ترتكز الاتجاهات الحديثة فى تدريس البلاغة على أن فنون البلاغة والأدب والنقد تشكل وحدة متكاملة لا يمكن الفصل بينها ، وأن العلاقة بينها علاقة متنامية ؛ فكل يعطى للآخر ويغذيه ، ومن ثم ينبغى القضاء على العزلة القائمة بينها ، وجعل البلاغة جزءاً من الدراسات الأدبية ، والتحليل البلاغى فى إطار العمل الأدبى الذى يمثل وحدة متكاملة ، تتىزر أجزاؤه وتتفاعل لتكوين صورة كلية ، والتفاعل مع ما يتلاءم من إجراءات الأسلوبية الحديثة ومعطيتها ، والاهتمام بتكوين الذوق الأدبى وإنضاج الحاسة الفنية ، وعرض المصطلح البلاغى من غير إسراف ولا إثقال بذكر الأقسام والأنواع التى لا داعى لها ، وربط البلاغة بواقع الناس وحياتهم ، وبأدائها لوظيفتها اللغوية فى التعبير أو الإبلاغ ، ومعالجة موضوعاتها من جميع جوانبها النفسية والوجدانية .
وقد بينت الاتجاهات الحديثة فى تدريس البلاغة مجموعة من الأسس والمهام الرئيسة التى ينبغى على معلم البلاغة إدراكها ، وتطبيقها فى أثناء معالجة البلاغة ؛ حتى تتحقق الأهداف المنشودة من تدريسها ، ويصل بالطلاب إلى إدراك أسرارها فى دراسة الأدب وفهمه وتذوقه . ومن هذه الأسس : (محمد أحمد ، 1992 ، 299 – 304) ، (جمال العيسوى ، 1996 ، 12 – 20) ، (فخر الدين عامر ، 3000 ، 161 – 166) ، (إبراهيم عطا ، 2005 ، 314- 317) ، (عبد الفتاح البجة ، 2005 ، 378 ، 381) ، (عبد الرحمن الهاشمى ، فائزة العزاوى ، 2005 ، 179 – 185) .
1- أن البلاغة فطرية فى الكلام : فهى ليس مقصورة الاستعمال على لغة الأدباء والطبقات المثقفة المتعلمة ، وإنما يمكن أن ملاحظة صور من التصوير البلاغى البارع ، وألوان من الخيال البسيط ف الأحاديث اليومية ؛ حيث تدور على ألسنة الناس – متعلمين وغير متعلمين – كثيراً من التعبيرات ذات الصور اللطيفة الجميلة المعبرة ؛ من تسبيه ، واستعارة ، وكناية ، وأمر ، ونهى ، وجناس ، وطباق ، وسجع ، وغير ذلك من فنون البلاغة . وهذا يشير إلى أن البلاغة ضرب من الأداء ، نوع من أنواع التعبير يكتسبها الإنسان بالسماع والمحاكاة والتقليد تمشياً مع مستواه اللغوى ونموه .
ويتطلب هذا الأساس من المعلم أن يستثمر ما فى اللغة الدارجة من تراكيب ذات لون بلاغى ، ويجعلها مدخلاً ومرتكزاً للدرس البلاغى فى نصوصه الأدبية الراقية ، وبهذا الاستثمار ينتقل المعلم بالطالب فى دراسة البلاغة العربية انتقالاً طبيعياً تدريجياً ، ويستطيع أن يتغلب على بعض الصعوبات التى قد تواجه الطلاب فى إدراك المقصود من الصور البلاغية ، وتيسير فهمها ، إضافة إلى أن فى استخدام النماذج العامية البلاغية ، إثارة وتشويقاً للطلاب ، وشد انتباههم إلى حقيقة تغيب عنهم ، وهى أن البلاغة مألوفة لديهم ، وهم يتعاطونها ويحسونها ، ويعيشونها واقعاً فى حساتهم اليومية ، وبين أيديهم ، فى أدبهم الحديث المعاصر ، وفى الوقت نفسه موصولة بتراثهم القديم ؛ لذا فهى ليست غريبة عليهم .
2- أن البلاغة فن أدبى ينضج بالذوق : فالبلاغة ليست علماً يقصد من دراسته إثراء المعلومات والمعارف ، أو ثقافة العقل ، وشحذ الفكر ، بل هى فن مبنى على الذوق والأحاسيس ، والغاية منه خلق الذوق وصقله وتنميته لدى المتعلمين ، ويرتبط بالأدب ارتباطاً قوياً . وهذا يتطلب من المعلم أن يعالج فنون البلاغة من خلال نصوص أدبية راقية ، ويناقشها مناقشة بلاغية جمالية ، ويتجه فى تدريسها اتجاهاً أدبياً خالصاً يكشف أسرار الجمال فى التعبير أو فى الأسلوب ، وصلة ذلك بالنفس الإنسانية بعيداً عن الفلسفة والمنطق ، والتركيز على القواعد ، والمباحث النظرية ، والتعريفات والمصطلحات ، والحدود .
