : وهو من ثمار البنيوية ، ويستخدم لغة التواصل اليومي تحدثاً وكتابة حيث يقوم بالموازنة بين اللغة المكتوبة، واللغة الشفوية، ولغة التواصل اليومي.
4- المدخل القرائي : وهو امتداد للمدخل الإصلاحي والإطار البنيوي الذي يركز على الأداء دون النظر إلى إطاره الفكري.
5- المدخل السمعي الشفوي : ويهتم بعنصر الأداء اللغوي، حيث ينتمي إلى البنيوية أيضاً، ويهتم باللغة الشفوية الدارجة، وتقدمها على اللغة المكتوبة، فهو يهتم بالاستماع والتحدث؛ لأن – عند أنصاره- اللغة كلام منطوق ليس مكتوباً.
وهناك عدة مداخل اهتمت بالتكامل أهمها :
6- مدخل المفاهيم : ويعتمد على مصفوفة المفاهيم التي تتكون من خلال تصنيف المعارف في ضوء صفات مشتركة بينها فعلى سبيل المثال المرفوعات والمنصوبات في النحو العربي.
7- مدخل البيئة : ويعتمد على مشكلات البيئة كأساس للتكامل، ويربط بين ما يدرسه الطلاب والبيئة التي يعيشون فيها.
8- مدخل الفنون اللغوية المتكاملة : ويهتم بتعليم فنون اللغة متكاملة من حيث الاستماع والتحدث، والقراءة والكتابة والنحو عامل مشترك بين هذه الفنون في منظومة متكاملة.
وأخيراً ومن خلال تلك المداخل المتعددة، انبثق مدخل الاتصال اللغوي بعد أن أجمع معظم علماء المناهج طرائق تدرس اللغات المختلفة على أن هذا المدخل هو الذى وفق بين كل المداخل السابقة؛ لأنه أخذ من كل مدخل ما يميزه فهو يعتمد على الاستخدام الوظيفى للغة على أساس من التدرج، ويركز على تعليم اللغة من خلال مواقف حياتية اجتماعية، كما يهتم بفنون اللغة بشكل متكامل ومتوازن ويعتمد أيضًا على النظريات المعرفية في علم النفس، والقواعد التوليدية التحويلية ( لتشومسكي)، ولكن متى وأين نشأ؟
نشأته :
بعد أن أثبتت الدراسات والبحوث قصور المداخل والطرق التقليدية مثل المدخل السمعي الشفوي، والمدخل الشفوي السمعي عن تحقيق الأهداف المنشودة، ظهرت إرهاصات الأخذ بمدخل الاتصال اللغوي في تدريس اللغة الإنجليزية في بريطانيا، وذلك في أواخر الستينيات، وأوائل السبعينيات من هذا القرن.
وقد أكد ذلك كل من سميث مورو وزميله (Smith Moro 1980 (12) )،
(ايفلين براد E.Berad 1991 (8) ) بأنه تم الأخذ بمدخل الاتصال اللغوي في تعليم اللغة الإنجليزية في بريطانيا عام (1975)، وكان ذلك رد فعل لأوجه القصور والنقد التي وجهت للمداخل السابقة، التي اعتمد معظمها على نظرية البناء اللغوي كما تصورها (تشومسكى Chomsky)، والتي كانت تعتمد على صب اللغة في قوالب صماء.
هذا، وقد أشارت الأدبيات التربوية إلى عدة عوامل كان لها عظيم الأثر على سيادة مدخل الاتصال اللغوي في تعليم اللغات:
1- أثبتت نتائج الأبحاث العلمية آنذاك أن محتويات المناهج بعيدة كل البعد عن الحياة الواقعية ولم تفسر حاجات التلاميذ.
2- النقد الكبير الذي تعرضت له الأساليب الشفوية السماعية (MAO) وأيضاً الأساليب السماعية المرئية.
3- النقد الكبير الذى وجه (لتشومسكى) صاحب نظرية البناء اللغوى والتى كانت تقدم كفاءة اللغة على كفاءة الاتصال.
4- تغير واقع التعليم في أوربا، فضلاً عن زيادة التواصل والتداخل بين الدول الأوربية، مما أظهر الحاجة الماسة إلى تعليم الصغار والكبار اللغة في ضوء المدخل الاتصالي.
5- اهتمام المؤتمرات الدولية المسئولة عن اللغة بتطوير الكتب المدرسية من أجل تحقيق كفاءة الاتصال، وبالفعل تم بالجهود الدءوبة تشغيل الرابطة الدولية للغويات التي سعت جاهدة إلى تطوير المناهج.
ومن ناحية أخرى أسهم اللغوي الكبير (ويلكنز Wilkins 1972 (4) ) في تدعيم الأخذ بمدخل الاتصال اللغوي في تعليم اللغة الإنجليزية، وذلك عندما أعد وثيقة أثبت فيها أن أهم وظائف اللغة على الإطلاق هي الوظيفة الاتصالية، ثم أردفها بكتاب أسماه (المقررات القومية) عرض من خلاله محتوى لغوياً في ضوء مدخل الاتصال اللغوي وأوصى بالأخذ به في تعليم النشء اللغة.
ويستخلص الباحث مما سبق : أن بداية الأخذ بمدخل الاتصال اللغوي كان في انجلترا في بداية السبعينيات من هذا القرن، وأن هذا المدخل كان رد فعل للقصور الذي وجه لأنصار البنيوية الذين ركزوا في تعليم اللغة على القوالب والصيغ اللغوية، بصرف النظر عن تحقيق فعالية الاتصال بين المرسل والمستقبل، وقد كان لكل من المجلس الأوربي وكريستوف، ويلكنز، وجونسون اليد العليا في تدعيم الأخذ بمدخل الاتصال اللغوي في تعليم اللغة.
هذا عن النشأة التاريخية للأخذ بمدخل الاتصال اللغوي في تعليم اللغات في القرن الحالي، فماذا عن المفهوم الفلسفي لمدخل الاتصال اللغوي ؟
ساحة النقاش