مفهوم البلاغة :
تدور أصل مادة كلمة البلاغة حول وصول الشىء إلى غايته ونهايته ، أو إيصال الشىء إلى غايته ونهايته . تقول : بلغ الشىء يبلُغ بُلُوغاً وبَلاَغاً : إذا وصل وانتهى إلى غايته وتقول : أبلغت الشىء إبلاغاً وبلاغاً ، وبلغته تبليغاً ، إذا أوصلته إلى مراده ونهايته . (ابن منظور ، 1410 ، 419 – 420)
وتعرف البلاغة اصطلاحاً عند بعض اللغويين ، وبخاصة القدماء بأنها : مطابقة الكلام لمقتضى حال من يُخاطب به ، مع فصاحة مفرداته ووجمله ، وإصابته مواقع الاقتناع من العفل ، والتأثير من القلب . (ربيعى محمد ، 1989 ، 3) ، ( عرفان مطرجى ، 1978 ، 22) ، (عبد الرحمن حبَنَّكة ، 1996 ، جـ1 ،129)
وانطلاقاً من هذا حدد على الجارم ومصطفى أمين ، مفهوم البلاغة بأنها : " تأدية المعنى الجليل واضحاً بعبارة صحيحة فصيحة ، لها فى النفس أثر خلاب ، مع ملاءمة كل كلام للموطن الذى يقال فيه ، والأشخاص الذين يخاطبون " . (على الجارم ، مصطفى أمين ، 1993 ، 8)
ويرى أمين الخولى أن البلاغة : " هى البحث عن فنية القول ، وإذا ما كان الفن هو التعبير عن الإحساس بالجمال ؛ فالأدب هو القول المعبر عن الإحساس بالجمال ، والبلاغة هى البحث فى كيف يعبر القول عن هذا الإحساس " . (أمين الخولى ، 1995 ، 256)
ويعرفها بعض التربويين بأنها : " علم يحدد القوانين التى تحكم الأدب ، والتى ينبغى أن يتبعها الأديب فى تنظيم أفكاره وترتيبها ، وفى اختيار كلماته والتأليف بينها فى نسق صوتى معين " . (محمد أحمد ، 1986 ، 289)
كما يعرفها بعضهم بأنها : " مجموعة الأسس الجمالية التى يستعان بها فى الحكم على قيمة عمل أدبى معين " . (رشدى طعيمة ، ومحمد مناع ، 2000 ، 20)
والبلاغة بالتعريفين السابين تقدم جملة من القواعد المعايير التى ينبغى مراعاتها عند إنشاء العمل الأدبى ؛ حتى يكون عملاً فنياً ممتعاً ، ومؤثراً فى نفس القارئ ومشاعره ، بمثل ما هو عليه فى نفس الأديب ذاته ومشاعره .
ومن خلال ما تقدم من تعاريف القدامى والمحدثين ، يلاحظ أنها تتفق فى مضمونها على أن البلاغة فنّ يقوم على استخدام الكلام الجميل ، المؤثر فى النفس ، والملائم للمعنى . يضاف إلى هذا ، أنها عند المحدثين علمّ يقدم مجموعة من القوانين الفنية التى ينبغى أن تراعى فى الإنتاج الأدبى ، ويستهدف توضيح الطرق التى يمكن بها تنظيم الكلام ، بحيث يتيح لأفكار الأديب أن تنتقل إلى القارئ أو السامع على أكمل وجه ممكن .
وفى ضوء هذا يمكن تعريف البلاغة بأنها : " مجموعة الأسس والمعايير الجمالية التى يقوم عليها العمل الأدبى وتهدف إلى تقويمه ؛ حتى يصل إلى غايته المرجوة ، ويحقق به الأديب ما يسعى إليه من إيصال الفكرة أو المعنى ، والتأثير والإقناع ، وبث الجماليات فى النص الأبى .
