وتتعدد استراتيجيات التفسير الأدبي للقرآن لتشمل:
استراتيجيات فهم الدلالات البلاغية للآيات القرآنية: هذه الاستراتيجيات تختص بالدلالات البلاغية في الآيات القرآنية، وهي إحدى جوانب الإعجاز في القرآن الكريم، "فإن القرآن الكريم جاء في الفصاحة بالدرجة التي لا تبارى، وهو المعجزة لكل الأمم ولكل العصور، فإذا كان العرب الذين ملكوا ناصية البيان عاجزين عن الإتيان بمثله فغيرهم أعجز، يقول أبو بكر الباقلاني: .. ولا ريب في أن القرآن الكريم أدهش العرب لما سمعوه، وذلك لما وجدوا فيه من سحر البلاغة والتأثير في النفوس، سواء المنكرة له أو المؤمنة به ولهذا حار المشركون في وصفه وخافوا من أن يستميل إليه قلوب مستمعيه فصاروا يصدون عنه وينأون ويصفونه مرة بأنه شعر، ومرة بأنه سحر" (ساسي, 2003: 26).
وعلى المعلم أن يراعي هذه الاستراتيجيات أثناء عرضه دروس التفسير، وخاصة أنها تتعلق بجانب مهم من جوانب القرآن الكريم ألا وهو جانب الإعجاز البلاغي، وقد تعدد وتنوعت هذه الاستراتيجيات، ومنها:
<!--توضيح نوع البدء بالجمل وجماليتها: فالبدء بالجملة الاسمية يختلف عن البدء بالجملة الفعلية، ويختلف عنهما البدء بالاستفهام أو الجار والمجرور والظرف. فالبدء بالجملة الاسمية للتأكيد والثبوت، والبدء بالجملة الفعلية للتحقيق أو لاستحضار الصور أو للتجدد والاستمرار والبدء بالاستفهام يكون لغرض بلاغي, وكذلك البدء بالجار والمجرور أو الظرف أو المصدر فمثلا قوله تعالى: " من كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ " (البقرة: 98) البدء بالجملة الاسمية لزيادة التقبيح: لأنها تفيد الثبات والتأكيد, وقوله تعالى: " وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ ۖ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (البقرة: 103) جيء بالجملة الاسمية بدلا من الجملة الفعلية للدلالة على الثبوت والاستقرار. (سلامة, 2002: 29), وقال الكرماني في متشابه القرآن: التسبيح كلمة استأثر الله بها, فبدأ بالمصدر في بني إسرائيل, فقال: " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الإسراء: 1) " لأنه الأصل، ثم بالماضي في الحديد والحشر، فقال: "سبح لله ما في السماوات والأرض" و "وسبح لله ما في السماوات وما في الأرض"؛ لأنه أسبق الزمانين, ثم بالمضارع في الجمعة والتغابن, فقال: " يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (الجمعة 1) " ثم بالأمر في الأعلى استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها" (السيوطي, 2004: ج3, ص. 267).
<!--الموازنة بين جماليات كل من الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي الوارد في الآيات: من الاستراتيجيات البلاغية الموازنة بين كل من الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي، وبيان الغرض البلاغي لكل منهما، فالأسلوب الخبري يأتي لعلة بلاغية، وكذلك الأسلوب الإنشائي سواء أكان استفهاما أم نداء أم أمرا أم نهيا. . . . . على سبيل المثال: قوله تعالى: " وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اُتُّخِذْتُم الْعَجَلَ مِنْ بَعْدَه وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ " (البقرة: 92) الخبر هنا يراد به التبكيت والتوبيخ على عدم إتباع الرسول صلي الله عليه وسلم، وقوله تعالى: " قُلُّ أَتُحَاجُونَنَا فِي اللهِ هُوَ رَبُّنَا وَرْبِكُمْ " (البقرة: 139) الاستفهام في الآية لم يرد الله تعالى به حقيقته بل أراد التقريع والتوبيخ (سلامة, 2002: 28-34).
<!--تعرف صور الحذف ودواعيه: الحذف له صور متنوعة ذكرت في مظانها في كتب البلاغة, وله دواع متعددة وقد استقاها البلاغيون من الأساليب القرآنية والصور الشعرية, فمثلا قوله تعالى: "يوسف أعرض عن هذا" حذفت أداة النداء للتخفيف؛ وذلك لكثرة دورانه في الكلام, وقوله تعالى: "قال فرعون وما رب العالمين, قال رب السماوات والأرض. . . " فحذف المبتدأ صيانته عن ذكره تشريفا, والتقدير: "هو رب السماوات والأرض. . . " وقوله تعالى: "ولو شاء لهداكم" قصد البيان بعد الإيهام والتقدير ولو شاء هدايتكم لهداكم" (السيوطي, 2004: ج3: 146, 145).
