لا تعدّ ظاهرة استحداث بحور جديدة في القول الشعري،حالة معزولة أو معمّمة كذلك، لكنها انفتاح وإن تقاعست حمى انتشاره،ودبت ببطء وتثاقل لتنعكس على النزر القليل جدا من الممارسات في هذا المضمار.
شخصيا أنا من المؤيدين لهذا النزوع الذي يدخل في جلباب التجريب ويتماهى مع عوالمه السامقة إذ تتيح نوعا من رفع التكلفة على الذات الإبداعية وتحملها على الاستكشاف واجتراح إيقاعات تتجاوب مع المعاناة الشخصية وتستوعب ألام العصر وأوبئته.
إنه انطلاق نحو مزيد من التحرر ومنح لون من الرشاقة للفعل الإبداعي داخل مستويات تحاكي ،إذا جاز لنا التعبير،متاهات النظم الخليلية و تذلل التواءات ونتوءات تكبدّ مشاقّ النسج على المنوال المعهود والمعلوم ، على سبيل الاحتفاء بمصدر وأصول القصيدة العربية،وركود نبعها العذب السلسبيل، لا تجاوزا واستنساخا وإقصاء.
ومن ثم ابتكار القوالب الموسيقية المخولة للذات إفراغ الحمولة دونما تفريط أو مجازفة بالمعنى الذهني المهتز الآيل للبروز.
ما يضمن مساحة بحرية أكبر لإيصال المعنى كاملا غير منقوص،وافتضاضا غير متكلف لجماليات موازية أو جانبية، في فضح المكنون،وبالتالي معلومة صادقة مطرّزة بلحمة من الذات، غير مشوهة تشغر حيزا من وعي التلقّي بالتزامن مع الإفساح للعنصر الفني قصد تحقيق الصدمة المذيلة بالإشباع الروحي المطلوب.
هذا يقودنا إلى الحديث عن شاعرة متألقة،ما تنفكّ تدهشنا بشعرية منجزها المخملي الهامس،المشرع على سندبادية التنقل في كوادر البوح بسيمفونية أنوثة متمرّدة،تخطّ نضالها بسلطة الأمل في الكتابة المغايرة المعادية لثرثرة تكرار الذات.
طالما تشبعت شاعرتنا أحلام الحسن بباقة من المفاهيم والآليات الإبداعية المضادة للسلبية والانغلاق،تروم التجريبية و تجدد بيعتها بلا كلل، لمعاني التحول في شموليتها و هلاميتها ونبضها البرزخي المزلزل لصميم الإنسان.
لنتأمل هذه القصيدة المعنونة ب" أصعب الخطى " ذات النفس الراقص على إيقاع بحر مستحدث،خجول النوتة،في اغترافه من التقطيع التالي: سبب ثقيل إضافة سبب خفيف مضاعف إضافة وتد مجموع مضاعف الكل مضاعف،وبالتساوي بين الشطر والعجز في أجزاء تفعيلية ثمانية،متساوقة مع بحر مستحدث كما أشرنا ،تام غير مخبون أو مطوي.
*لا تُعطي هديّةً قلبًا قد كسرتهُ
كبريتًا ملأتهُ ورمادًا أحلتَهُ
"أوجعْتَ الشّعورَ في لحظاتٍ من الأسى
ثقتي فيكَ أُتْلفتْ وكلامي رميتَهُ
لا تأتي مُحمّلًا بشكاوى النّدامةِ
قد هانَ الودادُ في لحظاتٍ وبعتَهُ
فلمَ اليومَ تبتغي جرياني لنهركَ
جرحٌ بي شكوتُهُ ألمًا قد خذلتَهُ
وجعي لن أبوحهُ لشعورٍ يبِيعُني
وضميرٍ أطالَ في مرعاهُ سُباتَهُ
خطأٌ في قلوبهم كم يغزو عقولهم
عجبًا منكَ يا أخي ذنبًا قد دعمْتَهُ
ماذا لو سُئلتَ عنهُ ماذا جوابكَ
أو ترمي هناكَ عُمركَ جمرًا جمعْتَهُ
سخروا من عقولنا أسموها تخلُّفا
عجبًا قُلتَهُ ودينًا قَدرًا أهنْتَهُ
أخطأتَ قولَ مِدْحةٍ لبقايا قذارةٍ
وخطايا فلا تعي فصلًا قد شربْتَهُ
أو صارتْ قُلوبُنا أصنامًا فلا تعي
قلبي كم جرحتَهُ حيًّا قد دفنتَهُ
أوهامٌ غرامُهم و ضَلَالٌ جُحودهم
قد باعوا حياتهم دنسٌ ما دعوتَهَ
عجْلٌ قِبلةٌ لهم بخوارٍ أضلّهم
دينًا يا أخي لهم كبشًا قد ذبَحتَهُ
قَدَرِي أصعبُ الخطى ولربّي مصيرهُ
فعليهِ توَكّلي يا من قد نسيتَهُ
بعد الاستهلال ببيت مقتبس من قصيدة سابقة،تتخذ ترنيمة الذات منحى تصاعديا ترصّعه بلاغة ومجازات وانزياحات بالجملة،التزاما بوزن مستحدث وقافية محددة، تناغما مع غرض العتاب المهيمن على جسد النص كليا.
إنه لا أحد يملك الكمال.و هو معطى بديهي، علينا أخذه بعين الاعتبار لحظة تغزو المخيلة،خواطر محرضة على صناعة ما يشبه التمثال لكائن من كان، يحدث أن نعجب به ،دون أن تتاح لنا معرفته عن كثب.
فكلما نهضت قانون النسبية، ملامح تصوراتنا للآخر ،البعيد جدا، قلّت الصدمة ،ورقّت حدة الاحتكاك بحقائق الواقع المرة فيما بعد.
ختاما ، يجوز لنا تصنيف هذا البوح المعرّي عن ذات،تحاول ألا تنسلخ عن واقع معين،لتتموقع في خانة جلد الأنا عبر عتاب القرين المعلن من خلال تنويعات اقتضتها الحاجة إلى فضاءات مكسّرة لعدد من الحواجز والقواعد،بحيث وحدها الأوزان المبتكرة تتيح الحرية الأنسب والطاقة اللازمة لتفجير المكبوت انشدادا إلى طقوس مغالبة إحباط لحظي مترسب في اللاوعي ومتولّد ــ ربما ــ عن صعوبات و سوء في التقدير منوّم لإمكانيات التصالح مع الذات والآخر.
هذه بطبيعة الحال معالجة،تثبت إلى أي مدى،النفس البشرية مكلومة و مغبونة ،حدّ العجز في كثير من الأحيان،والشلل،والعمى عما هو منوط بدق ناقوس الخطر المحدق بالعقلية المنغلقة المتقوقعة الزاهدة في اختبار دروب تحولات المعنى ومغازلة أفق الجماليات ،وإن افتراضا ووسما بخطى غير واثقة ومترددة.
ساحة النقاش