وتتضمن البلاغة فنوناً ثلاثة : " فن البيان ؛ ويبحث فى كيفيات تأدية المعنى الواحد بطرق تختلف فى وضوح دلالتها ، وتختلف فى صورها وأشكالها ، وما تتصف به من إبداع وجمال أو قبح وابتذل ، وفن المعانى ؛ ويُعرف به أحوال الكلام العربى التى تهدى العالم بها إلى اختيار ما يُطابق منها مقتضى أحوال المخاطبين ، رجاء أن يكون ما يُنشئ من كلام أدبىِّ بليغاً . وفن البديع ؛ وتعرف به المحسنات الجمالية المعنوية واللفظية المنثورة التى لم تُلْحق بفن المعانى ولا فن البيان . (عبد الرحمن حبنكة ، 1996 ، جـ1 ، 139 – جـ2 ، 126 ، 369)
ولكى تتحقق الإفادة من هذه الفنون البلاغية فى تربية القدرة على الإحساس بعناصر الجمال الأدبى فى النصوص الأدبية الرفيعة ، وتربية القدرة على فهمها وتذوقها ، وعلى محاكاة بعضها فى إنشاء الكلام ، والقدرة على الإبداع والابتكار لدى الطلاب الذين يملكون فى فطرهم الاستعداد لشىء من ذلك – ينبغى أن تدرس بطريقة تحليلية تكشف عن جوانب الجمال والإبداع فى النصوص الأدبية الراقية ، وتهتم بالصورة البلاغية التى تضفى جمالاً على اللفظ والمعنى ؛ حيث يكون لها أثر فى تحريك المشااعر ، وانفعال الوجدان ، وفى خلال ذلك يلم الطلاب بالمصطلحات البلاغية من غير إسراف فيها . (عبد القادر حسين ، 1991 ، 4) ، (حسن شحاته ، 1992 ، 191)
ثانياً : أهداف تدريس البلاغة :
تحدد المصادر المختلفة أهداف تدريس البلاغة وأهميتها فى مجال تعليم اللغة العربية للطلاب فى عدة اعتبارات ، يمكن إجمالها فى النواحى التالية :
- التمكن من استخدام اللغة استخداماً يعينهم على ترجمة أفكارهم ومشاعرهم ، ونقلها إلى القارئ أو السامع بسهولة ويسر ، يستطيع معها إدراكها ، وتمثلها تمثلاً كاملاً .
- تنمية القدرة على فهم النصوص الأدبية وتذوق معانيها ، وإدراك خصائصها ومزاياها الفنية ، والوقوف على أسرار جمالها .
- الاستمتاع بألوان الأدب المختلفة من قصيدة ، أو قصة أو أقصوصة ، أو تمثيلية ، أو مقالة ؛ وذلك عن طريق فهم الخصائص الفنية لكل منها ، وإدراك ما فيها من قيم فنية وجمالية .
- تزويد الطلاب بالأدوات والمعايير ، التى تعينهم على إنتاج أدب له خاصية الإمتاع والتأثير ، وتكون لديهم ملكة النقد ؛ فيتمكنون من التمييز بين الأدباء والمفاضلة بينهم ، وتقويم نتاجهم الأدبى تقويماً فنياً سديداً .
- تبين سر إعجاز القرآن الكريم من حيث بلاغته وفصاحته ، والتمكن من التذوق الجمالى للأحاديث النبوية الشريفة ، والكلام العربى الفصي شعراً ونثراً .
- البحث فى مقومات الجمال الفنى فى الأدب ، وكشف أسرار هذا الجمال ، ومصدر تأثيره فى النفس .
- الوقوف على ضروب المهارات الفنية التى يمتاز بها الأديب ، وما يصوره من نفسيته ولون عاطفته .
- ترقية الذوق الأدبى للطلاب ؛ بما يمكنهم من تحصيل المتعة والإعجاب والسرور بما يقرءون من النماذج الأدبية ، ومحاكاتها فى إنتاجهم اللغوى تحدثاً وكتابة (رشدى طعيمة ، محمد مناع ، 2000 ، 33 – 34) ، (إبراهيم عطا ، 2005 ، 311 – 312) ، (عبد الرحمن الهاشمى ، فائزة العزاوى ، 2005 ، 175 – 176) ، (وزارة التربية والتعليم ، 2007 ، 13)
وبنظرة تأمل إلى هذه الأهداف يُلاحظ أن كثيراً منها ليس متحققاً فى واقع تدريس البلاغة حيث تتجه العناية إلى تحديد الصورة البلاغية فى المثال بدون تحديد لبلاغتها ، وأثرها فى فهم المعنى ؛ ومن ثم لا يستطيع الطلاب تذوق البلاغة ، وتوظيف ما يتعلمونه منها فى التحدث والكتابة .