<!--تذوق جماليات التقديم والتأخير: من استراتيجيات فهم الدلالات البلاغية للآيات القرآنية أساليب التقديم والتأخير, وذلك من أجل دواع بلاغية متعددة, منها: عظمة المقدم والاهتمام به مثل قوله تعالى: " وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (البقرة 43) فذكرت الصلاة قبل الزكاة؛ وذلك لأهميتها, ومثله قوله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول" (التغابن: 12), ومنها أن يكون الخاطر ملتفتا إليه والهمة معقودة به وذلك كقوله تعالى: " وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ " (الأنعام: 100) بتقديم الجار والمجرور على المفعول الأول؛ لأن الإنكار متوجه إلى الجعل لله, لا إلى مطلق الجعل ومها إرادة التبكيت والتعجب, كتقديم المفعول الثاني على الأول في قوله تعالى: " وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ (الأنعام: 100), والأصل الجن شركاء, وقدم لأن المقصود التوبيخ, وتقديم الشركاء أبلغ في حصوله.
ويندرج تحت هذه الاستراتيجيات ما يلي:
<!--توضيح دلالة الأساليب الجمالية في التركيب القرآني.
<!--استنباط المقاصد الأسلوبية في الآيات القرآنية.
<!--تعرف صور الالتفات وفوائده.
<!--توضيح أساليب القصر وجمالها في الآيات القرآنية.
<!--تحديد أغراض النكرات والمعارف.
<!--تحديد أساليب التوكيد وأغراضها.
<!--بيان أثر استخدام الأفعال في أزمانها المختلفة.
<!--شرح أغراض الألوان البيانية في الآيات القرآنية.
<!--تحديد علاقات المجاز المرسل بدقة.
<!--بيان الغرض البلاغي من الإيجاز والإطناب والمساواة.
<!--إبراز قدرة الأسلوب القرآني على إيراد المعنى الواحد بطرق متعددة.
استراتيجيات الفهم التحليلي للآيات: تسهم في الفهم التحليلي للآيات القرآنية, وهذا يجعل المتعلم أكثر فهما ووعيا وتتدبرا للنص القرآني, وقد تعدت استراتيجيات هذا المحور لتشمل جميع جوانبه, وهي تسهم في باقي المحاور الأخرى, ولذا على المعلم أن يهتم بها ويطبقها في مواقفه التعليمية المتنوعة, بحيث يهتم ببيان آيات القرآن الكريم بالتعرض لجميع نواحيها, والكشف عن كل مراميها, ذكرا سبب نزولها إن كان لها سبب نزول, ويربطها بالآيات السابقة ربطا مناسبا, وذلك بأن يمضي في شرحه للقرآن مع النظم القرآني على ما هو موجود في المصحف آية، متبعا معاني المفردات والألفاظ في شرحها, ذكرا ما تضمنته من المعاني في جملها, وما ترمي إليه في تراكيبها, منقبا عن المناسبات في مفاصلها, ذاكرا أوجه الربط بين مقاصدها" ((وتد, 1997 : 44) (عاشور, 2005 : 13) .
ومن أهم استراتيجيات الفهم التحليلي للآيات:
<!--تجزئة الآيات القرآنية إلى مقاطع أو جمل تامة: لكي يساعد المعلم الطالب على الفهم الصحيح للآيات عليه أن يجزئ الآيات القرآنية إلى وحدات صغيرة، أو مقاطع، أو جمل تامة، بحيث يحلل ألفاظ كل وحدة أو مقطع أو جملة، ويقف على معانيها والروابط بينها، وأسباب ورود اللفظ دون غيره. . . . . . وهكذا. ثم يسأل المعلم التلاميذ أن يعبروا عما فهموه من الآيات كلها أو بعضها، وإذا وجد المدرس منهم تهيبا أو عدم إقبال يمكنه أن يشجعهم على ذلك بأن يوجه إليهم أسئلة تحتاج إلى إجابة قصيرة أولا من الآيات . . . . أو أن يعبر هو أمامهم عن معاني بعض الآيات بأسلوب مبسط، ثم يطلب منهم محاكاته أولا، ثم الاستمرار فيما لم يضرب لهم فيه مثالا من الآيات ثانيا، وهكذا يستمر المدرس والتلاميذ في التعبير عن الأفكار الواردة في الآيات. (الشافعي ، 2006: 191. (
<!--ربط تفسير الآيات المفسرة بموضوع السورة القرآنية: المتأمل في القرآن الكريم يجد أن لكل سورة موضوعا تدور حوله، والآيات القرآنية كلها تدور حول هذا الموضوع، (الثبيتي, 2011: 62). وعلى معلم التفسير أن ينبه طلابه إلى موضوع السورة التي هو بصددها مع تدريبهم على الربط واستنباط العلاقة بين موضوع السورة والآيات المفسرة موضع الدراسة؛ لأنه "على متدبر كتاب الله تعالى أن يضع نصب عينيه . . . التوصل إلى اكتشاف الموضوع الذي تدور حوله السورة القرآنية وهذا يستدعي منه أن يبحث بأناة وتفكير عميق بحثا كليا شاملا للسورة ويتتبع ارتباط آياتها, ومعاني جملها بهذا الموضوع, أو بما تفرغ عنه من عناصر وما اتصل به من موضوعات جزئية وأحكام وشواهد . . . وبالتتبع الطويل اهتديت –بتوفيق الله- إلى أن السورة القرآنية متعانقة الآيات والجمل في الآية حول موضوع كلي واحد, كما اهتدى آخرون معاصرون إلى هذه الحقيقة بفضل الله إذ أدمنوا النظر الثاقب في كتاب الله، واستبان لي أن مثل السورة من القرآن كمثل الشجرة من الأشجار البديعية المثمرة المشبعة بالتنسيق الجمالي وبالعناصر الجمالية المعجبة السارة الممتعة" (الميداني 1409 :27 (
<!--استنباط القيم والأخلاق والتوجيهات والأحكام من الآيات: القرآن الكريم كتاب جامع شامل لكل مناحي الحياة، فقد أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلي الله عليه وسلم هداية الناس وتهذيبهم وتربيتهم التربية الصالحة التي تؤدي إلى تقدم المجتمع ورقيه، والتناسق والتناغم بين أفراده، والارتقاء بسلوكياتهم وتصرفاتهم ومعاملاتهم حتى يعيشوا في أمن وسلام ورخاء، وعلى المعلم أن يراعي هذه القيم والتوجيهات والأحكام ويدرب طلابه على استنباطها من مظانها.