3- أن الطابع الغالب على درس البلاغة هو الطابع الفنى الوجدانى ، وهذا يعنى أن السمة المميزة لدراسة البلاغة هى السمة الفنية ؛ ولذا فإن الجهد المبذول فى دراستها ينبغى أن يتجه إلى الموازنة والمفاضلة والتذوق والنقد الأدبى للنصوص الأدبية ؛ وثمرة هذا الجهد إصدار أحكام فنية أدبية تقضى بالقبح والجمال ، وليست عقلية تقضى بالخطأ والصواب . ولأن الأحكام الفنية لا تعتمد على حقائق ثابتة ولا يتفق حولها الناس ؛ فإن من الوسائل التى يمكن للمعلم بها تذليل الصعاب فى التذوق الفنى ، وتيسير إصدار الأحكام إجراء الموازنات والمقارنات الأدبية بين الأبيات والقصائد وألوان الكتابة التى تتحدد فى الغرض ، ثم توضيح ما بينها من وجوه الاتفاق واختلاف . وكذلك فالموازنات الأدبية من أنجح الوسائل التى تبرز ما فى العمل الأدبى من صور فنَّية ، وجوانب جمالية ، وما فيها من قبح أو فساد ، وإلقاء الضوء على مواطن الجدة والابتكار عند أديب وتقصير الآخر فيها ، ومن شأن هذه الموازنات تقدير القيمة الفنية وبيان مظاهر القصور أو عناصر الجمال ، وهى من أجدى الوسائل فى سرعة تكوين الذوق الأدبى .
4- النظر إلى العمل الأدبى نظرة متكاملة شاملة ؛ فالنص الأدبى بنية كلية متكاملة ، تتفاعل أجزاؤه وتتداخل ، ولا يغنى جزء منه عن جزء آخر ، وهى تتبادل التأثير والتأثر ، وتتضافر لتنتج عملاً فنياً جميلاً ؛ ومن ثم فإن النظر إلى العناصر البلاغية وتجزئتها فى معزل عن سائر العناصر الأخرى يشوه العمل الأدبى ، ويحجب مكونات أساسية فيه ؛ نفسية أو اجتماعية أو فكرية . وهذا يتطلب من المعلم أن يدرب الطلاب على أن ينظروا إلى البلاغة ضمن النص الأدبى نظرة شاملة ؛ مستعينين فى تحليلهم وتفسيرهم للنص الأدبى بما يحكمه من علاقات لغوية ودلالية ، تعمل على تماسكه وترابط أجزائه .
5- توثيق الصلة بين البلاغة والنصوص الأدبية ؛ فالأدب فن يمثل الوجه المشرق لجمال التعبير ، وفن البلاغة يوضح الأحكام والمعايير التى تحكم النص الأدبى ، ويقدم الأسس التى تبرز هذا الجمال وتلونه ؛ وبالتالى فمن غير المعقول أن ينظر إلى تدريس البلاغة بمعزل عن النص الأدبى . فتقديم الدرس البلاغى من خلال سياق النصوص الأدبية بدون تكلف أو تصنع ؛ يسهل على المعلم أن يتجه بالبلاغة اتجاهاً ذوقياُ خالصاً ، ويساعد المتعلم على فهم الأدب وتذوق معانيه ، وإدراك بعض خصائصه ، والوقوف على أسرار جماله . وهذا يتطلب من معلم اللغة أن يبتعد عن اللجوء إلى أمثلة مصطنعةٍ مبتورةٍ يُناقش من خلالها الفنون البلاغية ، واللجوء إلى النصوص العفوية الطبيعية من غير تحمل أو تصيد للمحسنات والصور .
6- فهم النص الأدبى أساس لتذوقه بلاغياً وإدراك أسراره جمالياً ؛ ويقتضى فهم العمل الأدبى أولاً فهم اللغة التى كُتب بها ، وثانيةً فهم مضمونه . وهذا يتطلب من معلم اللغة أن يناقش الفنون البلاغية بعد فهم دقيق لمعانى النصوص الأدبية ، أى أن يُخضع النصوص الأدبية ؛ أى أن يُخضع النصوص الأدبية للقراءة الجيدة ، وفهم معناها ، وتحليلها ، وتقويم فكرتها وعبارتها فنياً ، وعقد الموازنات والمقارنات ، ثم تذوقها للوصول للفن البلاغى .
7- تدريب الطلاب تدريباً كافياً على الفنون البلاغية ؛ فالغرض المنشود من تدريس البلاغة لا تحقق إلا بالمران والممارسة ، وتدريب الطلاب تدريباً كافياً شفوياً وتحريراً . وخير ما يتدرب عليه الطلاب آيات من القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية الشريفة ، ومختارات من عيون الشعر العربى ، والنثر الفنى الراقى .