وعلى هذا ، فإن تحقيق هذه الأهداف يعتمد على امتلاك معلمى اللغة العربية لمهارات تدريس البلاغة بالربط بينها وبين الأدب لاشتراكهما فى الغاية ، وهى تكوين الذوق الأدبى ، وتمكين الطلاب من توظيفها فى تذوق النصوص الأدبية الراقية ، وأن تتجه العناية فى معالجة هذه النصوص إلى تفهم معناها أولاً ، ثم يعاد النظر فيها ؛ لبيان أثر فنون البلاغة فى تحقيق الجمال الفنى وروعة الأسلوب والتأثير والإقناع ، بعيداً عن الإسراف فى إنفاق الوقت والجهد فى تفهم القواعد النظرية ، والتوسع فى المصطلحات البلاغية ، والبحث عنها والاحتفال بها وحفظها ، فهو أمر لا يجدى فى تكوين الذوق الأدبى . وقد استفاد الباحث من عرض أهداف تدريس البلاغة عند صياغة المهارات التى تضمنتها قائمة مهارات تدريس البلاغة .
ثالثاً : مكانة البلاغة بين فنون اللغة وفروعها :
من خلال ما سبق من أهداف تدريس البلاغة يتبين ما للبلاغة من أهمية وأثر فى التعليم اللغوى وغيره ، ومن مكانة متميزة بين فنون اللغة العربي وفروعها التى تمثل وحدة مترابطة ، فالبلاغة تنمى قدرة الطلاب على التذوق الأدبى للنصوص الأدبية ، واكتساب المتعة والسرور عند قراءتها ، وتمدهم بمعايير الحكم على الإنتاج الأدبى ، ومقومات الجمال الفنى ، والمهارات الفنية التى يمتاز بها الأديب ، وتعرف خصائص الأسلوب العربى الجميل ، مما يفيدهم فى ترقية إنتاجهم اللغوى تحدثاً وكتابة .
وللبلاغة علاقة لا تنفصم بفنون اللغة وفروعها ؛ فهى ترتبط بفنون الأدب والنقد والتذوق الأدبى ارتباطاً وثيقاً ؛ فالبلاغة هو قوام الأدب ، وعنصر تكوينه الأهم ، ذلك أنها لا تخرج عن دائرة المعنى ، واللفظ ، والأسلوب . والأدب لا يكون أدباً إلا إذا كانت البلاغة سمته ، ومعاييرها مطبقة فيه ، ولم ينهض فن البلاغة إلا بالكشف عن مكنون الأدب شعره ونثره ، والوقوف على سر جماله فكرة وأسلوباً ، ومبعث تحريكه للعواطف والمشاعر ؛ مما يعد معتمد الناقد الفنى إذا نقد الأدب . بالإضافة إلى هذا فإن الغاية من تدريس الأدب والبلاغة واحدة ، وهى : " خلق الذوق الأبى ، وتكوينه " ، ووسيلتها إلى تحقيقها هو الاعتماد على النصوص الأدبية الراقية ؛ ومن ثم فالعلاقة بينهما علاقة تأثير وتأثر ، وبالتالى فالربط بينهما واجب ، إضافة إلى يسره وإمكانيته . (محمد سمك ، 1998 ، 551) ، (عبد الفتاح البجة ، 2005 ، 390) ، (إبراهيم عطا ، 2005 ، 318)
والبلاغة من ناحية أخرى هى مركز النقد الأدبى ومرجعه ؛ فالنقد هو دراسة النص الدبى دراسة تحليلية فى ضوء رؤية بلاغية نقدية ؛ وذلك لتحديد وظائفه ، والقيم الفنية للعمل الأدبى ، ومستوى جودت . فالنقد الأدبى يحلل الآثار الأدبية (النصوص) معنى ومبنى ، والعناصر المكونة لها ، للانتهاء إلى إصدار حكم يتعلق بمبلغها من الإجادة ؛ وذلك فى ضوء الحقائق البلاغية قديمها وحديثها ، وفى ضوء الوظيفة العملية للغة ، والوظيفة الانفعالية لها .
أما التذوق الأدبى فهو " النشاط الإيجابى الذى يقوم به المتلقى استجابة للتأثر بنواحى الجمال الفنى فى نص ما بعد تركيز انتباهه إليه ، وتفاعله معه عقلياً ووجدانياً على نحو يستطيع به تقدير النص والحكم " . (محمود خاطر ، 1989 ، 193) ولا شك أن قدرة المتلقى على تذوق النص الأدبى وفهمه وتقديره ، والإحساس بالجمال ، والتمييز بدقة بين مزايا الأثر الفنى وعيوبه ، وإصدار الحكم عليه ، تعتمد – أساساً – على مقومات البلاغة والنقد الأدبى ؛ مما يجعل المتلقى يستمتع به ويقبله ، أو ينفر منه ويرفضه .
