بقلم /خالدالبطاوى.
لا أظنك ستجادلنى إن قلت لك إن فيلم «أم العروسة» واحد من أجمل الأفلام الهادفة فى تاريخ السينما المصرية. ذلك الجو المصرى الصميم الذى غزله ببراعة الكاتب عبدالحميد جودة السحار.
التفاصيل الحميمة لحياة الطبقة الوسطى فى حقبة الستينيات ومعظم السبعينيات. وذلك الأب التقليدى الذى يحمل فضائل الأسرة المصرية كلها. قانع بالكفاف، يعمل فى وظيفته بإخلاص يندر أن نراه هذه الأيام، اهتمامه محصور فى أسرته، كيف ينهض بأبنائه كى يهدى الوطن رجالا صالحين ونساء فضليات. سترُ بناته له المرتبة الأولى فى سلم اهتماماته حتى لو ركبه الهم الذى قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم إن هناك ذنوباً لا يكفرها سوى هم العيال .
ومهما قيل أو يقال، تبقى الأسرة هى لبنة بناء المجتمع منذ عهود سحيقة. ذلك البناء الذى يوشك أن يتهدم فى أيامنا تلك، بعد أن صارت نسبة الطلاق مرعبة خصوصا فى الزيجات الحديثة. نصفها- تقريبا- ينتهى بالطلاق بكل ما يعنيه هذا من تشرد- معنوى ومادى- للأطفال. وكسر المرآة التى أخبرنا الرسول بأن كسرها طلاقها، حتى لو كانت مديرة أو وزيرة، لا شىء يعوضها عن دفء بيت وبهجة أطفال وحنان رجل .
حقا من فى جيلى لم يتذكر والده فى ملامح عماد حمدى المهموم بطعام أطفاله وسط غلاء كان يبدو وقتها مرعبا، ويبدو الآن مضحكا!، وعادة الأمهات فى كتابة مصروفاته فى دفتر ورقى صغير كمحاولة لترشيدالإنفاق حتى يمر الشهر بسلام وشكوى الزوج من إسراف زوجته التى تدعوه لمسك المصروف ليدرك بطولاتها المنسية، وهكذا تتأرجح سفينة الأسرة بين أمواج عاتية، لكن ربّانها يدير الدفة ببراعة حتى يصل بها إلى شط الأمان.
ورغم ضيق الأرزاق تبقى للزوج مكانته وهيبته فى نفوس زوجته وأبنائه. لا شك أن جيل آبائنا كان محظوظا بالتقدير المعنوى، الذى يفتقده رجال الجيل الحالى، كل هذا ذكّرنا الفيلم به بعد أن كدنا أن ننساه، خصوصا حينما استنوق الجمل وتحملت الزوجة مسؤولية الأسرة شاعرة بالمرارة وانعدام الأمان.
يرسم لنا الفيلم الكثير من التفاصيل. عماد حمدى، الأب المصرى التقليدى يُدبّر كل قرش من أجل تجهيز ابنته المقبلة على الزواج على نحو لائق مشرف يحفظ لها كرامتها وسط نساء عائلة زوجها المُدققات الباحثات عن عيب ما. أشاهد همه وحيرته وأمسح دمعة وأنا أتذكر أبى، وهو يغالب المرض والشيخوخة، ويُدبّر القرش فوق القرش ويسافر إلى المدن المتعددة من أجل جهاز أختى، وفرحته التى لا تُوصف حين حقق الحلم وستر البنت، وأتم المهمة المقدسة. لم يكن هذا شأن أبى وحده ولكن كان عماد حمدى فى هذا الفيلم معبرا بامتياز عن كل أب مصرى يصنع المستحيل من أجل ستر بناته.