8- تحقيق الترابط بين الوحدات البلاغية ، التى تتحد غايتها وتتقارب آثارها ؛ ففى فن البديع مثلاً محسنات معنوية كالتورية والطباق والمقابلة ومراعاة النظير ، ومحسنات لفظية كالجناس والسجع والازدواج ، وفى فن البيان التشبيه والاستعارة يمثلان وحدة من جهة اعتمادهما على المشابهة بين طرفين ، وفى فن المعانى أساليب طلبية كالأمر والنهى والاستفهام . فإذا أتجه المعلم إلى الربط بين وحدات البلاغبة كان ذلك أدى إلى وضوح أسرارها البلاغية ، وبيان ما اجتمعت عليه خدمة للنص الأدبى ، وهو ما يعين على القد الأدبى ، وكذلك التأليف بين العبارات . فالسجع والازدواج يعليان الموسيقا فى النص ، والثانى أرفع شأناً وأجل تأثيراً من الأول ، والتشبيه والاستعارة يقويان المشبه بما ينتقل إليه من صفات الشبه به ، والاستعارة أعظم فى ذلك وأقوى تأثيراً ، وهكذا فى كل وحدة ، خاصة الأساليب وأنواعها وعناصرها .
9- الاعتماد على الطلاب فى الاستقراء والاستنتاج ، وتجلية ما فى النصوص من فنون بلاغية ؛ تنمية لشخصياتهم الفنية ، وهذا لا يعنى غياب دور المعلم ، فهو الذى يرشد ويدير النقاش ، ويشارك فى التحليل والنقد والموازنة والكشف عن الفنون البلاغية ، ويدرب الطلاب على مراقبة أنفهم عند قراءة النص الأدبى وبعهد ، وما يعروهم من أحاسيس بالنشوة والطرب والاستحسان ، والتأمل والتفكير فى مصدر هذا الإحساس . وبالتالى فعلى المعلم أن يبتعد عن الاستئثار بالكلام ، وفرض الأحكام الأدبية على الطلاب فرضاً ؛ كى لا يحرمهم نعمة التحليل والاستنتاج ومتعة التذوق البلاغى .
10- عدم التركيز على المصطلحات الجافة ؛ من مثل : تشبيه مرسل مفصل ، أو مرسل مجمل ، أو مؤكد مفصل ....... الخ ؛ ذلك لأن التركيز على هذه المصطلحات لا يؤدى إلى تنمية الإحساس بالجمال ولا إلى التذوق الأدبى ، كما أن هذا النهج يمزق أوصال العبارات ويشوه جمالها ، ويحول البلاغة مصطلحات فلسفية نظرية لا جدوى من ورائها . ومما يرتبط بذلك أن يعمد المعلم – بقدر الإمكان – إلى دمج بعض الألوان البلاغية التى تتشابه ؛ وذلك حتى لا تكثر التفريعات والتعريفات التى شوهت بلاغتنا العربية الجميلة ، والتى هى من المفترض مفتاح الوصول إلى القيم الجمالية فى العمل الأدبى .
11- إبراز العلاقة البلاغية والجوانب النفسية والاجتماعية للأديب ؛ فالأديب عندما يؤثر لفظة أو تعبيراً أو صورة أو معنى ما فى عمل الأدبى ، فإن هنالك من العوامل النفسية والاجتماعية والشخصية التى تقف وراء هذا الإيثار . والبلاغة لم تعد ضوابط للشكل وحده ، ولكنها إشارات إلى معان وتخيلات وتصورات يدركها الأديب بحسه ؛ ولذا فعلى المعلم – حين يدرس نصاً – أن يحرص على تدريب الطلاب على اكتشاف الدوافع التى دفعت الأديب إلى هذا اللون أو ذاك من التعبير التصوير .
12- توثيق الصلة بين البلاغة وفنون اللغة وفروعها الأخرى ؛ فاللغة العربية لغة متكاملة متماسكة فى فنونها وفروعها ؛ إذ لا فاصل بين الأدب والبلاغة ، لأن الأدب أقرب الدروس إليها ، فغايتهما واحدة ، وهى تكوين الذوق الأدبى ، وصور الوحدة والترابط بين النحوى والصرف والبلاغة عديدة ، والرابطة قوية بين البلاغة والقراءة ، وبين البلاغة والتعبير ؛ فالمادة المقروءة يمكن أن تكون مادة الدراسة بعض الصور البلاغية ، وفى التعبير يمكن عن طريق البلاغة علاج ما يشوب تعبير الطلاب من عيوب ومآخذ ترتبط الذوق البلاغى ، وتدريبهم على محاكاة الأنماط البلاغية وتوظيف الفنون البلاغية عند الكتابة الإنشائية .
ساحة النقاش