الموقع التربوي للدكتور وجيه المرسي أبولبن

فكر تربوي متجدد

من المسلّم به أن الإنسان يولد صفحة بيضاء، غير مطبوع عليه أيّ شيء من ملامح أيّ اتّجاه أو سلوك أو تشكيلة؛ إلاّ أنّه يحمل الاستعداد التامّ لتلقّي مختلف العلوم والمعارف، وتكوين الشخصيّة، والانخراط ضمن خطّ سلوكيّ معيّن. لذا، فإن القرآن الكريم يخاطب الإنسان ويذكّره بهده الحقيقة الثابتة، وبنعمة الاستعداد والاكتساب والتعلّم، التي أودعها الله عزّ وجلّ فيه؛ لكسب العلم والمعرفة، والاسترشاد بالهداية الإلهيّة. قال عز ّوجلّ: (( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))  ( النحل  78 ). وأمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه يترجم هذا الخطاب الإلهيّ العلميّ السامي بقوله: "… وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته ".وقد شرح العلاّمة الحلّي رضوان الله تعالى عليه مراحل تكوّن المعرفة لدى الطفل، فقال: ( اعلم أنّ الله خلق النفس الإنسانيّة في بداية فطرتها، خالية من جميع العلوم بالضرورة، قابلة لها بالضرورة، وذلك مشاهد في حال الأطفال. ثمّ إنّ الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك، وهي القوى الحسّاسة، فيحسّ الطفل في أوّل ولادته لمس ما يدركه من الملموسات، ويميّز بواسطة الإدراك البصري على سبيل التدرّج بين أبوبه وغيرهما). وبهذا الترتيب يتدرّج في التعرّف إلى الطعوم والمذاقات وباقي المحسوسات وإلى إدراك جميع ما يتعلّق بها، فهو يعرف ثدي أمّه، نظراً لعلاقته الحياتية به وحاجته إليه في التغذّي، فنراه يناغيه ويلاعبه ويداعبه أثناء رضاعته، ثمّ يتعرّف إلى أمّه قبل غيرها ممّن يحيطون به، وهكذا.ثمّ إنّ هذا الطفل يزداد فطنة وذكاء، فينتقل من إحساسه بالأمور الجزئية إلى معرفة الأمور الكليّة، مثل التوافق والتباين والأنداد والأضداد؛ فيعقل الأمور الكليّة الضروريّة بواسطة إدراك المحسوسات الجزئيّة، ثمّ إذا استكمل الاستدلال، وتفطّن بمواضع الجدال؛ أدرك بواسطة العلوم الضروريّة العلوم الكسبيّة. فظهر من هذا أن العلوم المكتسبة فرع على العلوم الكلّية الضروريّة، والعلوم الكلّية الضروريّة فرع على المحسوسات الجزئيّة. لذا، يتعيّن في ظلّ التعاليم الإسلاميّة على الأبوين التكليف في إعداد الطفل وتربيته وتعليمه منذ نشأته الأولى.

ومن الجانب الآخر، فإنّ الطفل ـ كإنسان ـ وهبه الله عز ّوجلّ العقل والذكاء، وخلق فيه ملكة التعلّم والاكتساب و التلقّي، فهو منذ أن يفتح عينيه على هذه الدنيا يبدأ عن طريق الحسّ بالتعلّم واكتساب السلوك والآداب والأخلاق، ومختلف العادات، وكيفيّة التعامل مع الآخرين.

فنجد أنّ محيط الأسرة وطريقة تعاملها وطرز تفكيرها، كلّ ذلك يؤثّر تأثيراً مباشراً وعميقاً في تكوين شخصيّة الطفل، ويتحدّد قالبها الذي سوف يتّخذه الطفل مستقبلاً، سواء كانت تلك العائلة سليمة ومؤمنة ومستقيمة وملتزمة بتعاليم الإسلام السامية، فيخرج الطفل فرداً صالحاً وإنساناً طيّباً وسعيداً، أو كانت من العوائل المتحلّلة المنحطة، فتُخرج طفلها إلى المجتمع فرداً فاسداً مجرماً شقيّاً. لذا جاء في الحديث النبويّ الشريف: " ما من مولود يولد إلاّ على هذه الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ". وقد أثبتت التجارب والدراسات العلميّة التي أجراها الباحثون والمحقّقون في مجال البحوث والتحقيقات التربويّة والنفسيّة؛ أن للتربية أثراً كبيراً ومباشراً في تكوين شخصيّة الفرد، وأثرها كذلك في المجتمع.

وقد تبيّن تطابق هذه البحوث والتحقيقات مع قواعد الرسالة الإسلاميّة المباركة وقوانينها التربويّة العلميّة، وجاءت هذه تأييداً ومصداقاً للتعاليم الإسلاميّة الحقّة في مجال التربية والتعليم؛ حيث تقول معظم الدراسات التي أجريت في العالمين الإسلاميّ والأوربي بأنّ الطفل في سنين عمره الأولى تتحدّد شخصيّته الإنسانيّة، وتُنمّى مواهبه الفرديّة، وتتكوّن لديه ردود فعل على الظواهر الخارجيّة، عن طريق احتكاكه بالمحيط الذي يعيش ويترعرع فيه، وتكتمل هذه الردود وتأخذ قالبها الثابت في حينه: ( من شبّ على شيء شاب عليه).ومسلّم أنّ للقيم السلوكيّة السائدة في محيط العائلة الذي يعيش الطفل فيه ـ سواء كانت إيجابيّة أم سلبيّة ـ دورا‍ً خطيراً ومؤثّراً في تقنين طريقة تعامله مع الآخرين.