ومن كل ما سبق ، تتضح العلاقة الوثيقة والارتباط والتداخل بين فنون الأدب والبلاغة والنقد ؛ فالأديب ينتج فى ضوء البلاغة وأسسها المعينة له على صياغة أفكاره ، وإبراز انفعالاته النفسية ، والناقد يتناول هذا النتاج بالتحليل والتفسير وتطبيق المعايير البلاغية عليه ؛ ليضعه فى مكانه الصحيح . أما البلاغة فهى بين الأديب والناقد ، يحول بها الأول فيما ينشئه ويحكمها الثانى فيما يقومه ، ومحصلة الفنون الثلاثة التذوق الأدبى ، وإذا ما اكتملت هذه الفنون لدى الدارسين فاءت بظلالها عليهم ، ووهبتهم مجموعة من المهارات ، أهمهما :
1- القدرة على حسن الاختيار لما يقرءون ، أو يدرسون ، أو يسمعون من النصوص الأدبية .
2- التمكن من اختيار اللفظة والعبارة المناسبتين مع من يتم التعامل معه ؛ وتمكين الطلاب الموهوبين من خلق أدب راق .
3- تنمية الإحساس بالتذوق الجمالى ، واستشراف مواطن المتعة ، وتعرف مصادر الجمال فى الأدب العربى ؛ مما ينجم عنه مداومة النظر فى نصوصه الراقية ، فيقضى الدارس وقت فراغه فى الإطلاع ، والبحث ، والدارسة ، فيفصح لسانه ، ويتوقد فكره ، ويسيل قلمه . (فخر الدين عامر ، 2000 ، 162) ، (عبد الفتاح البجة ، 2005 ، 377)
وبناء على هذا ، فإن فنى البلاغة والنقد ينميان ملكة الأدب ، ويعدان الدارس لتذوق روائع المنثور والمنظوم ، ويهيئان له أساليب الحديث والكتابة ؛ بمعنى أن يصبح الدار فصيحاً نطقاً وكتابة ، قادراً على إيصال أفكاره ، وما يدوره بوجدانه فى عبارات مألوفة مستساغة ، لا سوقية مبتذلة .
هذا ، كما أن العلاقة قائمة وطيدة بين البلاغة والنحو ؛ فكلاهما من متطلبات فهم النص الأدبى وتذوقه ، وقد أكد ذلك عبد القاهر الجرجانى من خلال نظرية النظم عنده ؛ حيث يرى أنه لا يمكن فصل النحو عن البلاغة ؛ لأنهما يلتقيان فى نظم الكلم وضم بعضه إلى بعض ، كما لاي يمكن دراسة بلاغة الكلام بدون دراسة النحو ؛ لأنه " الأساس فى العلاقات التى تحكم النظم ، ففساد التركيب ناشىء عن عدم توخى معانى النحو وأحكامه بين الكلمات ، والنحو – عنده – هو قلب النظم ، فهو بالنسبة له القانون الذى ليس له وجود مادى ، ولكنه موجود وجود قوانين الحركة " . (عبد العزيز حمودة ، 2001 ، 241) . لقد أكدت نظرية النظم عدم الفصل بين النحو والبلاغة فهماً : " متلازمان كما تتلازم الفائدة والإسناد فى الكلام " . (صالح بلعيد ، 1994 ، 147)
وتبرز علاقة النحو بالبلاغة جلية فى فن المعانى . ومما هو جدير بالذكر ، أن هناك عدة دراسات تربوية أجري فى ضوء هذا الفكر ، من أبرزها دراستى أحمد عوض (1989) و (1992) ، ودراسة فوزى طه (1994)
ومما سبق تتضح أهمية البلاغة ومنزلتها بين فنون اللغة العربية ومهاراتها ، وما تؤديه من وظائف أساسية ، أهمها تمكين دراسى اللغة من القدرة على التعبير السليم والمؤثر ؛ وبالتالى تنمية الإبداع اللغوى ، بالإضافة إلى كونها إحدى الوسائل المهمة فى تحقيق اللغة لأهدافها ، باعتبارها وسيلة لابد منها لتذوق الجمال الفنى فى النتاج الأدبى .
وأخيراً ، فليس أدل على أهمية البلاغة ومنزلتها العظيمة ، التى لا تدانيها منزلة فن آخر من فنون العربية من أن المعجزة الكبرى لدينا هى القرآن الكريم ، وهو إعجاز بلاغى وبيانى فوق طاقة جميع بشر مهما وصلت بلاغتهم فصاحتهم ؛ وصدق القائل سبحانه وتعالى : ] قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً[ [الإسراء : 88]
ساحة النقاش