وقتها كانت فضائل الأسرة المصرية بخير ومنظومة قيمها بعافية، والحياة تسير بالضروريات دون مبالغة أو تطلع إلى الكماليات، ولم تكن هناك مشكلة لأن الكل كانوا يقنعون بالمتاح، ولا يطالبون آباءهم بما لا يملكونه. لم تكن قد بدأت بدعة حفلات الزفاف فى فنادق الخمس نجوم. الفرح يقام فى بيت العروسة، وغالبا ما تشارك الشقة المجاورة فى استقبال الضيوف فى أريحية نادرة.
منظومة قيم الطبقة الوسطى التى تتشارك فى الأفراح والأتراح لا كهذه الأيام التى لا يعرف فيها الجار اسم جاره. كان هناك الكثير من البهجة والمرح: الشربات وقطع الجاتوه وفرح تكوين أسرة ولقاء أحباب. فرح بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، زينات معلقة قبلها بأيام وأضواء باهرة ملونة. وأحلام تستولى على خيال أطفال العائلة تبشر بالمرح الرهيب المقبل. حينما كان للأشياء طعم مختلف.
كانت الشيكولاتة حلماً مذهلاً يكمن فى ندرتها، وتعطر الفراولة الشارع كله بمجرد فتح بائعها الصعيدى غطاء سلته الخوص، فتنساب على الفور رائحتها المسكرة المحيرة لا كالفاكهة البلاستيك التى نأكلها هذه الأيام.
كان الناس يعيشون حياتهم حسب الممكن والمتاح، ولم تكن الفروق واضحة بين معظم الأسر المصرية، ولم يكن التفاخر واردا بل مدعاة للخجل، محاولة التستر كى لا تؤذى مشاعرهم. ولم يكن قد بدأ السعار الاستهلاكى الذى نصطلى بناره الآن. أقنعونا أن الحياة غير ممكنة دون استهلاك كل هذه السلع الجميلة الملونة. يجب عليك أن تركض طيلة عمرك من أجل شراء هذه الأشياء
لم يتركوا لك الفرصة لتتوقف، وتسأل نفسك: هل صرت بعدها أسعد؟ وهل أنت بحاجة لهذه الأشياء؟. والمؤسف أننا لم نكتف بتقليد الغرب فى استهلاكه بل تجاوزناه كعادة كل المجتمعات المتفاخرة غير المنتجة فى الوقت نفسه. فالغرب الغنى لا يسرف فى حفلات الزواج، ولا فى اقتناء السيارات، ولا يهدر موارده، ولا يفهم لماذا تفضل الحل الصعب المكلف على الحل الرخيص السهل الذى يحقق لك نفس النفع!.
من الأشياء التى تثير جنونى أننى كلما نزلت الشارع فى مدينتى الصعيرة (المنصورة)، وجدت الطريق شبه متوقف من تكدس السيارات. مع كثير من الحر والغبار وانفلات الأعصاب. ولما كانت جميع مدن مصر- باستثناء القاهرة والإسكندرية- صغيرة جدا، فإننى لا أفهم لماذا لا نترك السيارات ونستخدم الدراجات. هل ركوب السيارة سيضيف لى قيمة ستُخصم منى فى حالة ركوب الدراجة؟!
أليست الدراجة صحية تماما، ولا تلوث البيئة ومنعدمة التكاليف؟! ألن تكون حياتنا أسهل بمراحل خصوصا لو جعلناها بثلاث عجلات لتناسب السيدات ومن لا يجيدون ركوبها؟
والرسالة التى أود أن أنقلها فى هذا المقال أننى- وقد عشت عصرين مختلفين: عصر البساطة وعصر التكلف- لا أشعر بأى فائدة حقيقية من كل هذا الجنون الاستهلاكى، الذى يخطف الأبصار لوهلة ثم يتبين لك أنه بريق زائف فى نهاية المطاف.
السعادة يا أصدقائى خلطة محيرة، كيمياء غامضة لا ندرى عناصرها الأساسية، ولا تلك المحاليل الملونة التى تحققها إذا أضفناها معا. لكن الرضا والقناعة والحب أقرب العناصر لتحقيق هذه الكيمياء الجميلة الغامضة ..