<!--الربط بين الآيات وخواتيمها: خواتيم الآيات يطلق عليها البلاغيون التذييل القرآني للآيات، وهو له قيمته في إتمام المعنى، وتوضيح الصورة، ولذا يأتي التذييل القرآني مستقرا في قراره، مطمئنا في مواضعه، غير نافر ولا قلق، يتعلق معناه بمعنى الآية كلها، بحيث لو نزع من الآية لأختل المعنى، ولما حقق الغرض المقصود من الآية، فهو في مكانه يؤدي جزءا من معنى الآية ينقص ويختل بنزعه، وقد يشتدّ تمكن التذييل في مكانه حتى إن السامع ليشعر به قبل نطقها" (عثمان، 2013: 65( ، والتذييل القرآني له علاقةً وثيقةً بما قبله من الآية، وقد يشير سياق الآية إلى تذييلها إشارة لفظية جلّية، وقد يظهر ذلك بعد بحث وتأمل، فقد يُمهد للتذييل قبله تمهيداً يأتي به التذييل القرآني ممكناً في مكانه، متعلقاً معناه بمعنى الكلام كله قبله تعلقاً تاماً، بحيث لو نزع التذييل جانباً لأختل المعنى، واضطرب الفهم، ومن أمثلة ذلك: " وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينً كَفَّرُوا بِغَيْظِهُمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقتالِ وَكَانَ اللهُ قُوَيًا عَزِيزًا " (الأحزاب: 25)، فإن الكلام لو اقتصر فيه على قوله: " وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقتالِ" لأوهم ذلك بعض ضعفاء الإيمان، وحينها يوافقون الكفار في اعتقادهم وهو أن الريح التي حدثت كانت سبب رجوعهم، ولم يبلغوا ما أرادوا، فجاء التذييل حينئذ إعلاما من الله للمؤمنين ليزدادوا يقيناً على أن الله هو الغالب، وكذا حزبه، وأن النصر بيد الله تعالى، وأن الريح ليست هي التي نصرتهم، بل هي جند من جنود الله تعالى أرسلها الله على أعدائه؛ لينصر عباده المؤمنين، ويزيدهم يقيناً بأن الناصر هو الله تعالى وحده (عثمان، 2013: 77).
ولذا يلاحظ أن خواتيم الآيات قد تلقي الضوء على المراد مما جاء فيها، وعلى المتدبر للآية القرآنية أن يبحث عن التناسب والترابط بين مضمون الآية وما جاء آخرها من قضايا كلية، إن كان في آخرها شيء من ذلك، ومثال ذلك: قوله تعالى: " وَإِمَّا يَنْزَغْنَكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزِغُ فَاِسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّه هُوَ سَمِيعُ عَلِيمُ " (الأعراف: 200)، وقوله تعالى: " وَإِمَّا يَنْزَغْنَكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزِغُ فَاِسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " (فصلت: 36). بالمقارنة بين النصين نجد أن النص الثاني زاد عن النص الأول التأكيد بأن الله هو وحده السميع العليم الذي يستجيب لم استعاذ به، وختم الآيتين دل على أن المراد من الاستعاذة ليس مجرد ذكر الاستعاذة باللسان وحده لا تدفع الإنسان نزغ الشيطان وإنما الذي ينفع هو الاستعاذة اللسانية المقرونة بصدق الاستعاذة القلبية (الميداني، 1409: 429-430).
وفى ضوء ما سبق يمكن القول: إن القارئ المتدبّر لكتاب الله تعالى يلحظ غنى القرآن الكريم عامة بخواتيم الآيات، فلا تخلو آية إلا وفيها تذييل جميل مناسب لما قبله مناسبة جميلة لا يضاهيها لفظ آخر حتى لو استبدلناه بكل الألفاظ العربية، وهذا يدل دلالة قاطعة لا ريب فيها على روعة القرآن الكريم وجماله وأسلوبه الذي جذب عقول العرب وغير العرب، وما زال كذلك وسيظل إلى يوم القيامة.
ساحة النقاش