وقد أثبتت الأبحاث التربويّة كذلك أنّ تكوّن شخصيّة الطفل منذ صغر سنّه يؤثّر تأثيراً مباشراً قوّياً في نظرته إلى نفسه بالذات، ما عاش في هذه الحياة الدنيا، فإن لمس الرعاية والمحبّة والعاطفة السليمة والحنان والاهتمام والتقدير والتشجيع والمكافأة بين أفراد أسرته؛ أشرقت صورته في نفسه و تطيّبت، ونمت قدراته ومواهبه وإبداعاته و ابتكاراته، و أصبح يشعر بإشراقة مضيئة تشعّ من ذات شخصيّته فتؤهّله للقيام بدور فعّال في حياته العائليّة، ومن ثمّ المدرسية والمهنيّة فالاجتماعيّة.

لقد أثبتت هذه الدراسات و التجارب أن50% من ذكاء الأولاد البالغين السابعة عشرة من العمر؛ يتكوّن بين فترة الجنين وسنّه الرابعة، وأنّ 50% من المكتسبات العلميّة لدى البالغين من العمر ثمانية عشر عاماً تتكوّن ابتداءً من سنّ التاسعة، وأنّ 33% من استعدادات الولد الذهنيّة والسلوكيّة والعاطفيّة يمكن معرفتها في السنة الثانية من عمره، وتتضح أكثر في السنّ الخامسة بنسبة50%.

ودراسة أخرى تضيف على هذا، فتقول إنّ نوعيّة اللغة التي يخاطب الأهل أولادهم بها تؤثّر إلى حدّ كبير في فهم هؤلاء وتمييزهم لمعاني الثواب والعقاب، وللقيم السلوكيّة لديهم ولمفاهيمها، ودورهم [ في البيت والمجتمع ] وأخلاقياتهم.

لذا، فإنّ الإسلام العظيم قد بدأ عنايته الفائقة بالطفل منذ لحظات ولادته الأولى، فدعا إلى تلقينه الشهادتين المقدّستين، وتعظيم الله عزّ وجلّ، والصلاة لذكره جلّ وعلا؛ لكي تبدأ شخصيّته بالتشكّل والتكوّن الإيمانيّ، والاستقامة السلوكيّة، والتعامل الصحيح، ولكي تتثبّت القاعدة الفكريّة الصحيحة في عقله ونفسه. فقد روي عن الإمام أبي عبدا لله جعفر بن محمد الصادق عن جدّه الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليهم أنه قال: " من وُلد له مولود فليؤذّن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليُقم في أذنه اليسرى؛ فإن إقامتها عصمة من الشيطان الرجيم ".

ولعلّ أحقّ وأثبت دليل على تحديد مسؤوليّة الوالدين في مسألة تربية أولادهم، وأهميّة التربية في الإسلام هو قوله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)( التحريم 6 ).

إن المحيط الذي يعيش الطفل فيه هو الذي يحدّد معالم شخصيّته مستقبلاً بدءاً بالوالدين؛ فمحيط العائلة فالمجتمع الكبير. فهذا كونفوشيوس فيلسوف الصين الكبير(551 ق.م ـ 478 ق.م) يقول في شأن أهميّة التربية وضرورتها من أجل حياة معتدلة سويّة: ( الطبيعة هي ما منحتنا إيّاه الآلهة، السير بمقتضى شروط الطبيعة هو السير في صراط الواجب، وإدارة هذا الصراط و تنظيمه هو القصد من التربية والتعليم).

التعليم الديني والتربية الدينية:

يفرق العلماء بين التعليم الديني والتربية الدينية حيث يعرفون التعليم الديني على أنه الدراسة المتخصصة لفريق من أبناء الأمة يتفقهون في الدين ويتعمقون في الشريعة، ويكونون طبقة العلماء المتخصصين، فهو بمثابة ضرب من التخصص كالتعلم الطبي وغيره.

أما التربية الدينية فيعنى بها تلك التربية يأخذ بها جميع المواطنين منذ الصغر ليتعرفوا على شئون دينهم ولإرساء القيم الدينية والخلقية في نفوسهم ليشبوا على طاعة الله والعمل الصالح الذي ينفعهم وينفع مجتمعهم.ولكن أحياناً يستخدم بعض المشتغلين بالتربية الإسلامية مصطلح التربية الدينية قاصدين به التربية الدينية الإسلامية والحقيقة أنه استخدام غير دقيق، فالتربية الدينية مصطلح عام يدخل تحته جميع الديانات المختلفة بينما التربية الدينية الإسلامية كما تم تعريفها مصطلح خاص بالتربية التي تتمشى ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف.

المصدر: الدكتور وجيه المرسي أبولبن
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 170 مشاهدة
نشرت فى 28 مايو 2011 بواسطة maiwagieh

ساحة النقاش

الأستاذ الدكتور / وجيه المرسي أبولبن، أستاذ بجامعة الأزهر جمهورية مصر العربية. وجامعة طيبة بالمدينة المنورة

maiwagieh
الاسم: وجيه الـمـرسى إبراهيـــم أبولـبن البريد الالكتروني: [email protected] المؤهلات العلمية:  ليسانس آداب قسم اللغة العربية. كلية الآداب جامعة طنطا عام 1991م.  دبلوم خاص في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية والتربية الدينية الإسلامية. كلية التربية جامعة طنطا عام 1993م.  ماجستير في التربية مناهج وطرق تدريس اللغة العربية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,643,619